هكذا تحوّل رياض سلامة الـ MOST WANTED دولياً.. تَكَشُّف «صندوق الفضائح» يزيد متاعب لبنان
– تَكَشُّف «صندوق الفضائح» يزيد متاعب لبنان الرسمي في تحفيز الدول المانحة على دعم «سلة مثقوبة»
على طريقة عاصفةٌ تُسَلِّمُ عاصفةً تَقَلَّبَ المَشْهَدٌ في لبنان الذي لم يكد أن يحتوي «العاصفةَ الدموية» التي هبّتْ على كوع الكحالة ومازال «جمرها» السياسي يتأجّج بقوةٍ، حتى دهمتْه عاصفة ذات طبيعة مالية أطلّت من «أعماق» الانهيار الأعتى الذي يضرب البلادَ على متن تدقيق جنائي بدا أشبه بـ «رأس جبل الجليد»، المالي والسياسي، الذي مازالت التايتنيك اللبنانية «تقاوم جاذبية» الارتطام به.
وفيما كان البحثُ والتَحَرّي على أشدّه عن «الصندوق الأسود» لأحداث الكحالة (سقط فيها أحد أبناء الكحالة وعنصر من «حزب الله») ومصير شحنة الذخائر التابعة لحزب التي صارت في عهدة الجيش اللبناني بعد مواجهات الأربعاء بين أهالي المنطقة وعناصر كانوا مولجين حماية الشاحنة قبل انقلابها، لم يكن سهلاً التقصَي عن كامل حيثيات التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان المركزي وجداوله البيانية والمحاسبية والذي أنجزتْه المؤسسة الدولية المختصة «الفاريز أند مارسال» بعد أسبوعين فقط من مغادرة رياض سلامة موقعه، مختتماً الولاية القانونية الخامسة وثلاثة عقود متتالية على رأس هرم السلطة النقدية.
وإذ بدا شبه مستحيل أن تجد في لبنان، وحتى في أوساط المعنيين من مصرفيين وخبراء، مَن نجح في الالمام بكل تفاصيل التدقيق الجنائي، بدا عصياً على الادراك الموضوعي وأيضاً غير قابل لاحتمال «الصدفة»، أن يتحول الحاكم الأفضل في العالم بشهاداتِ مؤسسات دولية المطلوب المصرفي الأول محلياً ودولياً، ثم يتكفل التقرير المنجَز بإطلاق صافرة التنافس السياسي والاعلامي وحتى العام، على «محاكمة» سلامة، بالتزامن مع صدور حزمة عقوبات بحقه من السلطات المالية والرقابية ذات الصلاحية في أميركا وبريطانيا وكندا، لتضاف الى اتهامات ومذكرات توقيف دولية غيابية صادرة من دول أوروبية، ولا سيما فرنسا والمانيا ولوكسمبورغ وسويسرا وسواها، ومحاكمات مفتوحة ومتعددة «القاعات» و«المرجعيات» في لبنان.
وعلى خط البداية، ووفق التعليمات المسبقة من رئيسيْ مجلس النواب نبيه برّي والحكومة نجيب ميقاتي، سارَعَ وزير المال يوسف الخليل، وبوصفه الطرف الأول في العقد المبرم مع الشركة الدولية، الى تسليمهما التقرير، ليجد طريقه فوراً وعبر البريد الإلكتروني إلى جميع الوزراء والنواب، ويستقرّ أسرع من المراسلات «البرقية» في المواقع الاخبارية ووسائل الإعلام من دون إمكان الترجمة الفورية من الانكليزية الى العربية او تعزيزه بتعليقات الخبراء والمحللين. بينما تَكَفَّلَ نشر المستندات بصيغة (PDF)، بانطلاق رحلة البحث عن وجهة المندرجات والاتهامات وما تكشفه من أسرار وخفايا.
وقد يبدو القرار النافذ ظاهرياً بإفشاء التقرير ومحتوياته، تحولاً نوعياً أصاب الإدارة السياسية للبلد على حين غرّة، فاختارتْ سلوكَ قواعد الحوكمة الرشيدة في الإفصاح والشفافية، لكن الإيعاز شبه المنظّم سياسياً وإعلامياً بالتركيز حصراً على جسامة الارتكابات المالية التي تطاول سلامة وتجاوزاته الموثّقة في الإدارة المنفردة لسلطة النقد وسياساتها، أثار شبهاتٍ حول تَعَمُّدِ التعمية على أسئلة جدلية ومحورية تتعلق أساساً بمسؤولية الدولة في التدقيق والمحاسبة، ثم بتكريسٍ متمادٍ لواقع وحكم «المال السائب»، عبرالتغطيات التشريعية والقانونية للإنفاق العام والاستدانة المفرطة من المركزي والبنوك.
وليس خافياً ان الحكومات المتعاقبة على مدار ولايات سلامة في الحاكمية منذ العام 1993، فوّضتْه مع محض الثقة المطلقة، وبنصوص بياناتٍ وزارية، أولوية حفظ الاستقرار النقدي وعدم السماح بأي تعديل في سعر الليرة، واستطراداً فعل ما يشاء «وما يلزم» في إدارة الاحتياطات وتنفيذ هنْدسات مالية مريبة في الأعوام الأخيرة، ما دام يلتزم بتلبية مصالح «منظومة» الحُكْم والاحتياجات المالية للوزارات والإدارات بالعملة الوطنية والصعبة، فضلاً عن مكرماتِ حماية الفساد والهدر والعقود بالتراضي في غالبية الصنديق والوزارات والإدارات العامة.
وأكد رئيس لجنة المال والموازنة النيابية ابراهيم كنعان أرجحية هذه المعادلة في معرض تعليقه على التقرير المنجز، فحض القضاء على القيام بواجباته، وصولاً للمحاسبة وتكريس حقوق المودعين المسلوبة بدل اعتبارها «خسائر»، وهي التزامات بذمة الدولة ومصرف لبنان والمصارف، ومبيناً أن المضمون «فضح – كما فعلنا – لعبة الاختلاف على تحديدها بين الحكومات ومصرف لبنان الذين تهرّبوا بالتكافل والتضامن حتى الساعة، ومنذ أربع سنوات، من إجراء المسح الشامل على موجودات المصارف ومصرف لبنان والدولة، كما إقرار الصندوق الائتماني الغائب من خطط الحكومة للإجهاز على حقوق اللبنانيين الأساسية والمشروعة».
ويقع التقرير في 332 صفحة، مغطياً في فصوله الـ 14، خلاصات التدقيق المحاسبي الجنائي للفترة من 2015 الى العام 2020 فقد، ومعزَّزاً بجداول وبيانات مالية تَفْصُل بين الحسابات الشخصية للحاكم السابق من ودائع وتحويلات، وميزانية البنك المركزي التي تشمل احتياطات العملات الصعبة، وبنود الموازنة، والهندسات المالية، وحسابات الجهاز المصرفي والمؤسسات المالية لدى المركزي، فضلاً عن قيود النفقات ومخصصات إدارة المؤسسة وموظفيها.
ويَظهر من التقصي والمقارنة بين الأرقام وفق الميزانيات السنوية، أن المركزي كان يحوز فوائض في الاحتياطات تزيد بمقدار 7.2 مليار دولار في السنة الأولى الخاضعة للتدقيق، اي في 2015، ليسجل بعدها نزفاً دراماتيكياً أفضى الى توثيق عجز بنحو 50.7 مليار دولار وفق السعر الرسمي حينها، أي 1507 ليرات لكل دولار.
مع ملاحظة إغفال تطور مهم يتمثل ببدء سعر صرف الليرة رحلة الانهيارات الكبيرة في ربيع 2020 بالتزامن مع إقدام الحكومة السابقة على إشهار قرارها بوقف سداد متوجبات سندات الدين الحكومية بالدولار، والبالغة بمجموعها نحو 31 ملياراً.
وبرز مكمن الشبهة ومحور الاتهامات القضائية التي تلاحق سلامة وشركاء من الأقرباء والمقربين، في إثبات حصول شركة «فوري» التي يديرها رجا سلامة (شقيق الحاكم السابق) على دفعات مبالغ بإجمالي 333 مليون دولار لقاء عمولات غير معلنة او موثقة في القيود ذات الصلة، على بيع سندات دين حكومية من مصارف وشركات محلية وخارجية.
ومع التنويه بتعذُّر التحقق من المستندات وتفاصيل التحويلات الخاصة بمبلغ 111 مليون دولار من أصل الـ 333 مليوناً تم تحويلها عبر ستة مصارف محلية ومصرف سويسري واحد، بيّنت عمليات التدقيق في الحسابات الشخصية للحاكم السابق في البنك المركزي، تحويلات متتالية الى بنك سويسري بمتوسط سنوي بلغ 16.5 مليون دولار على مدى ست سنوات بالتتابع، اي بمجموع يناهز 99 مليون دولار.
كما ورد في المعطيات الرقمية أن كلفة الهندسات المالية التي نفذها مصرف لبنان وصلت الى اجمالي 115 تريليون ليرة، اي نحو 76 مليار دولار وفق السعر الرسمي السابق لليرة. لكن مصرف لبنان لم يقر بكامل هذه المبالغ، مبيناً أن أجزاء كبيرة من الأكلاف مسترَدّة فعلاً أو قابلة للاسترداد.
ومن منطلق ضرورات الفصل المنهجي بين ارتكابات سلامة والشهية المفتوحة لمنظومة الحكم على مقدرات البلد واقتصاده وموارد الخزينة وصولاً الى أموال المودعين في المصارف من مقيمين وغير مقيمين، ومن لبنانيين والكثير من الأشقاء العرب، افراداً ومؤسسات، يفترض توالي تسليط الأضواء على محطات محورية واردة في التقرير، وجداول اضافية ناطقة بتحويلات المبالغ الهائلة الى الدولة ومؤسساتها وفي طليعتها مؤسسة الكهرباء ووزارة الطاقة (أكثر من 24 مليار دولار) التي تجسد «الثقب الأسود» في المالية العامة.
ولم تقل دلالة إشارة التقرير إلى «إخفاء آثار» التفريط بالأموال لإظهار أن مصرف لبنان مؤسسة رابحة، وتضمّنه لائحة بأسماء شخصيات سياسية وإعلامية ومؤسسات وجمعيات، استفادت كلها بدعم مالي يفوق 100 ألف دولار بين 2015 والعام 2020.
أما في الخلاصة التشاركية التي يمكن تعميمها على مجمل مؤسسات القطاع العام، فقد أكد تقرير التدقيق ان البنك المركزي «يفتقد الرقابة الداخلية الفاعلة والشفافية اللتين يفترض تطبيقهما.
ولذا فهي توصي بـالحفاظ على الرقابة على مصرف لبنان من قِبَل الهيئات الخارجية، وإجراء إشراف وتدقيق برلماني أكبر وإجراء مراجعة منهجية مستقلة بتكليف من وزارة المالية، وإيجاد آلية مساءَلة قوية تطلب من البنك المركزي تقديم حساب للقرارات المتّخذة أثناء تنفيذ مسؤولياته».
وثمة مَن تعاطى مع التقرير والعقوبات الأميركية – البريطانية – الكندية على سلامة، والتي قد تكون لها «تتمات» قريباً – على أنها تشكّل إدانة لمنظومة الحُكم في غالبية مكوّناتها، وتالياً من غير المستبعد أن يكون لهذا «العقاب» الدوليّ تداعيات على مسار النهوض بالبلاد والذي يرتكز على دعم من الدول المانحة التي يصعب تَصَوُّر أن تضع قرشاً في السلّة اللبنانية المثقوبة، وقبل الاستجابة الى الدفتر الشروط الإصلاحي الصارم، هذا إذا كان مازال ممكناً لحكومات هذه الدول إقناع «دافعي الضرائب» بصوابية تكرار تجارب رفْد لبنان بالدعم على قاعدة «اللي جرّب المجرّب».
Comments are closed.