حرب النيازك تشتعل في سماء الجزائر
مع رصد نيزك جديد دخل الغلاف الجوي في سماء الجزائر، عاد الجدل وبقوة كبيرة حول هذه الظاهرة، ومكان تساقطها، ومصيرها الذي بات بين أيدي تجار أصبحوا يعرضون سلعةً قادمةً من السماء، وبأسعار مرتفعة.
ففي ليلة الثامن من أيار/ مايو الجاري، أي فجر التاسع منه، شاهد الجزائريون بقعةً ضوئيةً سريعة المسار في أعالي ولاية المسيلة جنوب شرق الجزائر، وهو ما التقطته كاميرات الهواتف وتسارع تداوله بين الجزائريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبشكل واسع، متسائلين عن الظاهرة.
ففي بلدية عين دراج التابعة للولاية نفسها التي شهدت الحادث، يؤكد سفيان بن روباش، أحد أبناء المنطقة في حديثه إلى رصيف22، أن “أغلب أهالي البلدة قضوا ليلةً بيضاء متخوفين مما قد يحصل، وهناك من غادر البيت إلى خارجه، بعدما ربطوا الحادثة بالزلزال أو بهجوم بالصواريخ وغير ذلك من التأويلات”.
وعلى الرغم من أن عقارب الساعة حينها كانت تشير إلى انتصاف الليل، إلا أن المدينة بأكملها، يضيف بن روباش، “عاشت كل تفاصيل النهار بسبب قوة الإشعاع المنبعث من السماء، بالإضافة إلى صوت قوي سمعه الأهالي من أماكن بعيدة”.
الإجابة
أمام كل الغموض الذي حيّر الجزائريين، أصدر مركز البحث في علم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء الأرضية بياناً توضيحياً بخصوص رصد نيزك مضيء جداً ليلة الأحد 7 أيار/ مايو 2023، عند الساعة 23:59 بالتوقيت المحلي في سماء ولايات جزائرية عدة، وهو قادم من الجهة الغربية.
وأضاف البيان أن ما شوهد في السماء وسقط بين ولايتي المسيلة والجلفة جنوب شرق الجزائر، هو نيزك صغير لا يتعدى وزنه الـ10 كيلوغرامات، كان على شكل كرة نارية ساطعة جداً، أنتجت ذيلاً ضوئياً مستمراً دام ثواني عدة وانطلق من الغرب الجزائري ووصل إلى الجنوب الشرقي.
وأضاف البيان أن “الجرم السماوي الذي شوهد هو عبارة عن نيزك التقطته قوة الجاذبية الأرضية ودخل بعد ذلك الغلاف الجوي لكوكبنا بسرعة فوق صوتية، ووفقاً للحسابات الأولية فقد قُدِّرَت كتلة النيزك بنحو 10 كيلوغرامات، وقُدّر ارتفاع الكرة النارية في أثناء الوميض الضوئي الأول بنحو 25 إلى 40 كيلومتراً في السماء.
وطمأن المركز المواطنين، قائلاً إن هذه الظاهرة الفلكية طبيعية تحدث بانتظام في العالم بوتيرة 10 مرات في السنة تقريباً بطاقة النيزك الذي رُصد نفسها، كما نبّه إلى أن الظاهرة ليست لها أي علاقة بالنشاط الزلزالي”.
تذمّر لتأخّر المعلومة
تذمّر الجزائريون من الطريقة التي تعاملت بها الوصاية والإعلام الرسمي في الجزائر مع ظاهرة النيزك الذي شهدته البلاد، وهذا بعض الغموض الذي اكتنف عقول الغالبية، وأثار هلعاً وتخوفاً كبيرين وفي ولايات عدة.
ويؤكد في هذا الشأن محمد الصالح سيكر، من منظمة المجتمع المدني الجزائري، أن المعلومة التوضيحية بخصوص النيزك، جاءت متأخرةً جداً، وهو ما أرغم عائلات عدة في الولايات التي مرّ في سمائها الشهاب، على المبيت خارج المساكن تخوفاً من حدوث أي أمر.
وعلى الرغم من أن مركز البحث في علم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء الأرضية أصدر بياناً توضيحياً بخصوص ذلك، وهو مشكور، يقول سيكر لرصيف22: “إلا أن البيان جاء متأخراً، وكان تداوله إعلامياً باهتاً، ولم تصل المعلومة إلى المواطن الذي عاش حيرةً طوال الليلة وخلال نصف اليوم الموالي”.
وفي هذا الخصوص يضيف سفيان بن روباش، ابن بلدية أولاد دراج في المسيلة: “فتحنا مختلف الإذاعات والقنوات التلفزيونية، ودخلنا إلى الحسابات الرسمية لوسائل الإعلام العمومية بعد مشاهدة النيزك مباشرةً لكن لم نرَ شيئاً سوى ما رصدته كاميرات المواطنين للظاهرة”.
وعلى الهيئات المختصة والإعلام الجزائري، يضيف، “الاستعداد لمثل هذه الظواهر، وأن يكون اتصالهم مستمراً لتقديم المعلومة في وقتها وتوضيح ما يمكن توضيحه للمواطنين”.
حرب على نيازك الجزائر
ما تم التطرق إليه سابقاً هو عن رصد النيزك، وردود فعل المواطنين والهيئات المختصة على الظاهرة، لكن كثيرين لا يعرفون أن هذه الظاهرة متكررة في الجزائر، من دون الخوض في مصير تلك النيازك التي في الغالب تسقط في الصحراء.
ويؤكد عضو الجمعية الجزائرية للفلك وعلوم الأرض سالم سعد الدين، أن في الصحراء الجزائرية أكثر من 10 آلاف قطعة نيزكية (وهو رقم قابل للارتفاع)، سقطت على مرّ ملايين السنوات السابقة، ولا زالت الصحراء الكبرى تستقبل بشكل متكرر نيازك كالذي سقط قبل أيام بين ولايتي لمسيلة والجلفة.
لكن، يضيف سعد الدين في حديثه إلى رصيف22، “هذه القطع النيزكية أو كما تُسمّى الكنوز القادمة من الفضاء، لا تجد في الجزائر من يوليها اهتماماً كبيراً لاكتشافها وتحليلها وتوجيهها إلى دراسات بحثية عدا بعض المحاولات المسجلة من قبل بعض الجمعيات ومركز البحث في علم الفلك والفيزياء الفلكية والفيزياء الأرضية”.
في حين يؤكد الباحث المتخصص في جغرافيا القياسات عبد النور خديري، لرصيف22، “أن القطع النيزكية الجزائرية باتت في قبضة عصابات تهريب تتلقى مبالغ كبيرةً من أجل إخراج هذه القطع عبر الحدود وبتوجيهات مدروسة عبر الأقمار الصناعية”.
هذه العصابات حسب المتحدث، “تنشط على المستوى الدولي وترصد وفق دراسات قياسية عميقة أماكن تواجد تلك المجسّمات والقطع النيزكية، باستعمال تكنولوجيا حديثة وخرائط مدروسة قبل إغراء الشباب لتهريبها وبيعها بأثمان تصل إلى آلاف الدولارات، لكنها تبقى أقل من قيمتها بكثير”.
وما يؤكد ذلك يضيف خديري، “ما هو موجود في متاحف عالمية عدة، وبعض أسواق المزاد الإلكترونية والتي تعرض نيازك من الصحراء الجزائرية لبيعها”.
لذا يوجه محدّثنا رسالةً إلى السلطات الجزائرية، “للتعامل بحزم مع ما تتعرض له القطع النيزكية، ولكي تؤسس مجالس بحث رفيعة المستوى لتقفّي أماكن تواجدها واسترجاع ما يمكن استرجاعه من الخارج، خاصةً خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر بين 1830 و1962 للميلاد”.
توافدت بعثات علمية عديدة من إيطاليا وفرنسا للبحث، وأخرجت من الجزائر بطرق مشروعة وغير مشروعة مئات القطع النيزكية رفيعة الوزن والقيمة.
نيازك على قارعة الطريق
وما يؤكد أن الصحراء الجزائرية غنية بالقطع النيزكية، هو ما نشرته قاعدة البيانات العالمية للأحجار النيزكية في 7 أيار/ مايو الجاري، وذلك بعد اكتشاف صخور قمرية عدة في منطقة بشار وبالتحديد في عرق فراج في نواحي حماقير بالقرب من الطريق الوطني رقم 50 الرابط بين ولايتي بشار وتندوف جنوب غرب الجزائر.
وحسب المعلومات المنشورة، فقد تم اكتشاف ما لا يقلّ عن 15 كلغ (مقسمة إلى مئات الأجزاء الصغيرة)، من صخور قمرية في خمسة مواقع متقاربة كلها تابعة لولاية بشار التي تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن العاصمة الجزائر.
وقد سُمّيت تلك القطع وفق المنطقة التي اكتُشفت فيها، أي بشار 003 (2 كلغ)، وبشار 006 (7.21 كغ)، وبشار 007 (4 كلغ)، وبشار 009 (827 غ)، وبشار 010 (681 غ).
بالإضافة إلى ذلك، تم في المنطقة نفسها وبالقرب من المواقع ذاتها، اكتشاف 20 كلغ من حجر نيزكي سُمّي بشار 004، ولم يتم تصنيفه حتى الساعة، ويُرجّح أن يكون أيضاً من الصخور القمرية.
يؤكد مولاي شارف شابو، وهو باحث في معهد الهندسة وعلوم الأرض في جامعة فرحات عباس سطيف1 شرق الجزائر، لرصيف22، أن “النيازك المعروضة في الموقع ثمينة جداً كونها عبارةً عن صخور من نوع البرشيا الغنية بمعدن الفلدسبار، وهي صخور مركبة مكونة من أجزاء متكسرة ناتجة عن التصادمات النيزكية على سطح القمر”.
ملايين الدولارات تضيع
تأسّف شارف شابو، على الوضع الذي وصل إليه حال القطع النيزكية في الجزائر، كونها باتت بين أيدي المهرّبين والتجار عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر المواقع المعروفة شرقاً وغرباً، خاصةً موقع إيباي.
ولكم أن تتخيلوا، يضيف شابو، أنه يتم عرض القطع المكتشفة بسعر 12 يورو لكل 0.1 غرام، وبعملية بسيطة نجد أن السعر الذي وضعه البائعون مقابل القطع التي تم اكتشافها في بشار، أي لـ15 كلغ، يصل في الحصيلة النهائية إلى أكثر من مليون يورو، أي بالعملة المحلية زهاء 21 مليار سنتيم جزائري”.
وهذا في نظر الأستاذ المتخصص في النيازك جلول بلحاي، ليس بجديد على المشهد العام للقطع النيزكية في الجزائر، ففي عام 1991 تمكّن فريق من خبراء ألمان من اكتشاف منطقة في الصحراء تُسمّى العرق الأصفر تقع غرب منطقة عين صالح في جنوب الجزائر، واستطاع جمع نحو 450 نيزكاً، هي من أهم النيازك المعروفة حالياً في أوساط العلماء في العالم.
وبعد ذلك يقول: “توافدت بعثات علمية عديدة من إيطاليا وفرنسا للبحث، وأخرجت من الجزائر بطرق مشروعة وغير مشروعة مئات القطع النيزكية رفيعة الوزن والقيمة.
ويطالب الباحث، السلطات الجزائرية منذ 2002، بتضييق الخناق على المهرّبين والمتاجرين بهذه القطع بشتى الطرق، والحفاظ على هذه الكنوز هنا في الجزائر، مع المطالبة بتأسيس مرصد وطني للنيازك يضم باحثين جامعيين وأساتذة متخصصين من أجل إجراء دراسات واسعة على القطع النيزكية في الصحراء الجزائرية.
وعن قيمة القطع النيزكية التي جعلت أثمانها ملتهبةً، يقول الباحث مولاي شارف شابو، “إنها تحتوي معادن وغازات نادرة، غالبيتها قادمة من سطح القمر وبعض الكواكب الأخرى، بالإضافة إلى كونها تغني الباحثين عن الرحلات الفضائية المتكررة إلى الفضاء لإجراء دراسات بحثية، وهي الرحلات التي تتطلب مبالغ ماليةً فلكيةً”.
وتنتشر في الجزائر صفحات عدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تقوم ببيع النيازك وتلقى تفاعلاً كبيراً من قبل الشباب.
يُعدّ نيزك عرق شاش 2، الذي تم العثور عليه في أيار/ مايو 2020، في منطقة عرق شاش في ولاية أدرار جنوب غرب الجزائر، والذي أصبح محل دراسات عالمية، أقدم حجر قادم من خارج كوكب الأرض.
مليارات السنين في الصحراء الجزائرية
يُعدّ نيزك عرق شاش 2، الذي تم العثور عليه في أيار/ مايو 2020، في منطقة عرق شاش في ولاية أدرار جنوب غرب الجزائر، والذي أصبح محل دراسات عالمية، أقدم حجر قادم من خارج كوكب الأرض.
ووفق تقارير إعلامية عربية وأجنبية، فإن هناك دراسةً صادرةً في الدورية الأمريكية بروسيدنجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز Proceedings of the National Academy of Sciences PNAS، في عدد آذار/ مارس 2021، تشير إلى أن عمر هذا الحجر يعود إلى أكثر من 4 مليارات سنة، أي أنه أكبر من أقدم نيزك تم العثور عليه حتى الآن بمليون سنة، وهو فوق ذلك لا يشبه في تركيبته التي تغلب عليها مادة الصوديوم أي نيزك آخر.
والنيزك حسب الدراسة يحمل الكثير من الصفات والميزات التي تجعله فريداً من نوعه، فهو قادم من كوكب صغير كان في طور النمو ولم يكتمل، لأنه اصطدم بكويكب آخر وبذلك فهو يُعدّ دليلاً مادياً على وجود هذا الكويكب في وقت سابق.
وقام الباحثون بتصنيف هذا النيزك ضمن زمرة النيازك النارية التي يبلغ عددها حسب أرشيف النيازك العالمي 3،179 نيزكاً، لكن هذا النيزك يحمل صفات لم يرَ العلماء مثلها من قبل ما يجعله الأكثر ندرةً وغرابةً ويتطلب دراسةً أكبر وأعمق.
وما زالت النيازك ملتهبةً في سماء الجزائر كما في الصحراء الجزائرية، في مشهد أشبه بحرب تقتحم فيها النيازك الغلاف الجوي بقوة لترسو مشتعلةً قبل أن تخمد على الرمال الجزائرية الناعمة، إلى أن تصل إلى أيدي مهرّبين وتجار ليشعلوا لهيبها مجدداً عبر الأسواق وبأثمان خيالية كانت لتنعش الاقتصاد الجزائري لو وجدت مرصداً وطنياً مخصصاً لذلك، وسُيّر هذا المجال البحثي القيم بصرامة.
Comments are closed.