من دون تدخل خارجي: هل يستطيع اللبنانيون تقرير مصيرهم بأنفسهم؟
مع اعتذار سعد الحريري عن تشكيل حكومة جديدة بعد 9 أشهر على تكليفه بذلك، تنحدر أزمة لبنان المزمنة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى حضيض آخر يضع البلاد والعباد أمام تحدٍّ مصيري يهددهما بالانحلال والزوال، ويطرح تالياً سؤالاً ملحاحاً: هل يستطيع اللبنانيون تقرير مصيرهم بأنفسهم من دون تدخل خارجي؟
كيان «لبنان الكبير» رسمت حدوده، ووضعت قواعد دولته، فرنسا وبريطانيا سنة 1920، وشاركتهما في تقرير توجّهاته بعد ذلك دول عدّة أبرزها، الولايات المتحدة، وهددت وحدته وسيادته دائماً دولة «إسرائيل» بدعمٍ فاضح من دول الغرب الأطلسي.
اليوم يتساءل اللبنانيون الشرفاء كما أصدقاؤهم في دنيا العرب: إلى أين من هنا؟ كيف يكون الخروج من الأزمة المزمنة، وتفادي السقوط إلى قاع الانحلال والزوال؟ القوى السياسية المتصارعة في البلاد متعددة وإلى ازدياد، لكن يمكن تصنيفها في معسكرين متقابلين:
الأول يضمّ مجموعةً من أمراء الطوائف، وزعماء الأحزاب والتكتلات السياسية المتغرّبة، استساغت دائماً ثقافة الغرب، وتحالفت مع دوله النافذة، وتبادلت المصالح والمنافع مع مؤسساته وشركاته التجارية، فتمكّنت منذ 1920 ولغاية 1990 من امتلاك الحصة الكبرى في مراكز السلطة ومصالحها، والدور الفاعل في رسم سياسة الدولة وتحديد وجهتها.
الثاني يضمّ مجموعةً من قوى وطنية وأحزاب سياسية ومثقفين راديكاليين، أكثر توجّهاً وتعاوناً مع قوى وأحزاب عروبية ويسارية وإسلامية مناهضة، بصورة عامة، لدول الغرب الأطلسي الراعية والداعمة للكيان الصهيوني.
يمكن القول إن تكليف سعد الحريري بتأليف حكومة جديدة، بعد استقالة حكومة حسان دياب نتيجةَ كارثة تفجير مرفأ بيروت، شكّل كسباً سياسياً للمعسكر الأول. غير أن فشله في تشكيل حكومة جديدة يُعتبر، تالياً، هزيمة سياسية لهذا المعسكر. هل يستطيع المعسكر الثاني الأكثر راديكاليةً النجاح في تكليف شخصية سياسية من أصدقائه تشكيل حكومة جديدة؟ تتطلّب الإجابة عن هذا السؤال عرضاً للصعوبات السياسية والإقتصادية والاجتماعية التي حالت دون نجاح الحريري في مهمته طوال أشهر تسعة. في الواقع، يعاني لبنان مظاهر تعددية مذهبية عميقة ومرهقة، عرفت قوى الخارج دائماً كيف تتوسلها وتستغلها، لتعميق الانقسام بين اللبنانيين للوصول إلى مآربها وتأمين مصالحها. في هذه الآونة، حرصت قوى الخارج، ولاسيما فرنسا والولايات المتحدة، على إقناع فعاليات المعسكر الأول المحافظ، بأن الخروج من الأزمة المتفاقمة يتطلّب التدابير الآتية:
يتساءل اللبنانيون الشرفاء كما أصدقاؤهم العرب: كيف يكون الخروج من الأزمة المزمنة، وتفادي السقوط إلى قاع الانحلال والزوال؟
تأليف حكومة من اختصاصيين موالين لهذا المعسكر، فكراً وتوجّهاً، خالية من أيّ تمثيل للقوى الراديكالية المحسوبة على المعسكر الثاني، ولاسيما حزب الله.
التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض ومساعدات وفق شروطه.
توظيف جهود أمنية إضافية لقطع عمليات تهريب المواد والسلع المدعومة من قبل الحكومة اللبنانية كالبنزين والأدوية والأغذية إلى سوريا.
توسيع التعاون سياسياً واقتصادياً مع دول الخليج.
الإعداد لانتخابات نيابية مبكرة والتعاون مع عناصر موثوقة من مؤسسات المجتمع المدني المدعومة من دول الغرب الأطلسي.
هذه المشهدية التي حاولت قوى المعسكر الأول المحافظ تسويقها فشلت فشلاً ذريعاً باعتذار سعد الحريري عن تأليف حكومة جديدة، لكن فرص نجاح المعسكر الثاني الراديكالي في تأليف حكومة تصطدم بالمعوّقات الآتية:
تحفّظ رئيس مجلس النواب نبيه بري وكتلته النيابية على التعاون مع بعض أطراف المعسكر الثاني، ولاسيما التيار الوطني الحر (العونيين) وتحديداً رئيسه النائب جبران باسيل.
معارضة فريق من قادة المعسكر الثاني، معظمهم عونيون، الاستعاضة عن مفاوضة صندوق النقد الدولي بالتوجّه شرقاً للانفتاح على سوريا والعراق، والتعاون اقتصادياً مع إيران وروسيا والصين.
رفض العونيين عموماً تعديل قانون الانتخاب النافذ حالياً، باتجاه اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة، بدعوى انعكاسها سلباً على تمثيل المسيحيين الذين باتوا يشكلون أقل من ثلث عدد اللبنانيين.
إذا أخفق أطراف المعسكر الثاني في تدوير زوايا خلافاتهم، فإن البلاد تصبح مرشحة للبقاء فترة أخرى طويلة في الدوامة السياسية ذاتها، التي أرهقت الناس اقتصادياً واجتماعياً، وهددت الكيان بالانحلال والزوال، شأن النظام الطوائفي الفاسد المرذول من طرف الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، فما العمل؟ ثمة مخرجان يمكن العمل على تظهيرهما:
الأول تفاهم القوى السياسية الوازنة على الأولويات الأكثر إلحاحاً وضرورةً في المرحلة الراهنة وهي:
(أ) ترشيد دعم الأغذية والأدوية والوقود (بنزين وغاز ومازوت) حتى لو اقتضى الامر قيام الدولة باستيرادها مباشرةً.
(ب) تفعيل التدقيق الجنائي في حسابات البنك المركزي والمصارف، لكشف المسؤولين عن الأموال المهربة إلى الخارج بصورة مخالفة للقانون.
(جـ) تسهيل التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، الذي يتولاه القاضي العدلي طارق البيطار.
(د) استيراد البنزين والفيول من إيران بالليرة اللبنانية.
(هـ) الموافقة على مفاوضة صندوق النقد الدولي مع الحرص على رفض شروطه المضرّة بالاقتصاد اللبناني، وأهمها الخصخصة.
(و) التوافق على تعديلات متوازنة لقانون الانتخاب حتى لو اقتضى الأمر تأجيل الانتخابات بضعة أشهر.
حسناً، ماذا لو تعذّر التفاهم على إجراءات المخرج التوافقي سابق الذكر؟
ثمة مخرج ثانٍ، راديكالي بامتياز، قوامه أن تتوصل القوى الراديكالية داخل التكتلات السياسية التي تمتلك حالياً أكثريةً في البرلمان لا تقلّ عن 70 نائباً إلى قرار سياسي حاسم بالانتقال من الجمهورية الأولى ذات النظام الطوائفي الفاسد إلى الجمهورية الثانية باعتماد التدابير الآتية:
الإصرار على الانتقال السلمي الديمقراطي من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية، باعتماد قانون للانتخاب يحترم مواد الدستور، ولاسيما الأحكام الآتية: الدائرة الوطنية الواحدة (مدلول المادة 27)، التمثيل النسبي، خفض سن الاقتراع إلى سن الثامنة عشرة، انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف (منطوق المادة 22 ) وعرض هذا القانون بعد إقراره في مجلس النواب على استفتاء شعبي لإضفاء مزيدٍ من المشروعية الوطنية عليه.
تأليف حكومة وطنية جامعة من رئيس وقياديين واختصاصيين كفوئين لتنفيذ برنامج إصلاحي وإنمائي متكامل يؤمّن الأولويات الملحّة سابقة الذكر.
(جـ) التوجّه شرقاً بالانفتاح على سوريا والعراق والتعاون اقتصادياً مع إيران وروسيا والصين، التي سبق لها أن تقدّمت بمشاريع تنموية متكاملة للبنان قابلة للتنفيذ من دون تكلفة الاستدانة من دول ومصارف أجنبية.
(د) إيجاد صيغة عملية للتعاون بين المقاومة والجيش اللبناني، تكفل حماية الأمن القومي وتحقيق التكامل بين هاتين القوتين في وجه العدو الصهيوني.
إن اعتماد المخرج الثاني يشكّل بحد ذاته مقاربة وطنية فاعلة تكفل للبنانيين لأول مرة في تاريخهم المعاصر أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم ومن دون اي تدخل خارجي. ولا يُردّ علينا بأن ثمة عدواً صهيونياً متربصاً للاعتداء علينا، بغية الحؤول دون انتقالنا من حال الطوائفية والفساد إلى جمهورية مدنية ديمقراطية مقاومة، لأن ثمة إنجازاً استراتيجياً حاسماً حققته المقاومة في الحرب سنة 2006 هو توازن الردع مع العدو الصهيوني، وقد تعزز هذا الانجاز مؤخراً بامتلاك المقاومة اللبنانية صواريخ دقيقة قادرة على تدمير مرافق العدو الحيوية على كامل مساحة فلسطين المحتلة.
إلى ذلك، أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة تتجه إلى إعادة تموضع قواتها في كل ساحات الشرق الأوسط، تمهيداً لانسحابٍ تدريجي تنوي تحقيقه في المستقبل، فضلاً عن عودتها إلى الاتفاق النووي ورفع عقوباتها عن إيران. كل هذه الواقعات والتحوّلات يجب أن تحفّز القوى الوطنية الحيّة في لبنان، ودنيا العرب وعالم الإسلام على مغادرة حال التهاون والوجل بغية الاندفاع بلا إبطاء إلى مواجهة قوى الهيمنة الدولية المتراجعة.
القدس – عصام نعمان
Comments are closed.