العقدة في طهران وليست في بعبدا! – محمد قواص

قد تشبه الأزمة السياسية في تونس تلك الجارية في لبنان. تنشط داخل البلدين ديناميات سياسية متعددة. ويخضعان لجغرافيا سياسية قاسية هذه الأيام. على الحدود، حرب في ليبيا بالنسبة لتونس وحرب في سوريا بالنسبة للبنان.

تنشط داخل البلدين ورشٌ في تفسير الدستور والاجتهاد في مضامينه. يقوم الصراع بين قوى سياسية، بعضها ذي أجندات خارجية، ويتمظهر بحدة بين واجهات السلطات التنفيذية والتشريعية. والفرق الذي يمكن الاتفاق عليه بين الحالين، هو أن الهامش البيتي الجواني في مسائل الحل والتعقيد في تونس هي أرحب من تلك في لبنان. في هذا، ومنذ انفجار الاحتراب الأهلي اللبناني، وربما قبل ذلك، يفرض المزاجين الدولي والإقليمي قواعد صارمة تبيح أو تعطّل العملية السياسة في بيروت.

على هذا يصبح منطقيا فهم حالة الاستعصاء التي تحول دون تشكيل حكومة في لبنان. يدور الخلاف في تونس بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حول تعديل حكومي جزئي. فيما الخلاف في لبنان يدور (ظاهريا) بين رئيس الحكومة المكلف ورئيس الجمهورية حول تشكيل الحكومة برمتها.

والحال أن اتفاق الطائف أُبرم، ربما على عجل، لإيجاد مبرر لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). نفذت وفسرت بنود الاتفاق وفق ما يتناسب مع الوصاية السورية والمنظومة السياسية اللبنانية التي خضعت لها أو قبلت بأمرها الواقع. وفق تلك الحقيقة بدا أن “الوصاية” هي الأساس غير المدوّن داخل دستور البلاد مذاك، وأن غياب تلك “الوصاية” يحرم الطبقة السياسية اللبنانية من ديناميات إدارة الخلاف والبت القهري في تسوياته.

والثابت أن إيران، وعلى الرغم مما يمتلكه حزبها في لبنان من قوة ونفوذ، لا تستطيع أن تمارس الوصاية التي كان يمارسها نظام دمشق حتى انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005. فالوصاية السورية في لبنان، إضافة إلى ميكانيزماتها العسكرية والأمنية الذاتية وامتداداتها السياسية داخل الطبقة الحاكمة في لبنان، تمتعت بشرعية عربية ودولية (وحتى إسرائيلية وفق خطوط حمر احترمتها دمشق) محضتها بالقوة ووفرت لها السقف الذي لا يجوز للبنانيين اختراقه.

وفق هذه القواعد والشروط مارست دمشق سطوتها وأزاحت معارضيها (اغتيالا ونفيا واعتقالا وتهميشا)، فيما لم تنل إيران هذا الاعتراف (حتى الآن) على الرغم من استثمار سياسي وعقائدي ومالي وعسكري وأمني في هذا البلد منذ 4 عقود، وعلى الرغم من إمعان حزبها في استخدام القوة القهرية لفرض هيمنته على يومياته.

على قاعدة هذه المعادلة تسعى إيران للاحتفاظ بلبنان داخل خرائط نفوذها في المنطقة، خصوصا أن المنظومة الدولية، منذ فرار جنودها (الأميركيين والفرنسيين) من لبنان بعد هجمات إيرانية التوقيع (1983)، لم تبد حماسا لوضع لبنان داخل حساباتها الاستراتيجية في المنطقة (تكفي مراقبة السكون الدولي حيال سلسلة الاغتيالات منذ عام 2004 وقيام حزب الله بهجوم “7 أيار” 2008). كما أن خلو موقع الوصاية المشرّعة دوليا منذ “استقالة” دمشق يغري طهران للتطوع لشغل هذه الوظيفة.

على هذا، وفي الوقت المستقطع حتى انجلاء صورة الوضع الدولي والمقاربة التي ستنتهجها إدارة الرئيس جو بايدن في واشنطن، فإن طهران ستلوّح بكافة أوراقها الفاعلة في لبنان: أوراق القوة والقهر (اغتيال لقمان سليم)، كما أوراق القدرة على الربط والحل (تشكيل الحكومة)، كما أوراق الإمساك بمفاتيح الأمن والاستقرار بالنسبة لإسرائيل (بما في ذلك مستقبل النزاع الحدودي البحري والبري).

وفق تلك الوقائع وجب إدراج العراقيل التي يضعها الثنائي عون-باسيل لتشكيل الحكومة.

لا يمتلك تيار رئيس الجمهورية السياسي معاندة توافق سياسي داخلي واسع دون دعم حزب الله. لا يهم ما يقوله الحزب علنا حول تمسكه بسعد الحريري وموافقته على الحصة الشيعية داخل الحكومة المحتملة، ولا يهم تأكيد الحزب عدم ارتباط تشكيل الحكومة بمستقبل أي اتفاق دولي مع إيران، ذلك أن الموقف الحقيقي للحزب يُعبَر عنه في بعبدا. لا تريد طهران حكومة تتشكل وفق معايير باريس لا تتحكم بمفاصلها ولا تسيّرها وفق خططها.

ومما صدر من أجواء من العواصم التي زارها الحريري، حمل الأخير لرئيس الجمهورية دينامية إقليمية دولية لتشكيل حكومة مستقلة شرطها الأساسي أن تحظى بثقة المجتمع الدولي. وما صدر من بعبدا يقول أن الحريري لم يحمل جديدا، ذلك أن الجديد الذي يمكن أن يكون جديدا هو ذلك الذي يصدر من طهران، وهذا تماما ما تريد إيران أن تعرفه كل العواصم.

يبقى أن تقرر البيئة الإقليمية كما الدولية وظيفة وطبيعة وهوية لبنان داخل الخرائط المقبلة. واضح أن اللبنانيين ما زالوا يدفعون بالدم ثمن دفاعهم عن لبنان سيد مستقل متعدد متواصل مع المحيط وبلدان الكوكب قاطبة، وأنه في غياب إرادة خارجية واضحة حاسمة لا شيء سيردع إيران وحزبها عن القبض على البلد والإشراف على إطلالته المتوسطية.

في إطلالة الحريري في الذكرى الـ 16 لاغتيال والده عرض لرواية نزاعه مع بعبدا للإفراج عن حكومته. وفي ما رواه الرجل من عوامل تعطيل يراكمها سيد القصر الجمهوري وسط صمت حزب الله، ما يوحي بأن سرديات عون هي وحي يوحى من طهران لتقرير مصير بلد يطل على المتوسط. بالمقابل فإن إطلالة تونس على البحر الأزرق تبقى نسبياً شأنا تونسيا خالصا مهما اشتد خلاف أهل البلد وتصدّعت شروط توافقهم.

محمد قواص – سكاي نيوز عربية

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.