“التصوير بعدين يا عمي”: عن توثيق ضحايا الحرب
“كأننا عالقون بين نارين”، هكذا وصفت لنا صحفية من غزة تصوير مشاهد الموت في الحرب، حينما قالت إن الصحفي، وخصوصاً من يوثق الأحداث على مواقع التواصل الاجتماعي يواجه صراعات داخلية مختلفة بين توثيق ما يحدث خلال الحرب والحصار والقصف، وبين احترام خصوصية القتلى وخصوصية عائلات الضحايا في وقت فقدوا فيه أحباءهم.
“نحتار في الكثير من الأحيان بين تصوير المشهد ونقل صورة الفظائع التي تحل بشعبنا وبين احترام حُرمة الميت وخصوصية أهله. نحن عالقون بين نارين، بين نار إظهار ما نمر به للعالم، ونار انتهاك خصوصية الشهداء والمصابين، لكن أرى مدى أهمية المحتوى الذي عملنا عليه خلال الأشهر الماضية في الحرب وأن هذه المشاهد ما كانت وصلت الناس لولا فظاعة الصور ومقاطع الفيديو التي قام صحفيون ومدونون بنشرها وبثها للعالم”.
نزحت الصحفية، التي فضلت عدم ذكر اسمها، إلى رفح مع زوجها، وتحدثت لبي بي سي عن المصاعب المهنية التي واجهتها خلال التغطية: “خلال حصار الشمال وقصفه، رأينا مشاهد لا يمكن تصورها، ولا يمكن لعقل بشري استيعابها، لكن ليس كل شيء يصلح للتصوير، فلكم أن تتخيلوا بشاعة الصور التي وردت على مواقع التواصل الاجتماعي، وأضعاف مضاعفة منها على أرض الواقع. لم نستطع تصوير وبث كل شيء بطبيعة الحال”.
يمثل تصوير الموت وقتلى الحروب في مجال توثيق ونقل الصورة تحدياً كبيراً، تحدثنا مع خبراء في مجال الإعلام وحقوق الإنسان لبحث الموضوع وطرح سؤال: “كيف يمكن للصحفي أن يغطي مشاهد الحرب وفظاعة الصور وأن يحترم خصوصية الضحية وأسرتها في آن واحد؟”
“التصوير بعدين يا عمي.. التصوير بعدين يا جماعة”
مع تعالي استغاثات النجدة في مستشفى شهداء الأقصى ومحيطه، وانتشار النساء والأطفال والرجال القتلى والمصابين، يسارع بعض الصحفيين والمدونين لنقل ما يحدث وتصوير الجرحى والقتلى لغايات التوثيق.
كان أحد الأصوات لأب يحاول إيصال ابنته إلى غرفتها في المستشفى، ويقول في مقطع فيديو من داخل المستشفى: “التصوير بعدين يا عمي.. التصوير بعدين يا جماعة”، فبالرغم من أهمية توثيق الحرب والأحداث، إلا أن هناك سؤالاً يراود الصحفيين والمدونين: “ما الحد الفاصل بين التوثيق وانتهاك خصوصية الضحية وعائلتها؟”.
الصحفي أحمد الآغا من غزة يقول: “الإعلامي ليس باحثاً عن المعلومة فقط، إنما هو إنسان بمشاعر وخصوصاً في وقت الحروب والأزمات والكوارث”.
خلال الحرب، يقف الصحفي أمام حيرة نقل الصورة وإيصالها وحيرة “إنقاذ ما يمكن إنقاذه وما تبقى تحت الأنقاض، هنا تكمن الصعوبة” كما يقول الآغا.
“الصحفي الناجح يلتزم بشكل كبير بأخلاقيات المهنة وتوثيق واحترام خصوصية الضحية وعائلاتها. نجاح أي صحفي بنقل الحقيقة يعتمد على أن يكون صادقاً ويحترم حرمة أو خصوصية الميت. فربما تكون هناك أوقات يكون فيها أهل الميت في وضع لا يُسمح لهم بالظهور في التصوير، كالبكاء الشديد حين الفقد”.
يضيف الآغا: “علينا كصحفيين أن نحترم تلك الحرمة وألا نقوم بتصوير ذلك المشهد، بالرغم من صعوبة ما يحدث وأهمية تصوير ونقل ما يحدث للعالم، لكي يشاهد ماذا يحدث بالشعب الفلسطيني جراء الحرب التي فرضت عليه بعد أحداث السابع من أكتوبر تشرين الأول”.
“الحد الفاصل”
الدكتور غالب الدعمي، أستاذ الإعلام في جامعة أهل البيت، يقول في حديثه لبي بي سي: “الميت لو كان حياً، لكان قدّم شكوى ضد من صوّره. لا أحد يحب أن يصور بحالة يرثى لها، وهو شهيد أو ضحية. لكن للأسف بعض الأصوات تحاول أن تستغل جسد الميت من الحروب”.
يضيف: “التوثيق مهم جداً. لكن التوثيق يجب أن يتم بطريقة مهنية لا تضر بالإعلام أو بعائلة الضحية، فمن الممكن أن يكون هناك تغطية للجثة حتى لا تبقى معالمها المهشمة بارزة وظاهرة للإعلام، فربما لو كانت الضحية بوعيها، لم تكن تريد الظهور بهذه الحالة. يمكن أن يتم توثيق انتهاكات الحرب في ملفات أخرى متخصصة في التحقيق بهذه القضايا، دون أن تُعلن بهذا الشكل”.
حدثنا الدكتور عن قصة مذيع أخبار روسي ظهر في الحرب العالمية الثانية عام 1945 على التلفاز ليبث أنباء القتال وتوقف عن الظهور بعد انتهاء الحرب، وبعد أعوام قليلة، في 1952، ظهر مجدداً على التلفاز في إحدى النشرات، فتوجه المئات إلى المستشفيات في حالة هستيرية لأن ظهوره ذكرهم بحالة الحرب. وهذا كان تحليل لأحد الأطباء النفسيين في روسيا حينها ونصح الهيئة الإعلامية آنذاك بعدم ظهور المذيع مرة أخرى على التلفاز.
وختم الدكتور الدعمي كلامه بالقول: “إذاً، الحالة النفسية أيضاً للمشاهد لم تعد تتحمل أن ترى هذه الصور. يجب على الصحفي أن يعرض الدمار والبيوت والأشجار والشوارع. لكن الجثث لا يجب الابتعاد عنها بشكل كامل”.
الخبير القانوني جمال الأسدي يقول إن القوانين الدولية بشكل عام تمنع نشر الصور لضحايا وعائلاتهم في الإعلام، لأسباب تعود لخصوصية المتوفي والعائلة وانتهاك حرمة الميت.
يضيف: “الإشكالية أنه ليس هناك قاعدة معنية بضبط المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي لم تكتمل”.
“لا يوجد حد فاصل للصورة كصورة تنقل بها نوع من الانتهاك لخصوصية الميت والصورة لتثبيت المعلومة. تثبيت المعلومة هو الأساس.. أي أن هناك ضحايا في هذا القصف، أو أطفال أو نساء أو مسلحين. ربما يأتي الأمر كضريبة توثيق الحقائق في الحرب، من الممكن أن يكون عليها علامات على الجسد مؤذية للعين أو للنفس”.
الدكتور هيثم مناع، رئيس المعهد الاسكندنافي لحقوق الانسان، يقول لبي بي سي إن موضوع توثيق القتل يعود لحادثة مقتل الثوري تشي غيفارا عام 1967، فحرصت قوات الأمن العسكري البوليفية حينها على نشر صور للجثة كدليل على أنها “نجحت بقتل” تشي. وطُرح آنذاك السؤال: هل يحق لأي جهة الاعتماد على الصورة كدليل على عملية القتل؟ وأُثيرت قضية حرمة الجسد وأخلاقيات المهن.
يضيف: “في مواثيق حقوق الإنسان، لا توجد قاعدة معينة لتصوير ضحايا الحروب وعرض صورهم، إلا أن ذلك الأمر متعارف عليه لربما اجتماعياً بين الدول والقوانين. فيجب أن يكون بالصور شيء من الاحترام للبني آدم حياً أو ميتاً فهو في وضع خاص، في حالة انهيار ونحيب، ربما لا يصلُح للتصوير”.
“أي صورة في ساحة الحرب حتى لو كانت لجندي يغتصب امرأة عزلاء، تعتبر في المحكمة وثيقة، ولكن في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فإنها تعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان وكرامته”، كما يرى مناع.
ماذا تقول القوانين الدولية عن تصوير الحروب؟
تنص “شبكة الصحفيين الدوليين” على إرشادات محددة للمصورين الصحفيين والإعلاميين حول تصوير ضحايا أحداث مأساوية، حيث يُنصح بالتركيز على “صور رمزية” تنقل الحدث دون المساس بـ”كرامة الضحايا”.
يتضمن ذلك تصوير جزء من جسد شخص متوفى، مثل يد أو قدم، أو تصوير ملابس ملطخة بالدماء، وحتى ألعاب أو أحذية أطفال، بالإضافة إلى التركيز على المكان الذي وقعت فيه الحادثة بشكل عام. فمن الممكن مثلاً أن يتم التقاط صور لحائط يحمل طبعة ليد ملطخة بالدم، وغيرها من الرموز التي تساعد في توصيل رسالة “الفظاعة” على الأرض، بحسب الشبكة.
هناك خطوط عريضة في الاتفاقيات الدولية يمكن أن تُستخدم كتوجيهات حول تصوير ونشر صور ضحايا الحروب، من بينها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، الذي يحدد حقوق الإنسان الأساسية منها الحق في الحياة والكرامة والخصوصية.
كما يوفر القانون الدولي الإنساني إطاراً قانونياً لحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في النزاعات المسلحة وضحايا النزاعات، ويحدد متطلبات الاحترام لكرامتهم وحقوقهم.
وتشجع معظم الوثائق الدولية على “إيجاد توازن” بين حق الناس في الحصول على المعلومات وحرية الصحافة، وبين حق الأفراد في الخصوصية والحفاظ على الكرامة البشرية.
قالت لجنة حماية الصحفيين الدولية إن الحرب في غزة تعد “الفترة الأكثر دموية للصحفيين” منذ بدء جمع البيانات سنة 1992.
أظهرت آخر التحقيقات الأولية التي أجرتها لجنة حماية الصحفيين الدولية، أن 95 صحفياً قد قتلوا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول حتى نهاية مارس/آذار وأن 16 صحفياً قد أُصيبوا.
وبحسب اللجنة، فقد تم الإبلاغ عن اختفاء 4 صحفيين، واعتقال 25 صحفياً، إضافة إلى العديد من الاعتداءات والتهديدات والهجمات الإلكترونية والرقابة وقتل أفراد أسرة الصحفي، حتى 31 مارس/آذار.
في عصر التكنولوجيا، أصبح من السهل على الصحفيين والمدونين والمستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي نشر صور الموت والعنف بسرعة وسهولة، ما يتطلب مزيداً من الحذر والوعي الأخلاقي. يجب على الجميع أن يتذكروا أن وراء كل صورة ورقم إحصائي، هناك أشخاص يعانون وعائلات ينتظرون الأخبار عن أحبائهم، وبالتالي يجب أن يتم التعامل مع هذه المعلومات بحساسية ودقة، بحسب الخبير القانوني جمال الأسدي.
- حرب غزة: كيف يقاوم الصحفيون تحديات نقل ما يجري للعالم؟
- تعرَّف على أبرز الصحفيين الذين قتلوا في حرب غزة
- دون اتصالات وإنترنت، كيف يكافح الصحفيون في غزة لإيصال الصورة للعالم؟
Comments are closed.