لبنان: من “6 و6 مكرر” إلى “عقد الذمة”

(Photo by PATRICK BAZ / AFP)

الخطاب السياسي في لبنان اليوم متخم بالعبارات التي تتظاهر وكأنها ذات مضمون متقدم، فيما هي في الغالب شاهدة على النظارات الطائفية التي ارتضاها أصحابها وإن بمزاعم جامعة. المعضلة هي أن هذه النظارات لا تصحح قصر النظر الوطني لديهم، بل هي تدفع باتجاه “إنجاز” لا يمكن التفاخر به.

“الشيعية السياسية”، كما “السنية السياسية”، من العبارات التي لا معنى لها البتة، إلا الإشارة إلى الهوية الطائفية للشخصيات السياسية المقصودة، تعبيرا عن تضخّم الوعي الطائفي لدى صاحب القول وطمعا بتعبئة القاعدة الطائفية. يراد بها نظريا أن تحاكي “المارونية السياسية”. ولكنها لا تفعل.

لم يكن الكاتب اللبناني منح الصلح موفقا عندما ابتكر مصطلح “المارونية السياسية” في ستينيات القرن الماضي. ولكنه أراد بالفعل الإشارة إلى ظاهرة متحققة، وهي أن الزعامات السياسية المارونية، إذ اختلفت وتصارعت، وشكلت الأحلاف فيما بينها، كما “الحلف الثلاثي” بين الكتائب والأحرار والكتلة الوطنية يومها، واعترضت على “العهد”، أي رئاسة فؤاد شهاب، فإنها جميعها بقيت متفقة على المحافظة على معادلة “6 و6 مكرّر” ـ والتي كانت توزّع المناصب والمراكز الحكومية على أساس ستة للمسيحيين مقابل كل خمسة للمسلمين، مع تخصيص المواقع الرئيسية (مثل رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي للطائفة المارونية).

العماد عون يفاخر بأنه منذ التوقيع لم يتعرض أي مسيحي لأية صفعة على طول المدى اللبناني. المنطق “الذمي” هو الذي يعتبر أن الإذلال هو الأصل وهو المنتظر، والنجاة منه هو الإنجاز

“المارونية السياسية”، كما فهمها أول من استعملها، هي ممارسة للسياسة على مستويين، داخلي ضمن “الطائفة” يحتمل الخلاف، بل لا يخلو منه، وخارجي على مستوى الوطن يلتزم بالإجماع (الداخلي) للمحافظة على الامتيازات.

ليس من حالة شبيهة اليوم لا في أوساط “الشيعة” ولا “السنة”. وإذا كان ثمة استمرار لـ “المارونية السياسية” في أن الساحة السياسية المسيحية اللبنانية تفتقد الطرف المهيمن، فإن الإجماع فيها، وإن تحقق، لم يعد وازنا كما في المرحلة السابقة، لا حصيلة تبديل عددي، بل نتيجة تفريط تاريخي من جانب من يدعي القوة ويسعى إلى الهيمنة وسط هذه الساحة.

كان الأجدى بمصطلح منح الصلح أن يصفّ الازدواجية في المواقف السياسية لدى الساسة الموارنة في الستينيات بما ينسبها لأصحابها، أي الزعامات الإقطاعية، وليس اعتماد صيغة التسمية الطائفية والتي تفترض كامل التماهي بين الزعامات وقواعدها. إذ في حين أنه، دون شك، كان لهذه الزعامات الإقطاعية (ولا يزال) قدر من الوزن التمثيلي، غير أن المستجد في لبنان، في الستينيات بالتأكيد وعلى مدى تاريخه كدولة حديثة، هو نمو التواصل والترابط أفقيا، على أساس طبقي ومناطقي وعقائدي ومصلحي، بما يتحدى العلاقة العمودية بين الزعامات وقواعدها.

غير أن منح الصلح، وهو صاحب التوجه العروبي المعتدل (أي الداعي إلى تغليب الهوية العربية والسير بمقتضاها سياسيا، دون الإصرار، كالعديد من العروبيين القطعيين، على تذويب لبنان في “الوطن العربي” ونفي كيانيته)، يبدو معذورا في هذا الإجمال المجحف، عند اعتبار ما أقدم عليه الحزب الشيوعي اللبناني، والذي كان يومها أقدر التشكيلات السياسية اللبنانية على تجاوز المنطق الطائفي، بحكم عقيدته وتركيبته الاجتماعية والثقافية والطبقية العابرة للطوائف. فهذا الحزب، بدلا من أن يكون الناطق الرسمي بلسان “لبنان الأفقي” الضارب لبنيان الطوائف العمودي، إذ به يتحف الجمهور اللبناني، ويثري أدبيات اليسار العالمي، بمقولة “الطبقة ـ الطائفة”، والتي تعتبر أنه، في السياق اللبناني، يتوجب النظر إلى “الطائفة المارونية” على أنها متطابقة مع الطبقة الرأسمالية والتي لا بد أن تواجه لهدف إسقاطها بغية إقامة المجتمع الاشتراكي.

مقولة “الطبقة ـ الطائفة” لم تكن وحسب هدية للزعامات الإقطاعية المارونية بل، دامت خيرات الحزب الشيوعي، كانت هبة سعيدة لكافة الزعامات الطائفية وللشرائح الاقتصادية العليا الحاصلة على حصة الأسد من الثروة، بغضّ النظر عمّا يرد في سجلات نفوس أفرادها من انتماءات دينية. فإذا كان الشيوعيون، المؤتمنون على الجدلية التاريخية والمادية العلمية، قد شخّصوا الداء بطائفة، بما يتيحه هذا التشخيص من تعبئة وحشد لصالح النخب في كل الطوائف، فإنه يكاد ألا يبقى أحد لتقديم قراءة خارج القيد الطائفي.

رغم أن الشيوعيين اللبنانيين لم يطوّروا مقولتهم هذه فيما يتعدى الطرح العام، غير أن انسجامها مع المتداول سياسيا وفكريا جاء ليؤكد القناعة بأن الطائفية حالة عضوية، أصلية وطبيعية، وإن جرى التكاذب علنا بخلاف ذلك. بل كما أن طائفة ما بوسعها أن تعبّر عن طبقة رأس المال، فإن التوجه الضمني كان أن طائفة أخرى يمكن أن تختزل العمال والفلاحين، أو “المحرومين”. أي أن منن اليسار شملت أيضا تقديم التسهيل المعنوي للتنظيم العمودي الجديد للطائفة الشيعية المستحدثة في الستينيات، ليفكّ قيد الأبوية السنية بنيويا ويستبدله بآخر ذي صناعة ذاتية، يستقطب الشرائح الشيعية، فيما يتعدى الزعماء والأعيان والعلماء، بما يتلاءم مع ما كان قد تأصّل في هذه الشرائح من قناعات أفقية ووعي طبقي.

مفهوم “التعددية الحضارية”، والذي أشهره في منتصف السبعينيات وليد فارس، وهو اليوم مقيم في الولايات المتحدة ومن أبرز الوجوه الفكرية المعنية بالشرق الأوسط فيها، وافق بدوره على الطبيعة العضوية للطائفة، ولكنه، مع بعض التوسيع لعدم الاقتصار على الطائفة المارونية، استبدل التعريف الطبقي الملتوي بآخر أساسه التجربة التاريخية والدينية. وفي حين أن “التعددية الحضارية” كانت وحسب دفعا وتأصيلا لمقولة “لبنان ذو الوجهين” والتي أرساها ميثاق الاستقلال، فإن المد الخطابي العروبي كان قد جرف “الوجهَيْنية” باتجاه فرض عروبة تأحيدية على الهوية اللبنانية، ليغدو معها الانحياز بالاتجاه الآخر، نحو التمايز والتعدد، خيانة تستوجب الاستهجان.

واقع الأمر أن لبنان يعيش دون شك حالة تعددية حضارية، مشرقية ومتوسطية. هي تعددية قائمة على التداخل لا التمايز، ومفرداتها ليست الطوائف، أي أن “خطوط التماس الحضارية” ـ إن تواجدت، بل هي أقرب إلى مساحات تماس ـ لا تتطابق مع التوزيعات الطائفية بل تقتحم الصروح الطائفية المتوهمة لتجمع تماهيات طبقية ومناطقية ومعيشية وقيمية، وإن صحّ أن هذه الاصطفافات ليست متساوية بين الطوائف.

من يدعو إلى إعادة النظر بالمناصفة ليس بالضرورة من الساعين لتحقيق وعد لبنان بأن يكون وطنا لمواطنيه، بل عادة ما يعمد إلى توظيف هذه الدعوة في سياق الاحتراب الطائفي الداخلي

ليس في هذه التعددية انتفاء لـ “عروبة” لبنان، دون الاقتصار عليها. بل ربما جاز القول، كما سبق للعروبيين أن اعتبروا أن الإسلام هو ناتج حضاري “عربي”، بالمعنى القومي للكلمة، أن العروبة هي بحد ذاتها ناتج حضاري “مشرقي”، بالمعنى المكاني للكلمة، قبل أن تنتقل خارجه بأشكالها ومضامينها المتبدلة على مدى المحيط اللغوي العربي.

العلّة في “التعددية الحضارية” التي ظهرت في السبعينيات، ثم ضمرت في الخطاب والنصوص دون أن تزول من النفوس، هي أنها جُيّرت للفرز الطائفي، وجُعلت معيارا للطارئ والأصيل، كما للأعلى والأدنى. بل هي تجيز الاستمرار بقناعات حول “الكمية” و “النوعية”، الاعتماد عليها قائم لتبرير الطبيعة المتفاوتة لنظام التمثيل السياسي في لبنان. ما لا شك فيه أن النظام السياسي في لبنان يعاني من إشكالية بنيوية خطيرة تتطلب حوارا غائبا في السعي إلى التوفيق، أو أقلّه الاعتبار، بين مبدأ “المناصفة” المسيحية الإسلامية مع واقع الاختلال العددي الكبير لغير صالح المسيحيين.

“المناصفة” ليست لبنان حكما، أي أنه يمكن لهذا الوطن أن يقوم دونها. غير أن هذا التمييز هو على الغالب كلام حق يراد به باطل. أي أن من يدعو إلى إعادة النظر بالمناصفة ليس بالضرورة من الساعين لتحقيق وعد لبنان بأن يكون وطنا لمواطنيه، بل عادة ما يعمد إلى توظيف هذه الدعوة في سياق الاحتراب الطائفي الداخلي.

كان من المفترض بصيغة “6 و6 مكرر” السابقة للمناصفة أن تهيئ لقيام لبنان الوطن لمواطنيه، لبنان المساواة. أما الواقع فهو أن الأجيال اللبنانية المتعاقبة منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 قد فشلت في بلوغ هذا الهدف. المقايضة التي أرستها “الجمهورية الثانية” هي التراجع عن “6 و6 مكرر”، مع الإقرار بما تنضوي عليه من “غبن” لـ “المسلمين”، في مقابل التخلي عن افتراض المرحلية للترتيب السياسي الطائفي، وهو افتراض كان كاذبا على أي حال. أي أن تصبح “المناصفة” ثمة ثابتة ملتصقة بلبنان، إلى أن تتبدل الظروف في مستقبل ما وتظهر إمكانية التطوير.

“المناصفة” هي بالتالي الإقرار بالفشل في تجاوز الطائفية، وتراجع، من وجهة نظر جماعية مسيحية، إلى الحد الأدنى المقبول للمحافظة على حضور سيادي للهوية المسيحية غير خاضع لأية “ذمية”، سواء بالمعنى القديم، وهي ذمية لم تخضع لها الكنيسة المارونية قط في تاريخها، أو بالمعنى الجديد، أي الانضواء تحت الحماية المتحققة بالتبعية لطرف إسلامي سمح.

“المناصفة” بدورها تترنح عند حدود الفشل. بل قد يشهد التاريخ لميشال عون ومعه “التيار الوطني الحر” بأنه قد حقق بالفعل إنجازا غير مسبوق، بأن جعل من مسيحيي لبنان “ذميين”، بعد 1400 سنة من الحرية والصمود.

“تفاهم مار مخايل” مع “حزب الله”، وما تلاه من ترتيبات، هو “عقد ذمة”. قد يكون مستوفيا للشروط الشرعية، أو غير مستوفٍ لها، ولكنه عقد “ذمة” بالتأكيد، بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإن تباين المعنى الاصطلاحي.

العماد عون يفاخر بأنه منذ التوقيع لم يتعرض أي مسيحي لأية صفعة على طول المدى اللبناني. المنطق “الذمي” هو الذي يعتبر أن الإذلال هو الأصل وهو المنتظر، والنجاة منه هو الإنجاز. صهر العماد الرئيس وولي عهده يبلغ أعضاء التيار بأن التعويل على سلاح “الرادع” هو السبيل للخلاص من تضخم اللجوء الفلسطيني والسوري. لا الجيش اللبناني، لا علاقات لبنان الدولية، لا الإرادة الوطنية. بل سلاح “حزب الله”.

لبنان، والوجود المسيحي في لبنان، بذمة “المقاومة الإسلامية” التابعة لولي أمر المسلمين في طهران. حفظه الله ورعاه. أما أنصار هذا “الرادع” فيذكّرون الجميع، بفائق الغضب لعدم الإقرار بالجميل، بأن مجاهديهم هم الذين أنقذوا اللبنانيين كلهم من القتل، واللبنانيات من السبي والاغتصاب.

عزاء أنصار الرئيس وولي عهده، وهو عزاء وهمي، هو أن معظم الطبقة السياسية، المتورطة بالفساد والراضخة بالسلاح، هي بدورها في حالة ذمية صريحة إزاء صاحب قوة الأمر الواقع

الحقائق على الأرض طبعا مختلفة. لا “الدولة الإسلامية” شكلت يوما خطرا وجوديا للبنان، ولا “حزب الله” دخل الحرب السورية لمواجهتها، بل جلّ من قتلهم ورحلّهم إلى لبنان من السوريين لا يمتون إليها بصلة، ولا اللبنانيون ولا اللبنانيات بحاجة إلى حماية من أرسل لتحقيق أغراض لا علاقة لوطنهم بها، ويوم تكون الحماية مطلوبة فإن اللبنانيين واللبنانيات يتولون أمرهم وأمرهن بأنفسهم وأنفسهن، وليس من شكر متوجب لـ”حزب الله”، بل الحزن وحسب لمن ضحّى به هذا الحزب من شباب لبنان ومن آذاه من أهل سوريا.

عزاء أنصار الرئيس وولي عهده، وهو عزاء وهمي، هو أن معظم الطبقة السياسية، المتورطة بالفساد والراضخة بالسلاح، هي بدورها في حالة ذمية صريحة إزاء صاحب قوة الأمر الواقع. بل هو يقتل منها من يشاء وليس من يعاقبه، أو من يتجرأ عليه.

“المناصفة” اليوم صورية وحسب. ومن شأن الطبقة السياسية أن تتابع التلهي بالتمسك بوزارة التوقيع الثالث، والتهويل بالدولة المدنية النافية للمناصفة، أو بتسجيل النقاط بمنع توظيف حراس الغابات لانعدام الأعداد المتساوية، ولا همّ إن احترق ما تبقى من غابات لبنان.

لبنان، في خضمّ أزماته الوجودية حقيقة، الاقتصادية والبيئية والإدارية والمعيشية، بحاجة ماسة إلى حوار يتجاوز الذميين من الطبقة السياسية، ويشرع بتصور واقعي للهوية والتاريخ اللبنانيين، بما يبدد إمكانية توظيف المصطلحات المسيئة للمزيد من الإضرار بالمستقبل الوطني.

حسن منيمنة – الحرة

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.