الموت من أجل حياة أفضل: على متن “قوافل الموت” اللبنانية إلى أوروبا

لم يكن عام 2020 طبيعيا على البشرية جمعاء، لكنه كان عاما قاتلا بالنسبة للشعب اللبناني الذي مات حرفيا بجميع الوسائل، مات حريقا وغرقا، مات ألما وجوعا ومرضا وانكسارا في دولة متآكلة يجري تفكيكها بكل ما للكلمة من معنى.

مأساة تتلوها المأساة في دولة يتناهشها حكامها من جهة ويقدمون شعبها قربانا لأسيادهم “شرقا” من جهة اخرى، وذلك لتحقيق المزيد من المكاسب عبر دماء اللبنانيين، من خلال محاربتهم بلقمة عيشهم وسرقة مقدراتهم لمصلحة أنظمة شريكة بقتل اللبنانيين على مدى سنوات.

عام من الجنون يقترب من نهايته، بينما لبنان من قبله انتهى، فمن يجرؤ على الأمل في دويلة “المافيا” ؟ لا أحد، وحده الهروب سيد الموقف، وهو الأمل المشروع بالنسبة لفئة من اللبنانيين وغير اللبنانيين ممن قرروا الهروب عبر البحر باتجاه أوروبا، كآخر محاولة للعيش، وإلا .. ليكن الموت غرقا.

وكتب موقع “ذي اندبدنت” مقالا مفصلا ترجمه موقع “صوت بيروت انترناشونال” حول المأساة التي ألمت باللبنانيين إثر غرق ذويهم في “قوارب الموت” بحثا عن حياة خارج جمهورية الموت اللبنانية، وجاء في المقال ..

في اليوم الثالث لضياعهم في البحر ، وعندما بدأوا في محاولة تصفية مياه البحر باستخدام حفاضات الأطفال ، تطوع محمد 23 عاماً ، للسباحة إلى اليابسة والبحث عن المساعدة.

وكان قد توفي آنذاك طفلان، رجل مصاب بالسكري وامرأة نتيجة لهذه الظروف المتدهورة.

مع عدم توفر أي طعام أو ماء ، كان الوقت ينفد للركاب الـ 40 المذعورين المتبقين ، الذين دفعوا جميعهم أكثر من 1000 دولار (740 جنيهاً إسترلينياً) للصعود على متن القارب المتهالك من لبنان إلى قبرص بحثاً عن حياة أفضل.

في حين أنّ المهرب ، الذي أخذ حقائبهم ومؤنهم، واعداً إياهم بملاقاتهم بقارب أكبر ، قد اختفى.

وهكذا ، عائماً بلا هدف على البحر الأبيض المتوسط دون أي وسيلة للتنقل إلى بر الأمان ، وافق محمد ، مساعد متجر سابق ، وأربعة شبان آخرين على الذهاب إلى الشاطئ في محاولة أخيرة لإنقاذهم.

وقال سمير ، شقيق محمد الأكبر ، من مدينة طرابلس في شمال لبنان حيث تغادر القوارب:” لقد أعطى الماء والتمر الذي كان معه للأطفال”.

“لا أحد يعرف ما حدث بعد ذلك.”
“ظهرت جثة أخي على شاطئ صيدا، في جنوب لبنان، في حين تم العثور على جثة صديقه في مياه عكار.
“لم يتم تحديد موقع الشبان الآخرين أبدا”.سمير ، فقد شقيقه في قوارب الموت

سمير ، فقد شقيقه في قوارب الموت

وعثر على الناجين بعد ستة أيام في 14 أيلول من قبل قوة بحرية تابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام. فقط 37 شخصاً ،من بينهم خمسة أطفال ، نجوا من أصل 50 كانوا على متن القارب. كان العديد منهم على وشك الموت وكان واحد على الأقل فاقداً للوعي.

مثل مئات المواطنين اللبنانيين والسوريين الذين حاولوا عبور البحر من طرابلس هذا العام ، شرح الناجون كيف دفع كل منهم لمهرب محلي ما بين 5 و 8 ملايين ليرة لبنانية، والتي تساوي بين 3300$ – 5300 على سعر الصرف الرسمي أي ما يقارب 625 $ – 1000 في السوق السوداء.

ثمّ وضعهم في قارب خشبي صغير في البحر، وأخذ جميع أغراضهم ثمّ وعدهم بالعودة مع سفينة أكبر لتخطي ما تبقى من الرحلة المحفوفة بالمخاطر.

“كان لدى أم أحد الأطفال على متن القارب بعضاً من مسحوق الحليب ، لذلك حاولوا البقاء على قيد الحياة على بضعة ملاعق من ذلك في اليوم. أولئك الذين ماتوا ، بما في ذلك الأطفال ، تمّ إلقاؤهم في البحر” ، قال سمير وهو ينهار من البكاء. العديد من الجثث جرفت على الشاطئ.” لقد كانت رحلة الموت.”

لم يخبر محمد ، الذي يعيش في طرابلس ، أفقر مدينة في لبنان ، عائلته بأنه يحاول الوصول إلى قبرص.
كان يعمل في متجر ملابس زارا لكنه فقد وظيفته خلال الانهيار المالي في لبنان الذي شهد هذا العام خسارة العملة المحلية 80 في المائة من قيمتها ، ورفع أسعار المواد الغذائية أربعة أضعاف وأدى إلى انزلاق أكثر من 50 في المائة من البلاد تحت خط الفقر ، وفقاً للأمم المتحدة.

ومثل العديد من الشباب المحاصرين في لبنان ، كان يأمل محمد أن يعني الوصول إلى أوروبا العثور على عمل وإنقاذ عائلته من الفقر المدقع.محمد، الشاب الذي تطوع ونزل للبحر محاولا مساعدة الناس على القارب لكنه لم يعد.

محمد، الشاب الذي تطوع ونزل للبحر محاولا مساعدة الناس على القارب لكنه لم يعد.

وبدأت الأزمة الاقتصادية المدمرة في لبنان في تشرين الأول الماضي بعد عقود من سوء الإدارة والفساد ، مما أدى إلى اندلاع ثورة. في حين أدى وصول جائحة الفيروس التاجي في مارس إلى تفاقم الأمور.

وفي آب ، فجرت آلاف من الأطنان من المواد المتفجرة التي كانت متواجدة في ميناء بيروت، مساحات شاسعة من العاصمة ، مما أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة آلاف آخرين.الأمر الذي أدى إلى أكثر من ربع مليون شخص بلا مأوى وتسبب بأضرار بقيمة مليارات الدولارات.

كل هذا دمر الاقتصاد و الأسر. في طرابلس ، دفع ذلك المئات، مثل محمد، إلى ركوب القوارب إلى أوروبا لمحاولة البحث عن حياة أفضل.

من الصعب الحصول على إحصاءات دقيقة حول عدد الأشخاص الذين استطاعوا العبور بالإجمال ، لكن الأمم المتحدة تقول إن الأرقام ارتفعت هذا العام.

أخبرت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة صحيفة الإندبندنت أنه منذ منتصف عام 2020 حاول 712 شخصاً العبور في حين توفي 13 شخصاً أو فقدوا أثناء محاولتهم العبور. وتعتبر هذه زيادة كبيرة عن الـ 490 المعروف أنهم سافروا في عام 2018 و 270 المعروف أنهم قاموا بالرحلة في عام 2019.

وقالت ليزا أبو خالد ، المتحدثة باسم المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ، إنه من الواضح أن الرحلات اليائسة “يقوم بها أشخاص لا يرون أي وسيلة للبقاء في لبنان حيث أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي يزداد سوءاً باستمرار”.

يحاول معظمهم عبور البحر الأبيض المتوسط إما عبر أن يتشاركوا معاً لشراء قارب خشبي، يعرف محلياً باسم فلوكة ، أو أن يدفعوا للمهربين ما لا يقل عن 1000 دولار بالليرة اللبنانية التي تنخفض قيمتها بسرعة، وذلك لتجاوز قوات الأمن ، والإبحار خارج الأراضي اللبنانية وإلى المياه القبرصية.

وبما أن التجارة أصبحت أكثر ربحاً ، أصبح المهربون أكثر قسوة ووحشية. وهم غالباً ما ينحدرون من عائلات محلية ذات نفوذ يطلق عليها سكان طرابلس لقب “المافيا”.

واتهم إبراهيم ، البالغ من العمر 38 عاماً ، وهو نجار ومتظاهر عاطل عن العمل، باع جميع أدواته للمساعدة في دعم انتفاضة 2019 ، المهربين برشوة أعضاء فاسدين في قوات الأمن للسماح لقواربهم بالمرور.

على الرغم من المخاطر يقول إبراهيم إذا لم تنجح جهوده للسفر بشكل قانوني إلى أوروبا، فسوف يبيع كل ما تركه لدفع ثمن المرور على متن قارب.إبراهيم

إبراهيم

وقال والد لطفلين لصحيفة” ذي إندبندنت”: “كل أسبوع تذهب القوارب إلى قبرص”.

“الوضع أسوأ من المأساوية. نحن لا نعيش في بؤس ، ولكن في الجحيم.”

ووفقاً للأمم المتحدة ، في حين أن عدداً متزايداً من اللبنانيين يستقلون القوارب ، فإن غالبية الأشخاص الذين يعبرون إلى قبرص هم من اللاجئين السوريين الذين تحملوا وطأة الأزمات المالية في لبنان وسوريا.

وقالت نادية هاردمان باحثة اللاجئين في هيومن رايتس ووتش لصحيفة الإندبندنت إن ما يقارب من 90 في المائة من اللاجئين السوريين المقدر عددهم بـ 1.5 مليون لاجئ في لبنان يعيشون الآن في فقر مدقع. وقالت تسعة من أصل عشرة أسر تقترض المال من أجل الغذاء.

محمد غندور ، 37 عاماً ، المتزوج من رنا وهي لاجئة سورية ، استقل قارباً في أواخر آب. تعيش العائلة مع والديه، اثنا عشر شخصاً في غرفة قذرة واحدة ، على شاطئ طرابلس. ليس لديه عمل وقد واجه مشكلة في تسجيل أطفاله في المدرسة، فطفله الأكبر الذي يبلغ من العمر 14 عاماً لم يذهب إلى المدرسة منذ أن كان عمره 9 سنوات.

اشترى محمد، مع بعض الأقارب والجيران زورقاً متهالكاً وقاموا بتنزيل خرائط البحر الأبيض المتوسط على هواتفهم المحمولة للتنقل في المياه، ولكن في منتصف الطريق اختفت إشارة الهاتف وهكذا مات العشرات على متن القارب في البحر عندما ضاعوا.

“كان الأمر فظيعاً ، كان طول القارب حوالي 8 أمتار وبقينا في الماء لمدة ليلتين. لقد لوّحنا إلى العديد من السفن لكنهم تجاهلونا. كنا على وشك البدء في شرب مياه البحر عندما حصلنا فجأة على إشارة وتمكنا من العثور على قبرص”.
“لن تجد أب في العالم يأخذ سبعة أطفال عن طريق البحر إذا لم يكن يائسا”محمد غندور

محمد غندور

على الرغم من حقيقة أن زوجته رنا هي لاجئة غير مسجلة، تمّ ترحيل الأسرة بعد احتجازها في مخيم في نيقوسيا لمدة 24 ساعة إلى بيروت من قبل السلطة القبرصية.

وقال” تخيل، أن تموت تقريباً للوصول إلى أوروبا ولكن بعد يوم واحد فقط تجد نفسك مرة أخرى في طرابلس ” ، مضيفاً أنه سيحاول العبور مرة أخرى في الصيف.عائلة محمد غندور

عائلة محمد غندور

قالت هيومن رايتس ووتش إنه خلال الأسبوع الذي سافر فيه محمد ، تم دفع أكثر من 200 مهاجر ولاجئ وطالب لجوء من لبنان بإجراءات موجزة أو التخلي عنهم أو طردهم أو إعادتهم دون أن تتاح لهم الفرصة لتقديم طلبات اللجوء.
وذكرت الجمعية الحقوقية أيضاً أن ضباط الشرطة البحرية القبرصية اليونانية قد تعدوا بالضرب على المجموعات في بعض الحالات.

وقد أوضحت السلطات في قبرص أنها لن تقبل القادمين عن طريق القوارب. ونقلت صحيفة قبرص ميل عن وزير الداخلية نيكوس نوريس قوله: “نحن نعلن بشكل لا لبس فيه أننا لم نعد قادرين على استقبال أعداد إضافية من المهاجرين لمجرد أن مرافق الاستقبال لم تعد كافية حرفياً وأن قدرات البلاد قد استنفدت.”

تمكنت مجموعة صغيرة فقط ممن كانوا على متن قارب محمد من تجاوز الحراس والبقاء في قبرص ولكن دون أن يتمكنوا من التقدم بطلب للحصول على اللجوء أو تصاريح العمل. وبحسب قولهم إنّ الوضع هناك مماثل للوضع في لبنان.

وقال خليل ، 25 عاماً ، أحد الذين كانوا على متن قارب محمد الذي لا يزال في قبرص: “خاطرنا بحياتنا لاستبدال الوضع الرهيب السابق بوضع جديد أسوأ”. إنه يعلم أنه سيعود إلى لبنان قريباً.

“ليس لدينا حقوق ، لا يمكننا العثور على عمل أو القيام بأي شيء. وأضاف” إنها كارثة ” ، واصفاً القوارب بأنها “قوافل الموت”.

كان من المقرر أن تتحدث صحيفة الإندبندنت إلى رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب حول هذه القضية والمشاكل الأخرى العديدة التي تعاني منها البلاد. ولكن في 11 ديسمبر اتهم بالإهمال بسبب انفجار 4 آب وتوقف مكتبه عن الاستجابة للمكالمات.

وقال رئيس بلدية طرابلس ، رياض يمق ، أنّ مكتبه يشعر بقلق بالغ إزاء ارتفاع مستويات الفقر في طرابلس: يعيش أكثر من 70 في المائة من المدينة الآن تحت خط الفقر. وكانت البلدية قد طرحت حزمة إغاثة مالية بقيمة 2 مليون دولار ل 40,000 أسرة خلال جائحة كورونا. لكنهم اضطروا إلى دفعها بالليرة اللبنانية بسعر الصرف الرسمي البالغ 1500 ليرة مقابل الدولار.

وهو ما يعادل 75,000 ليرة فقط للشخص الواحد والتي ، على سعر السوق السوداء الحالي، يوازي أقل من 10 دولارات للشخص الواحد. قدمت الحكومة مساعدة إضافية بقيمة 400,000 ليرة لبنانية (حوالي 50 دولاراً في السوق السوداء)لـ 10,000 من أسوأ العائلات.

ولكن منذ ذلك الحين ، لم تكن هناك أموال أخرى ، وبالتالي لا يوجد سوى القليل الذي يمكن أن يفعله مكتب رئيس البلدية.
وقال رئيس البلدية يمق لصحيفة “ذي إندبندنت”: “لم تدعم الحكومة المركزية طرابلس بشكل صحيح ولم تمنحنا أموالاً أخرى”.

“أنا قلق للغاية بشأن العام المقبل. لا توجد مؤشرات للأمل أو أي خطط لطرابلس.” وأضاف أنه يخشى أن يذهب المزيد من الناس عبر القوارب إلى قبرص في 2021. وإذا حدث ذلك ، فإن العديد من العائلات مثل عائلة سمير ستدفع الثمن.

وقال سمير ، وهو يظهر صوراً لأخيه محمد وهو يبتسم مع أصدقائه:” تقع المسؤولية في نهاية المطاف على عاتق السلطات الفاسدة التي تخلت عن الجميع في لبنان”. “كل ما أراده أخي هو مستقبل أفضل لعائلته. ودفع ثمن هذا الحلم بحياته.”

ترجمة صوت بيروت انترناشونال

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.