لبنان: نعم للمؤتمر التأسيسي!
محمد قواص في سكاي نيوز عربية: كان يجب أن يمر لبنان بحرب أهلية دموية دامت 15 عاما، قبل أن يتم إدخال بضعة إصلاحات دستورية لتعديل موازين الحكم في البلد. وكان لا بد من تقاطع إرادات دولية إقليمية لإنتاج قرار يوقف تلك الحرب. حُمل حينها “نواب الأمة” إلى مدينة الطائف السعودية، ودفعوا، وفق موازين القوى الميدانية، إلى إبرام، صفقة يتم التحاجج بها، لطيّ صفحة الحرب وفتح صفحة “الوصاية السورية”.
يعرف جيدا المطالبون بالمؤتمر التأسيسي هذه الأيام أن تحولا جذريا، يليق باسم ذلك المؤتمر، يحتاج إلى جراحات كبرى لا تأتي، عادة، إلا نتاج التحولات المحلية والإقليمية والدولية الكبرى، والتي قد يكون العنف والحروب وجولات التطهير من واجهاتها. ويعي “التأسيسيون” أن مطالبهم تتجاوز “الإصلاح” الدستوري الذي يرمم ويصوّب ويقوّم، وتنشد تغييرا في نظام الحكم وخريطة الحاكمين.
وإذا ما كانت حكاية ولادة الكيان اللبناني خضعت لإرادات عليا، فإن انتقاله من دستور الاستقلال إلى دستور الطائف جاء بناء على إرادات عليا أيضا. رأت تلك الإرادات أنه، وفق ظروف عام 1989، أي عشية اندثار الحرب الباردة وغياب المنظومة السوفياتية وامتداداتها الدولية، بات مطلوبا إخماد ذلك الحريق للشروع بمقاربة أولويات أخرى.
بناء على ذلك نزل الوحي على اللبنانيين لابتداع عقد إجتماعي جديد (أو مُحدث)، يعيد توزيع الحكم بين بارونات الحكم، وفق تعديلات لم يكن غيابها سببا لانفجار الحرب الأهلية عام 1975، ولم يكن إدخالها على متن الدستور سببا مقنعاً لإنهاء الاحتراب المتعدد الطبقات والأسباب والأطراف (الداخلية والخارجية) عام 1990.
ولئن كان في تعديل الدستور وجاهة تطرأ في تاريخ الشعوب وتطور بنيانها، إلا أن في المطالبة بمؤتمر تأسيسي ما هو وقاحة تقوم على بلطجة سياسية يمليها انتفاخ القوة أو الزعم بها.
والحال أنه لو جاء ذلك المطلب من جهة غير حزب الله، لكان الأمر قابلا للنقاش والتأويل والاجتهاد. بيد أن مطلب “التأسيس” لواقع متأسس منذ مئة عام، ينشد نفي قرن من التطور والتحول داخل كينونة البلاد، لصالح “أمر واقع” يقزم تاريخ المنطقة، وليس تاريخ لبنان فقط، ويجعل بدايته من لحظة حمل روح الله الخميني لجمهوريته الإسلامية إلى إيران.
والحال أن أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله طرح أمر المؤتمر، ثم ترك لمنابره التلويح بالمثالثة بدل المناصفة. لم يعد الرجل يتحدث كثيراً عن الأمر، تاركا لمنابره أيضا، وحرصا على حساسية حلفائه المسيحيين، نفي أي توجه نحو تلك المثالثة الشهيرة. بيد أن الأمر دخل قاموس السياسة في لبنان، وبات أي حدث أو تحول ينفخ حناجر المتوعدين بالمؤتمر التأسيسي بصفته عقاباً، وهو أمر لمح إليه حليف حزب الله سليمان فرنجية مؤخراً.
صحيح أن الدساتير ليست مقدسات مُنزلة وواجب تطويرها، لكن ما علاقة دستور لبنان بإدخال 2750 طنا من نيترات الامونيوم إلى مرفأ بيروت؟ وما مسؤولية الدستور في التواطؤ على الجرم وإهمال التصدي لأخطاره؟ وما علاقة نص الدستور بجرائم الاغتيال وزعزعة الأمن والترويج للفوضى وإهانة هيبة الدولة؟ وهل الدستور مسؤول عن الفراغ الرئاسي سابقا والفراغ الحكومي راهنا؟ وإذا ما قرر حزب الله بما يملكه من هيمنة على الحكم في لبنان، الدفع لتشكيل حكومة في لبنان وردع المعرقلين المزعومين فأي علاقة للدستور بالأمر؟ ثم ما هي قوة دستور جديد يُنتهك من القوى القاهرة كما يُنتهك الدستور الراهن؟
ولئن انفجر المجتمع اللبناني ثائرا ضد كل الطبقة السياسية منذ 17 اكتوبر 2019، فإن ذلك الغضب طال نظام الفساد والفاسدين، سواء في النسخة الرافضة للمؤتمر التأسيسي أو في النسخة المبشّرة به. ناهيك من أن تغيير النظام السياسي في البلد، تعديلا أو تأسيسا، لا ينال من الفساد وعفن منظوماته، بل أن ذلك العفن الذي استقوى بوصاية دمشق وترعرع في ظلها سابقا، احتمى لاحقا بالسلاح وتياره الممانع، حتى إذا ما صرخ الناس ضد الفساد خرجت “القمصان السود” الممانعة تتطوع لحماية المنظومة كلها من أي أذى.
في طبيعة حكم البلد خلل بنيوي حقيقي يتطلب “مؤتمرا تأسيسيا”. فأن تهيمن الدويلة على الدولة وأن تسيّر الميليشيا مسار ومصير البلد، فذلك إثم لا يقيم حضارة ولا يعمر أمة. وأن يقرر وزير خارجية السياسة الخارجية للبنان وفق نزقه وأهواء مرجعيته السياسية، وأن يمسك وزير الطاقة بقرار النور والعتمة وفق أجندات البزنس والمحاصصة، وأن تُسخّر وزارات الدولة خدماتها لصالح ذلك الحزب أو ذاك الزعيم، وأن يجري نهب ثروات البلد وسلب موارده، علنا دون خجل أو رقيب، وأن تستهين النخب الحاكمة بالمجتمع والشعب والطوائف، فتلك أعراض العبث والعدم والتي تستحق، وفق دروس التاريخ، ثورة وانقلابا، تطيح بالرؤوس وتأتي بنخبة حاكمة “تؤسس” وطنا من جديد.
غير أن أصحاب المؤتمر التأسيسي منذ أن توعّد به نصر الله لم يقدموا إلا كلام حق يراد به تثبيت الباطل الذي تعرف عليه اللبنانيون منذ اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، مرورا بمحاصرة السراي الحكومي وغزوة 7 أيار، انتهاء بحكم القوة وتصدير الميليشيا إلى سوريا وصولا إلى ميادين عبث أخرى. والمؤتمر الملوّح به لا ينال من فاسد ولا يهدف إلى قيام دولة القانون، بل إلى ترقية الدويلة إلى مرتبة الدولة وفق النسق الذي تنفخ به طهران داخل هلالها المنشود.
وإذا ما كانت موازين القوى هي التي تفرض التحولات وخطوط الخرائط، فهل ميزان قوة إيران المترنح في المنطقة يسمح لطهران بفرض “مؤتمر” يسعى أن يؤسس في لبنان لجمهوريتها العتيدة؟
Comments are closed.