الحكومة أمام خطر خفيّ واختبار مبكر: «بيئة إستراتيجية» ملتبسة ومتحركة

ولدت الحكومة في لحظة تقاطعات ومستجدات إقليمية ودولية، ومن ضمن توازنات أتاحت لتحالف حزب الله – الرئيس ميشال عون فرصة إخراج الحكومة إلى النور وأبعدت الرئيس سعد الحريري عن رئاسة الحكومة أو الشراكة في السلطة التنفيذية، وجاءت بالرئيس نجيب ميقاتي المحنك والمتمرس بالسياسة والمدرك لصيغة الحكم في لبنان بكل مرونتها وتعقيداتها. ولعل ما ميز الحكومة الجديدة قبل ولادتها وفي بداياتها هو كمية ونوعية التطورات الخارجية، أو ما يمكن تسميته «البيئة الاستراتيجية» التي ولدت في ظلها.

وهذه البيئة تبدو «ملتبسة مربكة وغير مستقرة وغير نهائية»، من الانسحاب الأميركي المثير في أفغانستان الى الانشغال الأميركي بترتيبات الوضع في آسيا الإسلامية في إطار إعادة الاعتبار الى السياسة الأميركية الناشطة في منطقة البحر الهادئ وتطويق الصين بعد أزمة كورونا التي لم تنته فصولا بعد، الى تهدئة التوتر في منطقة الشرق الأوسط سواء في العراق أو سورية وصولا الى لبنان، ومؤتمر بغداد الإقليمي الذي شارك فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وعبر بغداد، صار التواصل والاتفاق الفرنسي مع الإيرانيين ويبدو أن الحكومة اللبنانية كانت جزءا من هذا الاتفاق.. وما كادت باريس تحتفل بعقود «توتال» الضخمة مع العراق حتى داهمها إلغاء عقود الغواصات الضخمة مع أستراليا ونشب على خلفيته خلاف أميركي – فرنسي.

ما يعني لبنان، وتحديدا حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الجديدة، في كل هذه الصورة وما يمسه مباشرة، يتعلق بالتطورات التالية:

1 – مسألة التقارب بين لبنان وسورية على خلفية استجرار الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية الى لبنان. وهذه المسألة فتحت خطوط التواصل والتعاون رسميا بين البلدين للمرة الأولى منذ العام 2011. والمفارقة أن التوقف أو الانقطاع الذي حصل مع بدايات الحرب السورية، وكان سببا من أسباب سقوط حكومة ميقاتي آنذاك (عام 2013، وبعد تدخل حزب الله في الحرب مخالفا سياسة النأي بالنفس)، قد انتهى الآن ومع حكومة ميقاتي، وحيث إن الانفراج الذي طرأ على العلاقات اللبنانية – السورية لا ينحصر بموضوع الطاقة، وإنما سيتجاوزه إلى التنسيق في ملفات أخرى، ومنها ملف النازحين السوريين، وسيكون من ترجماته إحياء وتفعيل المجلس الأعلى اللبناني – السوري.

ولكن حكومة ميقاتي لا تواجه إحراجا كبيرا في هذا الموضوع، مع وجود نوع من الموافقة الأميركية أخذت شكل «ضوء أخضر» أو «قبة باط» لزيارة الوفد الوزاري الى دمشق وكسر «قانون قيصر»، أو التخفيف من قيوده ومفاعيله. ولكن ثمة سؤالا لايزال مطروحا وهو: هل هذه المرونة الأميركية من أجل إراحة الوضع الداخلي اللبناني وطمأنة الحلفاء، وفي إطار التنافس الدولي على الأرض اللبنانية؟! وهل تأتي بعد سقوط رهانات واشنطن على إضعاف حزب الله وتطويعه وحان وقت إعادة النظر وتخفيف إجراءات معاقبة لبنان في سياق سياسة معاقبة ومحاصرة حزب الله؟!

2 – استقدام النفط الإيراني الى لبنان عبر سورية. ولقد بدا واضحا أن التعاطي الأميركي مع موضوع إيران مختلف عن التعاطي مع موضوع سورية. وبعد فترة من الترقب جاء موقف إدارة بايدن ليكشف عن تحفظ شديد حيال خطوة استيراد النفط الإيراني. الأميركيون اعتبروا هذا التطور ينتهك السيادة اللبنانية لأن الحكومة اللبنانية لم تطلب أي نفط من الحكومة الإيرانية، ولأن استقدام الوقود من بلد خاضع لعقوبات واسعة النطاق مثل إيران ليس حلا مستداما لأزمة الطاقة، ولأن حزب الله يقوم بحملة استعراضية دعائية بهدف تحسين سمعته وصورته.

هذا الموقف الأميركي الذي ترافق مع عقوبات أميركية جديدة ضد عناصر من حزب الله، واكبه موقف للرئيس نجيب ميقاتي اعتبر فيه إدخال حزب الله النفط الإيراني بأنه انتهاك لسيادة لبنان، وقال: «أنا حزين، ولكن ليس لدي خوف من عقوبات على لبنان لأن العملية تمت بمعزل عن الحكومة اللبنانية». وهذا الموقف الرسمي اللبناني الأول الصادر بخصوص السفن الإيرانية، يوجه انتقادا ضمنيا لحزب الله ويرفع الغطاء الرسمي عن النفط الإيراني. ولكن ميقاتي أرفقه بالإشادة بخطوة إرسال النفط العراقي، وشكر العراق على هذه الخطوة التي تمت من ضمن الأطر الرسمية والحكومية، كما أرفقه بحث الأشقاء العرب على مساعدة لبنان وعدم تركه وحيدا، متعهدا بأن لبنان لم ولن يكون ساحة للإساءة الى الدول العربية.

3 – الخلاف الأميركي – الفرنسي الكبير على خلفية الدور الأميركي في إلغاء صفقة الغواصات بين فرنسا وأستراليا، وفي إعلان تحالف أمني استراتيجي جديد في المحيطين الهادئ والهندي شمل أميركا وبريطانيا وأستراليا وتجاهل فرنسا التي لها حضور في هذه المنطقة من العالم.

إذا كانت الحكومة الجديدة هي نتاج اتفاق إيراني – فرنسي بموافقة أو عدم ممانعة أميركية، فهل تفجر الخلاف الأميركي – الفرنسي ينعكس سلبا على لبنان وحكومته وعلى المبادرة الفرنسية العائدة بقوة دفع إيرانية؟!

كسبت فرنسا في العراق، بتمريرة إيرانية، صفقة بـ 27 مليار دولار. وخسرت في المقابل في أستراليا، بضربة أميركية، صفقة بـ 66 مليار دولار. فهل تكسب أم تخسر في لبنان، حيث هناك جملة مسائل خلافية بين فرنسا وأميركا:

  1. خلاف على موضوع الطاقة والتنقيب عن النفط. فإذا كانت فرنسا تسعى إلى تكرار تجربتها العراقية مع إيران في لبنان، ساعية إلى دور في ملف ترسيم الحدود، فإن واشنطن سارعت إلى دعم إسرائيل بعد فوز شركة أميركية بعمليات التنقيب عن النفط في المناطق المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل. وهنا تضع أميركا شرطا واضحا على لبنان: إما أن يلتزم باتفاق الإطار والشروط الموضوعة، وإما لن ينجح في الترسيم ولن يبدأ بالتنقيب.
  2. خلاف آخر حول مشروع إعادة إعمار المرفأ والفوز بمشاريع متعددة تسعى باريس إلى تحقيقها في لبنان. وهناك معلومات تؤكد أن الأميركيين لن يسمحوا بذلك حاليا، ولا يمكن لأي جهة أن تربح عملية إعادة الإعمار من خارج الشروط الأميركية. ومنذ إطلاق المبادرة الفرنسية، كان ماكرون مهتما بإعادة إعمار المرفأ، وبحجز حصة فرنسا على الساحة اللبنانية، من شركة cma cgm، إلى اصطحاب سمير عساف وطرحه مرشحا مستقبليا لحاكمية مصرف لبنان، إضافة إلى تركيزه على مصالح شركة «توتال» في ملف النفط. وهناك أيضا الاهتمام الفرنسي بالاتصالات وبكل ما له علاقة بالقطاعات الأساسية اقتصاديا وماليا في المرفأ والمطار، ومستقبلا قطاع الكهرباء.

وانطلاقا من هذه الاهتمامات لا بأس من البحث في إعادة تعويم الطبقة السياسية اللبنانية من خلال المبادرة الفرنسية، ولا حتى في مناقضتها بطرح عقد اجتماعي جديد، أو مؤتمر تأسيسي، أو تشكيل حكومة اختصاصيين، أو الرهان على المجتمع المدني وتهديد القوى السياسية بالعقوبات، والعودة فيما بعد إلى تجديد شرعية الطبقة السياسية بالبحث عن تسوية حكومية جديدة قادت إلى تكليف ميقاتي.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.