أفغانستان تحت حكم طالبان: بي بي سي ترصد جهود مكافحة زراعة الخشخاش وتأثيرها على الأفغان

طالبان تدمر رؤوس الخشخاش في منطقة جبلية

BBC

يضرب عبد الله رؤوس نبات الخشخاش بعنف ممسكا بعصا كبيرة في يده اليمنى، وعلى كتفه الأيسر بندقية كلاشينكوف، مما يؤدي إلى فصل سوق النبات وعصارته في الهواء، تفوح معها رائحة نفاذة مميزة للأفيون في مصدره الخام.

استطاع عبد الله وعشرات الرجال الآخرين، في غضون دقائق، تدمير محصول خشخاش كان مزروعا في حقل صغير. تجمّع بعدها المسلحون، الذين كانوا يرتدون الـ “شالوار كاميز” (السترة الأفغانية التقليدية والسروال الفضفاض)، على متن شاحنة صغيرة وانتقلوا إلى مزرعة أخرى.

ينتمي هؤلاء الرجال إلى وحدة مكافحة المخدرات التابعة لطالبان في إقليم ننغارهار الشرقي في أفغانستان، وأُتيحت فرصة نادرة لفريق بي بي سي للانضمام إليهم في إحدى دوريات حملتهم لمكافحة زراعة الخشخاش.

كان هؤلاء الرجال، قبل أقل من عامين، من بين مقاتلين متمردين، يخوضون حربا تهدف إلى السيطرة على البلاد، وها هم انتصروا في حربهم ويحكمون البلاد حاليا، وينفذون أوامر زعيمهم.

وكان زعيم طالبان، هبة الله أخوند زاده، قد أصدر مرسوما، في أبريل / نيسان 2022، يقضي بحظر زراعة الخشخاش، الذي يُستخرج منه الأفيون، المكون الرئيسي لمخدر الهيروين، وكل من يخالف تطبيق الحظر سيخضع لعقوبة تقضي بتدمير حقله، فضلا عن عقوبات أخرى بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية.

وقال متحدث باسم طالبان لبي بي سي إنهم فرضوا الحظر بسبب الآثار الضارة للأفيون، المأخوذ من بذور الخشخاش، ولأنه يتعارض مع معتقداتهم الدينية.

كانت أفغانستان تنتج ما يزيد على 80 في المئة من الأفيون في العالم، والهيروين – المصنوع من الأفيون الأفغاني – يشكل نسبة 95 في المئة من السوق الأوروبية.

مناطق وعرة

سافر فريق من بي بي سي إلى أفغانستان، واستخدم تحليل الأقمار الصناعية، للتحقق مباشرة من آثار حملة مكافحة زراعة الخشخاش، ويبدو أن زعماء طالبان نجحوا في مكافحة زراعة النبات أكثر من أي شخص آخر.

رصدنا تراجعا كبيرا في زراعة النبات في الأقاليم الرئيسية لزراعة الأفيون، وقال أحد الخبراء إن الزراعة السنوية قد تسجل تراجعا بنسبة 80 في المئة مقارنة بالعام الماضي.

كما حلت محاصيل مثل القمح، الأقل ربحية، محل زراعة الخشخاش في الحقول، الأمر الذي دفع الكثير من المزارعين إلى الشكوى من معاناتهم ماليا.

سافرنا إلى أقاليم، من بينها ننغارهار وقندهار وهلمند، عبر طرق طينية وعرة، وسرنا أميالا في مناطق جبلية نائية، وعبرنا الأراضي الزراعية، لنرصد الواقع على الأرض.

مقاتلو طالبان يدمرون حقل خشخاش في إقليم ننغارهار في أفغانستان

BBC
مقاتلو طالبان يدمرون حقل خشخاش في إقليم ننغارهار في أفغانستان

لم يُطبَّق مرسوم طالبان بشأن محصول الأفيون في عام 2022، والذي سجل زيادة قدرها الثُلث مقارنة بعام 2021، وفقا لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة.

لكن هذا العام مختلف تماما، فالأدلة التي رصدناها على الأرض تدعمها صور التقطتها الأقمار الصناعية.

يعمل ديفيد مانسفيلد، الخبير البارز في مكافحة تجارة المخدرات في أفغانستان، لدى مؤسسة “ألسيس”، وهي شركة بريطانية متخصصة في تحليل البيانات باستخدام الأقمار الصناعية.

ويقول: “من المحتمل أن تكون الزراعة أقل من 20 في المئة مقارنة بما كانت عليه في عام 2022. سيكون حجم التراجع غير مسبوق”.

وكان عدد كبير من المزارعين قد التزم بتطبيق الحظر، ولجأ مقاتلو طالبان إلى تدمير محاصيل أولئك الذين خالفوا ذلك.

وقال تور خان، قائد وحدة دورية طالبان التي كنا ضمن صفوفها في ننغارهار، إنه ورجاله يدمرون حقول خشخاش منذ نحو خمسة أشهر، وقد طهّروا عشرات الآلاف من الهكتارات التي كانت مزروعة بهذا النبات.

شاهدنا امرأة غاضبة تصرخ في وحدة طالبان وهم يدمرون حقل خشخاش تملكه، وقالت: “أنتم تدمرون حقلي، لعنة الله عليكم”.

وقال لها تور خان: “أخبرتك صباح اليوم بأن تفعلي ذلك بنفسك وتتخلصي منه، لذا سأفعل ذلك بنفسي الآن”، وتراجعت السيدة إلى داخل منزلها.

كما احتجزت طالبان ابنها وأطلقت سراحه بعد ساعات قليلة ووجهت له تحذيرا.

مخاطر في مواجهة الفقر

تتسلح طالبان بشدة في ظل مواجهة مقاومة من جانب السكان المحليين الغاضبين في هذه المنطقة، التي شهدت مقتل مدني واحد على الأقل في إطلاق نار خلال حملة المكافحة، كما تحدثت أنباء عن وقوع اشتباكات عنيفة أخرى.

ألقى مزارع يدعى علي محمد ميا نظرة على دورية المكافحة وهي تدمر حقله، وتبعثرت على الأرض في النهاية أزهار الخشخاش الوردية، والبصيلات الخضراء، وسوق النبات المقطوعة.

المزارع علي محمد ميا

BBC
يجبر الحظر المفروض على زراعة الخشخاش مزارعين مثل علي محمد ميا على زراعة محاصيل أرخص، مثل القمح

سألناه لماذا كان يزرع الخشخاش على الرغم من الحظر؟

رد قائلا: “إذا لم يكن لديك طعام في المنزل، وأطفالك يعانون من الجوع، ماذا تفعل؟ لا نملك مساحة أرض كبيرة. وإذا زرعنا فيها قمحا، فسوف نحصل على جزء بسيط مقارنة بما يمكننا الحصول عليه من الأفيون”.

ولفت نظرنا السرعة التي تنفذ بها طالبان المهمة باستخدام العصي فقط. إذ يمكن القضاء على محاصيل ستة حقول، يتراوح حجم كل منها بين 200-300 متر مربع، في ما يزيد على نصف ساعة.

سألنا تور خان عما يشعرون به وهم يدمرون مصدر دخل شعبهم الذي يعاني من الجوع.

قال: “ننفذ أمر زعيمنا. لدينا ولاء له وحده لدرجة أنه إذا طلب من صديقي أن يشنقني، سأقبل وأسلم نفسي لصديقي”.

ويعد إقليم هلمند، الواقع جنوب غربي البلاد، معقلا للأفيون في أفغانستان، إذ تنتج ما يزيد على نصف الأفيون في البلاد. سافرنا إلى هناك بشكل مستقل بدون وحدة مكافحة المخدرات التابعة لحركة طالبان، لنرى بأنفسنا كيف يبدو الوضع الآن.

عندما زرنا المنطقة العام الماضي، شاهدنا مساحات شاسعة من الأراضي مزروعة بالخشخاش. هذه المرة لم نرصد وجود حقل واحد للمحصول.

وأظهر تحليل مؤسسة “ألسيس” أن زراعة الخشخاش في هلمند تراجعت بنسبة تجاوزت 99 في المئة.

ويقول ديفيد مانسفيلد: “تُظهر الصور عالية الدقة لإقليم هلمند أن زراعة الخشخاش تقلصت إلى أقل من ألف هكتار بعد ما سجلت العام الماضي 129 ألف هكتار”.

تور خان (يمين) يدمر حقل خشخاش مع آخرين من أفراد طالبان

BBC
تور خان (يمين) يدمر حقل خشخاش مع آخرين من أفراد طالبان

التقينا أحد المزارعين ويدعى نعمة الله ديلسوز في منطقة مرجة، جنوب مدينة لشكر كاه، عاصمة هلمند، وكان يحصد القمح، بعد أن كان في العام الماضي يزرع الخشخاش في نفس الحقل، وأخبرنا أن المزارعين في هلمند، معقل طالبان، التزموا تقريبا بتطبيق الحظر.

ويقول نعمة الله: “حاول عدد قليل من المزارعين زراعة الخشخاش في مناطق مستترة خلف الجدران، لكن طالبان اكتشفت تلك الحقول ودمرتها”.

ويسود هدوء المزرعة إلا من صوت قطع سوق نبات القمح وأصوات الطيور. في الماضي خلال فترة الحرب، كانت المنطقة ميدانا وخط مواجهة للمعارك، وكانت هلمند مقرا لقاعدة تضم قوات بريطانية، وشهدت بعض أعنف المعارك.

وهذه هي المرة الأولى في حياة نعمة الله، وهو في أوائل العشرينيات من عمره، التي لا يخشى فيها أن تصيبه قنبلة عندما يغامر بالخروج من منزله، لكن بالنسبة لشعب عانى بالفعل من ويلات حرب طويلة، كان قرار حظر الأفيون ضربة قاصمة، فضلا عن الانهيار الاقتصادي الذي تسبب في فقر شبه شامل في أفغانستان، فثُلثا السكان لا يعرفون من أين يحصلون على وجبتهم القادمة.

ويقول: “نحن مستاؤون للغاية. القمح يدر علينا مكسبا أقل من رُبع ما كنا نكسبه من الأفيون. لا أستطيع تلبية احتياجات أسرتي، اضطررت إلى الاقتراض، الجوع يبلغ ذروته، ولم نحصل على أي مساعدة من الحكومة”.

نعمة الله يحصد القمح الذي يزرعه الآن بدلا من الخشخاش

BBC
نعمة الله يحصد القمح الذي يزرعه الآن بدلا من الخشخاش

سألنا ذبيح الله مجاهد، المتحدث الرئيسي لحكومة طالبان، عن التدابير التي تتخذها حكومته لمساعدة الناس.

قال: “نعلم أن الناس فقراء للغاية ويعانون، لكن ضرر الأفيون يفوق فوائده، أربعة ملايين شخص من تعداد شعبنا البالغ 37 مليون نسمة يعانون من إدمان المخدرات، وهذا عدد كبير، وفيما يتعلق بمصادر الرزق البديلة، نريد من المجتمع الدولي مساعدة الأفغان الذين يتكبدون خسائر”.

ونفى مجاهد تصريحات سابقة للأمم المتحدة والولايات المتحدة وحكومات أخرى بأن الأفيون كان يشكل مصدر دخل رئيسي لطالبان عندما كانوا يقاتلون القوات الغربية والنظام الأفغاني السابق.

سألناه كيف تتوقع طالبان من المنظمات الدولية أن تقدم مساعدة، في الوقت الذي خاطرت فيه حكومة طالبان بعملياتها وتمويلها من خلال منع النساء من العمل في جميع المنظمات غير الحكومية.

أجاب مجاهد: “يتعين على المجتمع الدولي ألا يربط القضايا الإنسانية بالقضايا السياسية. الأفيون لا يضر أفغانستان فحسب، بل يؤثر على العالم بأثره. وإذا نجا العالم من هذا الشر الكبير، فمن العدل أن يحصل الشعب الأفغاني على مساعدة مقابل ذلك”.

السوق العالمية

تأثرت أسعار الأفيون بالفعل نتيجة الحظر، ففي قندهار، المنطقة الرئيسية الأخرى لزراعة الخشخاش، التقينا أحد المزارعين الذي يحتفظ في مخبأ صغير بمحصوله من العام الماضي، يضعه في اثنين من الأكياس البلاستيكية، كل كيس بحجم كرة قدم، مملوء بالأفيون الداكن، ونخفي هويته لحمايته.

قال لنا: “بعت العام الماضي قبل الحظر مباشرة، كيسا مثل هذا بخُمس ما يمكنني الحصول عليه الآن. أنا في انتظار زيادة السعر أكثر حتى أستطيع إعالة أسرتي لفترة أطول. وضعنا سيء للغاية. سبق وحصلت على قرض لشراء طعام وملابس. بالطبع أعرف أن الأفيون ضار، لكن ما هو البديل؟”

مخزون من الأفيون

BBC
على الرغم من الحظر تحدثنا إلى مزارع يأمل في بيع محصوله من الأفيون

ويقول مانسفيلد: “في حين أن أسعار الأفيون والهيروين لا تزال تسجل أعلى مستوياتها منذ 20 عاما، إلا أنها تراجعت خلال الأشهر الستة الماضية، على الرغم من المستويات المنخفضة لزراعة الخشخاش التي يشهدها العام الجاري”.

ويضيف: “يشير هذا إلى وجود مخزون كبير، واستمرار إنتاج الهيروين والإتجار به. كما تشير الكميات المضبوطة في الدول المجاورة وخارجها إلى أن تراجع الهيروين ليس وشيكا”.

مايك تريس، مسؤول سابق في مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، وكان مستشارا بارزا في سياسة مكافحة المخدرات في حكومة المملكة المتحدة عندما حظر نظام طالبان الأول زراعة الأفيون عام 2000، قبل عام من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان.

قال: “ليس لهذه الخطوات أي تأثير هائل وفوري على الأسعار والأسواق الغربية، نظرا لوجود كمية مخزون كبيرة لدى الجهات المعنية على طول طريق تهريب المخدرات. هذه طبيعة السوق ولم تتغير بشكل جذري على مدار الأعوام العشرين الماضية”.

زهرة الخشخاش في أفغانستان

BBC

وكانت الولايات المتحدة قد أنفقت مليارات الدولارات في أفغانستان في مسعى للقضاء على زراعة الأفيون وتهريبه، على أمل قطع مصادر تمويل طالبان.

كما شنت غارات جوية على حقول الخشخاش في الأراضي التي تسيطر عليها طالبان، وأحرقت مخازن للأفيون، وهاجمت مختبرات المخدرات.

بيد أن الأفيون كان يُزرع بحرية أيضا في المناطق التي يسيطر عليها النظام الأفغاني السابق المدعوم من الولايات المتحدة، وهو ما شهدته بي بي سي قبل استيلاء طالبان على السلطة عام 2021.

وتبدو طالبان، في الوقت الحالي، قد حققت إنجازا في أفغانستان لم يستطع الغرب تحقيقه، لكن توجد أسئلة حول المدة التي يمكنهم انتظارها.

وفيما يتعلق بإدمان الهيروين في المملكة المتحدة وبقية دول أوروبا، يقول مايك تريس إن التراجع الكبير في زراعة الأفيون في أفغانستان من المرجح أن يغير نوع المخدرات المستهلكة.

وأضاف: “من المرجح أن يلجأ الناس إلى عقاقير اصطناعية يمكن أن تكون أسوأ تأثيرا مقارنة بالأفيون”.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
مواضيع تهمك

Comments are closed.