الراعي: الحديث الرسمي يدور حول تعطيل النصاب.. الأمر الذي يسقط الدولة في أزمات أعمق
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس تجديد تكريس لبنان والشرق لقلب يسوع الأقدس ولقلب مريم الطاهر في بازيليك سيدة لبنان حريصا، عاونه فيه لفيف من المطارنة والكهنة، بمشاركة عدد من المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات والكهنة والراهبات ، في حضور حشد من الفعاليات والمؤمنين من مختلف المناطق اللبنانية.
بعد الإنجيل ألقى الراعي عظة بعنوان “من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه، وأنا أحبه، وعنده نجعل منزلا” (يو 14: 21 و 24). وقال: “إن كلام الله مختصر بوصية واحدة: “أن نحب الله من كل قلبنا ونفسنا وعقلنا وإرادتنا، ونحب الآخرين كما نحب نفوسنا” (راجع لو 10: 27). وتجد هذه الوصية مساحتها في الوصايا العشر ومن بينها ثلاث أول تختص بمحبتنا لله، وسبع أخر تختص بمحبتنا للإنسان. وهذا يدل على رفعة كرامة الشخص البشري وقدسيته. فكانت المبادرة الإلهية أن جعلته مسكنا لله، مسكن حب متبادل، أكده الرب يسوع بكلامه في إنجيل اليوم: “من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه، وأنا أحبه، وعنده نجعل منزلا” (يو 14: 21 و 24)
أضاف: “نحتفل اليوم بتجديد تكريس لبنان والشرق الأوسط لقلب يسوع الأقدس ولقلب مريم الطاهر، الذي سبقه تطواف بالقربان المقدس شارك فيه عدد من المؤمنين والمؤمنات وعلى رأسهم أساقفة وكهنة. إننا بفعل التكريس نلتمس عطف الرحمة الإلهية لكي تشمل المؤمنين والمؤمنات مواطني لبنان وبلدان الشرق الأوسط، والمسؤولين المدنيين بمس ضمائرهم بروح المسؤولية، كما تشمل الأرض والمؤسسات لكي تكون واحات سلام وعدالة واستقرار وخير وعيش كريم للجميع. ونحن على يقين من أن، بفعل التكريس، المسيح الفادي والمخلص والرحوم والسيدة العذراء أم الرحمة وسلطانة السلام، لا يتركان وطننا وهذه البلدان فريسة الحروب والجوع والتهجير والظلم والأزمات السياسية والإقتصادية والمالية والإجتماعية”.
وتابع: “فليعلم المسؤولون السياسيون أنهم لا يستطيعون المضي في إهمال إرادة الله بشأن خير كل إنسان، إذا واصلوا حروبهم، ونزاعاتهم وسعيهم إلى مصالحهم الشخصية والفئوية وإهمال واجباتهم لجهة تأمين حقوق المواطنين الأساسية، والعمل على النمو والرقي للإنسان والمجتمع”.
وقال: “في رحاب سيدة لبنان، نتطلع إلى أمنا مريم العذراء المتلألئة ببياضها الخارجي علامة للجميع ببياضها الداخلي الذي لا يوصف ولا يرى، بفعل سكنى الله الواحد والثالوث في داخلها الذي جعلها “ممتلئة نعمة”. إنها سلطانة جميع القديسين “المتلألئين معها كالشمس في ملكوت الآب” (راجع متى 13: 43). إن ارتفاعها على قمة حريصا دعوة دائمة إلى حفظ نفوسنا مسكنا لله، وهيكلا للروح القدس الذي “يعلمنا كل الحقيقة” (يو 14: 26) محبة الله هي المقياس لحفظ وصاياه، حسب تأكيد الرب يسوع: “من كانت عنده وصاياي ويحفظها، فذاك يحبني” (يو 14: 21). هذه المحبة هي من ثمار الروح القدس. تسمى حسب اللفظة اليونانية Agapé، واللاتينية Caritas وهي الحب المجاني، المتجرد، السخي، حب الله الذي نحن مدعوون لنشارك فيه ونتقاسمه، وهو في جوهره عطاء الذات. هذا الحب ينقي الحب الشهواني: كحب المال والسلطة والجنس والمصالح والغرائز والبطن … الحب الشهواني هو حب امتلاكي متأصل في كل إنسان، لكنه يحتاج إلى أن ينقيه الحب المنحدر من الله، هذا الحب يجرد الإنسان من أنانيته ويدفع به إلى اكتشاف الآخر، والذي هو أولا الله ثم الإنسان، كما يدفع به إلى البحث عن خيره وبذل الذات في سبيله (البابا بندكتوس السادس عشر: “الله محبة”، 2-7)
أضاف: “ربنا يسوع المسيح هو القدوة الكاملة للحب-Agapé: “فأحب حتى النهاية” (يو 13: 1) وخدم وبذل نفسه عن الكثيرين (متى 20: 28). لقد تجلت فيه محبة الله التي تخلق وتغفر وتبرر. وبلغت المحبة الإلهية ذروتها في التجسد والفداء، إذ صار الله إنسانا وافتدى الإنسان، محررا إياه من كل العبوديات، بدءا من العبودية لذاته، ولمصالحه الرخيصة التي يضحي في سبيلها بالصالح العام، ومن العبودية لغرائزه التي تطفئ فيه شعلة الروح القادرة على أن تسمو به إلى مستوى كرامة أبناء الله. واستمرت محبة الله حاضرة في التاريخ وفاعلة في كل إنسان من خلال سر الإفخارستيا حيث تستمر وتتواصل ذبيحة الفداء ووليمة الحياة الإلهية فينا، على مائدة كلمة الحياة، ومائدة جسد الرب ودمه. سر الإفخارستيا يشركنا في دينامية الكلمة المتجسد، يسوع المسيح وفي تقدمته الذاتية (Agapé). في هذا السر نتناول محبة الله التي تسري من خلالنا إلى الآخرين، فتصبح محبتنا الشخصية، وهكذا تتحول الأنانية إلى Agapé (راجع “الله محبة”، 12-15).
وتابع:”ينظر اللبنانيون المقيمون والمنتشرون، كما سواهم من الدول المحبة للبنان إلى الأربعاء المقبل الرابع عشر من حزيران. وهو يوم يدخل فيه النواب مجلسهم لإنتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ ثمانية أشهر في سدة الرئاسة، فيما أوصال الدولة تتفكك، والشعب يجوع، وقوانا الحية تهاجر، والعالم يستهجن هذه الممارسة الغريبة للسياسة في لبنان النموذج أصلا بدستوره. الشعب ينتظر انتخاب رئيس، فيما الحديث الرسمي بكل أسف يدور حول تعطيل النصاب، الأمر الذي يلغي الحركة الديمقراطية، ويزيد الشرخ في البلاد ويسقط الدولة في أزمات أعمق. إن سعينا في البطريركية لدى كل الأفرقاء يهدف إلى انتزاع روح التحدي والعداوة وأسلوب الفرض على الآخرين. وإننا نحرص على أن يبقى الاستحقاق الرئاسي محطة في مسار العملية الديموقراطية، المطبوعة بروح الوفاق الوطني والاخوة الوطنية، الضامنة لوحدة لبنان بجميع أبنائه، وان اختلفوا في الخيارات الانتخابية، وهذا أمر طبيعي. وما يعزز هذا الحرص هو أن كل الاطراف السياسية، والمرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية، يعتمدون لغة التوافق والحوار بعيدا عن كل أشكال التحديات والانقسامات الفئوية أو الطائفية. ونطلب من وسائل الإتصال الإجتماعي احترام الحقيقة وعدم تأجيج نار الفتنة بالأكاذيب، واقتناص الكلمات من خارج سياقها”.
وختم الراعي: “إن تجديد تكريس لبنان وشعبه لقلب يسوع الأقدس ولقلب مريم الطاهر، يملأنا ثقة بثمار هذا التكريس، تمجيدا للثالوث الأقدس للآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد”.
رئيس المزار
وكان رئيس مزار سيدة لبنان الاب فادي تابت القى كلمة في بداية القداس قال فيها:
“إسمحوا لي، بداية يا صاحب الغبطة أن أعرب عن عميق الإمتنان لوجودكم بيننا للسنة العاشرة، لترؤسكم قداس تكريس لبنان والشرق الأوسط لقلب مريم الطاهر، حفاظا على تقليد بدأتموه منذ السنين الاولى لتبوئكم السدة البطريركية ايمانا منكم انه لا خلاص للبنان إلا من السماء، فبعد ان فشلت لغة الارض، سلمتموه إلى سلطانة الأرض والسماء، شفيعة له عند ابنها، كي يمنحنا سلامه الحقيقي الذي نتوق اليه، هو القائل لنا «سلامي اعطيكم سلامي امنحه لكم لا كما يعطيه العالم اعطيكم انا».
أضاف: “في هذا المزار، نحن في إصغاء دائم لمريم، التي أرشدتنا في قانا بالطلب: “إفعلوا ما يأمركم به!”، وطلب مريم منا في عرس وطننا الذي نقصت فيه خمرة الفرح أن نكون لبنانيين لنعيد الفرح المفقود إلى أرضه. أن نكون لبنانيين: هذا لا يعني أن تكون لدينا سماء من دون عواصف. إنه إستنباط القوة في المغفرة، وإرساء المحبة حيث هناك خلافات. إنه عبور الصحاري خارج الذات، والقدرة على العثور على واحة في أعماق روحنا. إنه شكر الله كل صباح على معجزة الحياة. هذه الدعوة حديثة كما هي أبدية. إنها دعوة لشعبنا وشعوب منطقتنا فحواها إعتناق قيم المعرفة المشتركة، وإدراك وعي الآخر لها، نحن نقدم معا كلمة مشتركة. هذه الكلمة، نحن مصممون على أن نحياها رسالة نطمح في توجيهها إلى العالم… الذي يحاول الاستجابة لنداء جميع الشعوب نحو السلام، الذي هو التجدد الحقيقي للإنسانية، نعم إن أرضنا وشرقنا والعالم كله بحاجة إلى سلام إلهي بنعكس سلاما على أرض البشر”.
وتابع: “في هذا المقام المقدس الذي استقبل ثلاثة باباوات: قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرون، حين كان لا يزال الكاردينال رونكالي، بصفته ممثلا لقداسة البابا بيوس الثاني عشر؛ والبابا القديس يوحنا بولس الثاني؛ والبابا بنديكتوس السادس عشر، نعلن معا أن “الكنيسة ليست لاتينية ولا يونانية ولا سلافية، إنها كاثوليكية”، كما قال البابا بنديكتوس الخامس عشر عندما قرر في الأول من أيار العام 1917 تأسيس مجمع الكنائس الشرقية الذي سبق أن أعلن إنشاءه البابا بيوس التاسع في 6 كانون الثاني العام 1862”.
وقال: “نعلن أن هذا الوطن الصغير لبنان الذي يحمل في قلبه ثماني عشرة طائفة موزعة على مساحته الـ١٠٤٥٢ كلم مربع هو وطن واحد لكل أبنائه بتنوعهم لأنه أكبر من وطن، إنه رسالة محبة، كما قال عنه البابا القديس يوحنا بولس الثاني. ورسالة هذا الوطن الصغير أن يكون خميرة بأرضه وأرزه وتراثه، تعبق منه روائح التاريخ، وتشهد عليه شجرة أرز ضارب بأصله في أعمالق صخر جلمود كأساسات لبنان، وفي هواه يسكن السلام، وفي بيوته يغفو الأمل ويصحو كل يوم ليعلن إشراقة شمس الحياة من جديد، وفي تفاصيله يسكن الجمال الخالد الذي لا يموت”.
وختم: “فلتكن هذه الذبيحة الإلهية اليوم، والتي تترأسونها يا صاحب الغبطة، دعوة لشفاء وطننا لبنان والشرق الاوسط والعالم. دعوة للسلام من أجل مستقبل أفضل.
ولتكن هذه الذبيحة الإلهية، بليتورجيتها، وترانيمها، وصلواتها البالغة الجمال، نشيد مريم، الذي من خلاله نسبح الرب وعمله الخلاصي في حياتنا”.
Comments are closed.