«تيتا روز» تروي قصة اقتلاعها من منزلها: عندما ينعدم الضمير التهلكة حتمية
كمن يبحث عن إبرة في كومة من قش، انطلقت «الأنباء» في البحث عن المربية السيدة «روز سليم غلام»، وهي التي احبها اللبنانيون والعالم وهي تردد انها المعلمة الأولى في لبنان بمرسوم اشتراعي رقم ١٠٣٩٨، وذلك في منطقة الجميزة المنكوبة الواقعة ضمن دائرة الاشرفية في بيروت.
فمن مختار الى مختار، ومن شرطي بلدي الى آخر، وبعد عناء بين السائل والمجيب لأكثر من ساعتين، تمكنا بواسطة أحد المواطنين من معرفة موقع سكنها.
وما إن بلغنا البناء حتى ذهلنا من هول المنظر، دمار وخراب وركام وحطام ومعالم ممحية لما كان يوما يصنف حيا أثريا.
كانت القوى الأمنية منتشرة في المنطقة لعدة أسباب أهمها التحسب لأي طارئ، كخطورة اقتراب المتطفلين من معظم الأبنية المتصدعة خوفا من انهيارها المحتمل، وإذ بسيدة نلمحها على الدرج، نسألها عن الطابق الذي تسكنه «تيتا روز» فتبتسم وتجيب بأنها قريبتها، وتشير الى زوجها ناجي غلام، الذي بادر الى إخبارنا بأن «تيتا روز» لم تعد موجودة هنا بل نقلت الى بيت أنسبائها في منطقة بيت الككو التي تبعد 18 كلم عن بيروت.
عندها طلبنا من السيد ناجي السماح لنا بتصوير المنزل من الداخل، بعد أن سبق لنا التقاط عدة صور خارجية للمبنى المتصدع، تعاطف معنا وسمح لنا بتصوير المنزل من الداخل، شرط أن نفعل ذلك بسرعة وبعيدا عن أعين القوى الأمنية التي تمنع الدخول الى المبنى.
بعد انتهائنا من التصوير، عدنا أدراجنا الى «بيت الككو» التي تبعد 2 كلم فقط عن منطقة المطيلب التي انطلقنا منها أساسا للبحث عن «تيتا روز»، وعند وصولنا سردت لنا ما يلي:
«عصر ذلك اليوم المشؤوم كنت مستلقية على سريري حين دوى انفجار هائل، ظننت للوهلة الأولى أن مصدره انهيار المبنى، حيث أسكن، وقد سقطت بين أنقاضه، وذلك نظرا لحجم الدمار الذي حصل داخل الغرفة، لكن سرعان ما استعدت نظرتي الواقعية للأمور لأكتشف أن ما حصل هو انفجار قريب جدا تردد عصفه داخل منزلي ليبدل بأسرع من ومضة عين معالم المنزل، بحيث أصبح بلا أثاث ولا نوافذ، وجدرانه التي لم تسقط تصدعت بانتظار اللحاق بمصير أشقائها، وذلك على مثال العقول المريضة والنفوس الشيطانية التي تسببت بهذه المذبحة الجماعية وهذا الدمار الشامل لربع مدينة بيروت، والذي لا يمكن لأي عالم في اللغة العربية أن يعطيه حقه بالتوصيف».
«منزلي في الجميزة يكتنز تاريخي، لقد عملت في الجسم التربوي حيث درست لسنين طويلة مادة اللغة الفرنسية والعلوم الطبيعية والرياضيات، وقد منحت من قبل الرئيس الراحل إلياس الهراوي وسام المعلم، وأنا اليوم متقاعدة أقارب التسعين من عمري وأنتظر خروجي من هذه الحياة بأمن وسلام، وهذا حق طبيعي لي وواجب على الدولة التي استنزفت لأجلها شبابي وأعطيتها خبراتي في تنشئة أجيال المستقبل.
ما هكذا يرد الجميل للمعطائين أمثالي، فبدلا من أن يصار الى اهتمام الدولة بي وبمن هم بسني آخر أيام حياتهم، كانت المكافأة بتشريدي وقد شارفت شمس جيلي على المغيب».
وأكملت «تيتا روز» قائلة: «إن رفضي الخروج من منزلي المدمر لم يكن مبنيا على أسباب مادية، إنما لتعلقي بنهاية كريمة تليق بي، لم تؤمنها الدولة لجيلي الذي بفضله قامت أركانها، فأنا كنت أرفض أن ينتهي عمري خارج هذا المنزل مشردة وبلا مأوى، فبالرغم من الدمار الذي لحق به، يبقى بمثابة حضن التاريخ الذي يشعرني بالطمأنينة، فهناك سريري وهناك ماشطتي وهناك زاوية الشرفة التي أراقب من خلالها حركة الحياة في شارعي، وحركة البواخر في بحري، وحركة النجوم في سمائي.
قاومت بقوة فكرة المغادرة، لكن الضابط حاول إقناعي، مشددا على أن المبنى مهدد بالانهيار، لكن وأمام تمسكي بالبقاء اضطر الى انتزاعي بالقوة، وذلك عبر قيام 4 عناصر من القوى الأمنية بحملي رغما عني على الكرسي الذي كنت أجلس عليه، وأوصلوني الى مركز مار أنطونيوس في الأشرفية، حيث جاء أنسبائي واصطحبوني منه الى دارتهم في بيت الككو.
أنا هنا بالجسد فقط، لكن إن دخلتم بيتي في الأشرفية فستستقبلكم نفسي وروحي وعقلي وكل ذكرياتي وتاريخي، وأرجاؤه التي كانت تشعر بحنية قدمي سترحب بكم نيابة عني».
أسفي على هذه الدولة لا يختصر بأنها رمت شعبها وتركته لمصيره، إنما أيضا لأنها تخلت عني وأنا في عز حاجتي الى يد العون من مؤسساتها الاجتماعية، فأنا خضعت لعملية جراحية لمرض عضال ألم بي ألزمني بعلاج لمدى الحياة، ناهيك عن كسر في وركي أعاق حركتي، وبدلا من أن تبادر الدولة الى تقديم الخدمات الصحية التي تستلزمها حالتي، تركتني لامبالية لمصيري، علما أنني لست بحاجة اليها، لكنني أكرر أن رد الجميل واجب على هذه الدولة، وأردفت بالفرنسية:
«Science sans conscience est la ruine de l’âme» أي عندما ينعدم الضمير تصبح التهلكة مصيرا محتوما!
واستدركت بالقول: «أنا أفتخر بلبنان وبشعبه الطيب، لكني لست فخورة بالحكام والمسؤولين ايا كانوا في مواقع الدولة، وأراهن سلفا أن كل ما نسمعه ونراه من تحقيقات وتوقيفات مجرد مسرحيات فارغة بممثلين دون نص، ما يملي على الشعب المطالبة بتحقيق دولي لانعدام الثقة بالتحقيقات المحلية، كما يملي عليه المطالبة بتسليم المساعدات الخارجية لمستحقيها مباشرة دون المرور بالقنوات الرسمية، تفاديا للهدر أو السرقة».
وفي النهاية، طالبت الحكام والمسؤولين والإداريين في هذا البلد الجريح بالرحيل فورا لأنهم أثبتوا للبنان والعالم أنهم مجموعة فاشلة حققوا طموحاتهم وبنوا أمجادهم السياسية والمادية على حساب الشعب، كما طالبت رئيس الدولة بالاستقالة بعدما أوهم الشعب بأنه «بي الكل» ليتبين، لا سيما اليوم، انه أبعد ما يكون عن الأبوة لشعبه.
وختمت: «إني هنا اليوم أعلن من خلالكم اني سأعود الى بيتي مسقط رأسي، وأطالب الدولة بالتعويض المادي والمعنوي عن العطل والضرر الذي لحق بي وبجميع المتضررين وذوي الشهداء والجرحى».
الأنباء – زينة طبّارة
Comments are closed.