لقمان سليم «نائم» في… «مملكة الحرير»
يروي التاريخُ يوماً أن بلاداً جميلةً تُلاعِبُ قدماها البحرَ، وجفونُها تغفو على الهضاب، سكنها الضوءُ طويلاً ولَفَحَ عقلُها العالمَ، وقلبُها استدرج حبَّ الآخَرين حتى غدت لؤلؤةً يغار عليها الشعراء وتغار منها الذئاب.
لم تكن تلك البلاد «العاشقة والمعشوقة» لقمةً سائغةً يوم كان بين الجموع رجال. هزمتْ بسرّها دسائس، وروّض أهلُها وحوشاً كثيرةً، ونجتْ هذه الأعجوبة مراراً وتكراراً وهي تلهو بحلمها قبل أن يَصْرَعَها كاتمُ الصوت وإنقلاب الصورة.
لن يتستّر التاريخُ على الانقلاب وهو يقصّ حكايةَ لبنان ولسان حاله… كان يا ما كان في قديم الزمان، لبنان لم يعد كما كان… وفي آخِر تحديثٍ لأحداثه عن حضارةِ بلادٍ تحتضرُ، يهمس التاريخُ أن لقمان «دليلٌ آخَر» على ما أصاب لبنان من فلتان وقلة أمان وهذيان.
لقمان سليم في الروايةِ عن وطنٍ يعاند موتَه، اسمٌ حَرَكي لعشراتٍ سَبَقوه ولآخَرين على لوائح القتل، في بلادٍ كانت بيتاً بمنازلَ كثيرة ويُراد لها أن تصبح سجناً فوق الأجنحة المتكسّرة والأحلام المشلّعة، والأرواح المسروقة والمصير الضائع.
وفي الحبكة البوليسية، ربما لم تكن رصاصة واحدة تكفي لاغتيال العقل الرؤيوي فأُنزلتْ به 6 رصاصات، وكأن العقل المدبر أراد إعدامه ست مرات انتقاماً من نشاطه السياسي وفكره الموسوعي وشغفه بلبنان وحقوق الإنسان وتنقية الذاكرة.
وفي أصل الحكاية أنه في الرابع من هذا الشهر اغتيل لقمان تحت جنح ظلامِ ليلٍ تحكمه الظلامية، ولم تُكتشف الجريمة إلا في صباح نهارٍ نكّست شمسُه عينيْها حزناً على الاسترسال في نحْر قِيَمٍ، كأن في الأمر وصفة مسمومة لانتحارٍ جماعي ولو بعد حين.
بعد أسبوع على الغدر به، لم يغادر لقمان سليم دارتَه في حارة حريك (الضاحية الجنوبية لبيروت). دُفن في حديقة منزله، هو الذي كافح طويلاً لمنْع تحويل بلاده حديقةً خلفية، وربما أمامية لحروبٍ بالوكالة «زحل» معها لبنان من مكان إلى مكان وضاقت على وهجها الأمكنةُ والصدور والهوامش، وكذلك فسحة الأمل.
في حارة حريك «عاصمة المقاومة» التي كانت يوماً «مملكة حرير» لأعيان من المسيحيين والشيعة الذين امتهنوا تربية دود القز، دارة آل سليم الذين لا يشاطرون بيئة «حزب الله» من حولهم، الخيارات والمعتقدات والمزاج عينه. فثمة بروفايل سياسي – ثقافي مختلف إلى حد التناقض.
لم يهجر آل سليم البيتَ العتيق (عمره 250 عاماً)، المحروس بأشجار تكاد تكون نادرة في زمن الأسمنت. ولا التهديدات ولا التحرشات ولا النصائح دفعتْ لقمان المغدور إلى مغادرة صومعته ولن يغادرها بعدما صارت حديقتُها وطنَه الأبدي السرمدمي.
…. «هنا يحيا في الفردوس الأعلى بطل من لبنان»، عبارةٌ حفرها الوجعُ على لوحةٍ رخامية دائرية رُفعت فوق قبر لقمان، وكُتب عليها بيتٌ شعري للمتنبي ترنّم به أمام سيف الدولة «وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم».
لن تُسْدِلَ الصلاةُ الإسلامية – المسيحية على نية «النائم» الستارةَ على حكاية الرجل الذي كان مزيجاً من قِيَم الشجاعة والتواضع ومن ثقافات الشرق والغرب، فهو في مثواه الأخير صار دائم الحضور إلى جانب دار نشره (الجديد) ومؤسسته «أمم» للتوثيق وجمعية «هيا بنا» وهنغاره للمَعارض والحوار.
ولم يكن الحضور الديبلوماسي المرموق في وداع لقمان الأهمّ، رغم أهمية رمزيته في فهْم قرار قتْل الرجل المترامي الأفكار والعلاقات والأحلام. فربما الأكثر حفاوة أنه سيبقى في جوار والدته السيدة النبيلة سلمى مرشاق، وشقيقته سيدة الرصانة الكاتبة رشا الأمير، وزوجته الألمانية مونيكا بورغمان التي إختزلت اللحظة بـ «صفر خوف».
ولم تبالغ التعليقات على الإغتيال الصادم في جعل ما جرى بمثابة حَدَثين، الجريمة التي ربما تُسَجَّلُ «ضد مجهول»، والرقيّ الذي قابلت به عائلة لقمان الخنجرَ الذي أدمى قلوبها، فبدتْ مواقفُها وكأنها خارج النسَق الغرائزي – العنفي الشائع في البلاد.
فهذه العائلة أقرب إلى مختبر إنساني – ثقافي واجتماعي قلّ نظيره، سلمى مرشاق نشأت في مصر من أبويين مسيحيين، الأب من سورية والأم من لبنان واقترنت بالمحامي والنائب اللبناني الشيعي الراحل محسن سليم، أما لقمان «الموسوعي» المتزوج من ألمانية فدرس الفلسفة في السوربون الفرنسية ويتقن لغات عدة.
… رَحَلَ لقمان سليم البقية في حديقته وفي وجدان محبّيه.
الراي – من وسام ابو حرفوش
Comments are closed.