الأباتي الهاشم ترأس رتبة سجدة الصليب في جامعة الروح القدس: نقدم صلاتنا على نية خلاص لبنان

ترأس الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأب العام نعمة الله الهاشم رتبة سجدة الصليب في جامعة الروح القدس- الكسليك، بمشاركة السفير البابوي المطران جوزيف سبيتيري، وفي حضور سكريتير السفارة البابوية المونسنيور جوزيبيه فرانكوني ورئيس الجامعة ورئيس الدير ومجمع الرئاسة العامة وجمهور الرهبان. خدمت الرتبة جوقة الإخوة الدارسين في دير سيدة المعونات في جبيل ودير سيدة طاميش، بقيادة الأب أنطوان طحان.

الهاشم

وبعد القراءات وتلاوة الأناجيل الأربعة، ألقى الأباتي الهاشم عظة قال فيها: “يبقى حدث الصلب والقيامة الحدث المحوري لتاريخ الكون والبشرية، نقطة الارتكاز بين الخلق الأول في البدء والخلق الثاني في المنتهى. انتظرته الخليقة والبشرية منذ بدايتها، وإلى تحقيقه شدت أشواقها، ومنه اكتسبت زخم وشرعية الانطلاق نحو الولادة الجديدة في الخلق الثاني. شموليته تطال الواقع الموجود في كل زمان ومكان، تطال الماضي والحاضر والمستقبل، كما تصل إلى كل الأمكنة في تشعباتها الجغرافية المتنوعة”.

أضاف: “هذا الحدث يطال واقعنا الحالي، هنا والآن. يجمعنا لإحياء ذكرى الخلاص والاشتراك في مفاعيلها، يدخل لحظتنا الحاضرة في زماننا ومكاننا، يوم الجمعة في الثاني من نيسان سنة 2021، في جامعة الروح القدس في الكسليك وفي كل بيت ومكان يشارك في هذا الاحتفال أو يقيم الذكرى، ويجذبنا إلى اللحظة التاريخية التي تم بها منذ نحو ألفي سنة على مقربة منا في أورشليم القدس. لكن هذا الحدث، بما يحمله من خلاص وتغيير للأمر الواقع، يحفز الشر، فيلتقط أنفاسه مستنفرا ومستعرضا قواه، رافضا الاستسلام والتخلي عن العبودية التي يفرضها على الخليقة والإنسان. فيظهر في عز جبروته وكأنه المسيطر على المشهد وله الانتصار”.

وتابع: “أول ما يستوقفنا على الجلجلة أمام الصليب هو مشهد انتصار الشر: يسوع البريء محكوم ظلما بالموت صلبا، الحق مذبوح بشهادة زور، داعية السلام ومحبة الجميع حتى الأعداء يعلق على خشبة الحقد والكراهية، مطعم الجياع وشافي المرضى ومناصر الفقراء والمظلومين والمهمشين يقتل بتآمر المقتدرين مع الشعب الذي يفتديه. نشعر أننا في زمان سيىء، وتصل إلى آذاننا، آتية من الأمس من بستان الزيتون، ترددات الكلمات التي قالها يسوع للآتين إليه من الأحبار وقادة حراس الهيكل والشيوخ: “ألص أنا فتخرجوا علي بسيوف وعصي؟! كنت في الهيكل معكم كل يوم، وما تطاولت يدكم علي. إنما الساعة هي ساعتكم، والسلطان سلطان ظلام”. فنتيقن أننا في زمن السوء ونتذكر ما أوحى به الله على لسان عاموس في الآية الكريمة: “لذلك يسكت العاقل في هذا الزمان، لأنه زمان سوء” (عاموس 13:5). بدل الصمت أمام هول الواقعة وعظمتها وبدل السكوت الواجب على العاقل في زمن السوء، تطرق مسامعنا وشوشات وأقوال خدام الشر وأدواته والمتواطئين معه، أو بأفضل الأحوال، الجهلة الذين لا يدرون أن بإمكان الشر استعمال تصاريحهم في زمنه لصالحه ضد مصالحهم. يفتتح يهوذا، أحد التلاميذ حفل النشاز، فينطق خيانة، مدفوعا بوسوسة مباشرة من الشيطان الذي أغواه بوهج الفضة، فيبدأ ب”ماذا تعطونني كي أسلمه لكم؟” ويكمل ممعنا بخيانته مسلما المسيح بقبلة وبإلقاء سلام، مرورا بتجاهل العارف: أأكون أنا يا رب؟”.

وأردف: “والتلاميذ الآخرون الخائفون، يرددون تجبرا، كلام بطرس: “يزلون جميعا بسببك وأنا لن أزل: لن أنكرك ولو اضطررت إلى الموت معك”، غير مقدرين جسامة الموقف وقدرتهم على الصمود والمقاومة. يتبعهم الأحبار والرؤساء وشيوخ الشعب، أي المسؤولون الدينيون والمدنيون، فينطقون تآمرا وخبثا، مدفوعين بظاهر دفاعهم عن دينهم وخوفهم على الشعب، وبباطن خوفهم على مواقعهم وامتيازاتهم ومن الشعب. ويستعجل القضاء إصدار حكمه فينطق ظلما وزورا وبهتانا، مستندا الى شهادات زور والى ظاهر التزام بأصول المحاكمات. وينضم بيلاطس، ممثل السلطة الخارجية، إلى قافلة الثرثارين، مفاوضا الجميع: يسوع والرؤساء والأحبار والشيوخ والشعب، فينطق لامسؤولية وانتهازية واسترضاء للشعب بالصحيح سياسيا، غاسلا يديه من واجبه بإحقاق الحق وحماية العدل. أما الشعب، الشعب الذي من أجل خلاصه تجسد يسوع، وجال بينه مبشرا بالسلام والمحبة والخلاص، صانعا الخير إلى كل فرد منه، الشعب الذي من أجله ومن أجل خلاصه سار على طريق العذاب والألم والموت، هذا الشعب شده الحنين إلى أسياده القدماء، إلى مستغليه ومستعبديه، فصاح سطحية وسبابا وسفاهة وشماتة وعقوقية، مدافعا عن المجرم وظالما البريء، صارخا بثقة الجهال: اصلبه، اصلبه… حتى الطبيعة نطقت نشازا فحل الظلام في منتصف النهار وزلزلت الأرض”.

واعتبر الهاشم أنه “وسط هذا الصخب والضجيج، تلمح عيوننا بعض العقال الشجعان العاملين بصمت: المرأة التي دهنت رأس يسوع بالعطور قبل خيانة يهوذا، وسمعان القيرواني الذي حمل مع يسوع الصليب على طريق الجلجلة، ويوسف الرامي الذي هيأ القبر لدفنته، وعلى رأس هؤلاء نرى مريم أم يسوع ورفيقاتها مع التلميذ الذي يحب. الجامع المشترك بين جميع الثرثارين في زمن السوء هو الخوف والكذب والهروب من المسؤولية، والجامع المشترك بين الصامتين في الزمن ذاته هو الشجاعة والصدق والعمل بإخلاص”.

وشدد على أنه “وحده يسوع المعلم عمل وتكلم. علمنا أنه يمكننا لا بل يجب علينا العمل الجدي في زمن السوء، فأنجز أهم أعماله فيه، أسس الكنيسة والأسرار وأتم عمل الفداء بالآلام والموت والقيامة، مواجها الجهل والخبث والكذب والتآمر والخيانة والحقد والكراهية والظلم، بالصدق والإخلاص والغفران والتضحية والمحبة. وعلمنا أيضا أنه علينا السكوت في زمن السوء، وعدم الدخول في جدال عقيم مع الشر وأدواته، الكلام الوحيد المباح في هذا الزمان هو كلام المحبة والغفران مع البشر، وكلام الدعاء والصلاة وتسليم الذات مع الله، فدعاه في بستان الزيتون قائلا: “لتكن مشيئتك”، وعلى الصليب مناديا: “إلهي إلهي لماذا تركتني”، وأسلم الروح”.

وقال: “نعود إلى حاضرنا اليوم، وهنا، ونرى توالي الأزمات: من أزمة فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها، إلى الأزمة السياسية الحادة، إلى الأزمة الاقتصادية والمالية وتداعياتها، إلى الأزمة التربوية والصحية، إلى الأزمة المعيشية، مع ما يستتبع ذلك من فقدان فرص العمل ومن جوع وبؤس وهجرة. ونرى انتشار جائحة كورونا مع ما حملته من ذعر وضياع وموت. وكأن كل ذلك لا يكفي، أو أن الشر يتبع منهجية تصاعدية، فتحل الكارثة بجريمة انفجار مرفأ بيروت وتداعياته المأساوية على لبنان بشكل عام وعلى بيروت وأبناء محيط المرفأ بشكل خاص. في هذا الوقت فقد الكثيرون أحباء لهم إن بسبب المرض أو بسبب الانفجار، آخرون شردوا وفقدوا بيوتهم، كثيرون فقدوا مدخراتهم وتعويضاتهم وجنى حياتهم، آخرون هاجروا أو يحاولون الهجرة لدى أقرب سانحة، كثيرون يئسوا وفقدوا الأمل بمستقبل كريم لهم ولأبنائهم. لذلك نعلم أننا في زمن سوء يشبه زمن آلام المخلص”.

أضاف: “ما يزيد يقيننا أننا نعيش في زمن سوء هو نوعية الكلام والثرثرات التي نسمعها حولنا: نسمع في الداخل، كما في الخارج، أصوات كذب وخبث وتآمر وظلم وزور وبهتان ولامسؤولية واسترضاء، أو كلام استغلال وانتهازية وتحريض، أو كلام استعطاف وغسل أيدي ولامبالاة. وحتى الشعب الذي ظهر بجزء منه مسيرا، جاء أكثر كلامه شتاما، سطحيا وغير هادف. لكننا هنا أيضا نرى وسط الصخب والضجيج بعض الشجعان يعملون بصمت، نرى بعض المسؤولين المدنيين وغيرهم في مختلف القطاعات، يعملون بعصامية، محافظين على القواعد والمبادئ بالرغم من كل شيء. نرى القوى الأمنية على تنوعها، لاسيما الجيش اللبناني، تقوم بمهامها الصعبة بالرغم من الإجحاف اللاحق بها بسبب الوضع المالي المتدهور. ونرى العاملين الملتزمين في القطاع التربوي وغيره من القطاعات الإدارية والإنتاجية العامة والخاصة يحاولون جاهدين الصمود والحفاظ على ما تبقى. نرى كذلك أبطال القطاع الصحي الذين يواجهون الجائحة بجرأة وشجاعة ومهنية بالرغم من التناقص المتزايد في الإمكانات. ونرى أيضا بعطف خاص المؤسسات والجمعيات الإنسانية التي تجهد للمساعدة. وتظهر الكنيسة، جسد المسيح السري، مواصلة عمل المسيح وكلامه بالصلاة وبعمل الخير”.

وشدد على أن “نداءات قداسة البابا فرنسيس المتكررة إلى العالم وإلى اللبنانيين الداعية إلى الصلاة من أجل لبنان وإلى تكثيف الجهود من أجل إنقاذه والحفاظ عليه وعلى رسالته الإنسانية المميزة، وكذلك مبادراته المتتالية لمساعدة التلاميذ والمرضى والفقراء، تشكل منارة هداية وواحة صدق. نسأل سعادة السفير البابوي الذي يمثل قداسته بيننا ويسهر بعناية من قبله على حسن تأدية مؤسسات الكنيسة لرسالتها، أن ينقل لقداسته شكرنا وامتناننا واتكالنا على ما يقوم به لنتمكن من عبور هذا الزمن السيىء ونصل إلى القيامة. كما يظهر ذلك من خلال دعوات غبطة أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي المتكررة إلى التوبة وتكثيف الصلاة وإلى تنظيم أعمال الإغاثة والمساعدات، ومن خلال مبادراته المتتابعة مع جميع الأفرقاء لإيجاد حلول مناسبة ومخارج للأزمة الحالية”.

وأكد أنه “يعز علينا أن نحتفل بهذه الرتبة بغياب فخامة الرئيس العماد ميشال عون وباقي المسؤولين والأخوات والإخوة الذين اعتدنا على مشاركتهم لنا الصلاة في مثل هذا اليوم، والذين تغيبوا بسبب جائحة كورونا، لكننا نضم صلاتنا هذه إلى دعائنا وصومنا ونقدمها على نية خلاص لبنان وبشكل خاص على نية فخامة الرئيس، بما لديه من صدق وشجاعة وإخلاص وتوكل على العناية الإلهية في انجاز مهامه، كي يتابع العمل بالتعاون مع جميع المخلصين، لكي تعبر سفينة الوطن بقيادته زمن السوء هذا وتصل إلى ميناء الأمان والازدهار”.

وختم الهاشم: “أما نحن في الرهبانية اللبنانية المارونية، فحسبنا مع إخوتنا المكرسين والمكرسات في الرهبانيات والجمعيات الرهبانية الأخرى، وجميع أصحاب النوايا الطيبة، أن نتابع عملنا الصامت في هذا الزمن السيىء بشجاعة وصدق وإخلاص، فنكثف الصلوات والأدعية من أجل شعبنا ووطننا وكنيستنا، ونتابع الصمود في أديارنا ومؤسساتنا مع جميع شركائنا في الرسالة وفي عمل الخير، لاسيما شركائنا في جمعية سوليداريتي، مكثفين نشاطنا في هذا الزمن السيىء، لترسيخ أسس جديدة لمجتمعنا، مبنية على المحبة والشجاعة والتضامن، مساهمين في بناء ملكوت الله في كل الأزمنة والأمكنة، متكلين على الله وعلى شفاعة أمنا العذراء مريم المصلية الصامتة والقديس شربل الصامت والمصلي الدائم وقديسي لبنان وشهدائه”.

ثم حمل الآباء نعش المسيح وجالوا في أرجاء الكنيسة، مقيمين الزياح.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
مواضيع تهمك

Comments are closed.