ما هو مصير ودائع السوريين في لبنان بعد سقوط الأسد؟
قبل اندلاع الأزمة المالية في لبنان عام 2019، قدّرت تقارير غير رسمية حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية بما يتراوح بين 40 مليار دولار و50 ملياراً. في حين قدرها بشار الأسد بما بين 20 مليار دولار و42 ملياراً، وذلك في شهر نوفمبر عام 2020.
هذه الأموال الضخمة التي هربت بسبب تداعيات الحرب الاهلية في سورية وسياسة مصادرة الأموال التي تبناها الرئيس الهارب شكّلت شريانًا اقتصاديًا أساسيًا للمستثمرين ورجال الأعمال السوريين، وباتت اليوم رهينة النظام المصرفي اللبناني المتأزم، مع القيود المشددة التي فرضتها المصارف اللبنانية على عمليات السحب والتحويلات منذ بدء الأزمة المالية قبل نحو خمس سنوات.
تشكّل أزمة هذه الودائع نقطة التقاء مؤلمة بين الاقتصادين اللبناني والسوري، حيث ساهمت الأحداث الأخيرة في سورية، بما فيها التصعيد العسكري وسقوط نظام بشار الأسد وتدهور الوضع الاقتصادي بعد أكثر من عقد على الصراع، في تعميق حاجة الاقتصاد السوري إلى العملة الصعبة.
ربع الودائع في مصارف لبنان
بحسب التقارير الصادرة عن مصرف لبنان واتحاد المصارف العربية، فإن الودائع السورية شكّلت بين 20% إلى 25% من إجمالي ودائع المصارف اللبنانية قبل الأزمة. لكن الأزمة المصرفية المستفحلة في لبنان وتراجع احتياطيات مصرف لبنان من 36 مليار دولار في عام 2016 إلى نحو ثمانية مليارات دولار في 2024 جعلا استرداد الودائع شبه مستحيل. وفوق ذلك، كانت تخشى المصارف اللبنانية خرق “قانون قيصر” الأميركي الذي يفرض عقوبات صارمة على أي تعاملات مالية مرتبطة بالنظام السوري.
ومع التصعيد الأخير في سورية وسقوط نظام الأسد واستمرار الأزمة في لبنان، يتشابك الوضع المالي بين البلدين. في حين أن السلطات اللبنانية تصرّح بأن جميع المودعين متساوون في المعاناة، وسط غياب إرادة سياسية مشتركة ورؤية اقتصادية واضحة، تبقى الودائع السورية في المصارف اللبنانية رهينة للواقع الإقليمي والدولي، ما قد يزيد من حدة التوتر الاقتصادي بين البلدين في وقت تشتد فيه الأزمات وتغيب فيه الحلول الجذرية.
اقتصاد الناس
اعتبر أحد المودعين المقيمين في لبنان، ورفض ذكر أسمه لـ”العربي الجديد”، أن التقديرات التي تشير إلى حجم الودائع السورية في المصارف اللبنانية لا يمكن الأخذ بها، لأنه يقسم بين مودعين معارضين ومودعين كانوا مؤيدين للنظام قبل سقوطه، موضحاً أن السرية المصرفية تحول دون الكشف عن الأرقام الحقيقية لهذه الودائع.
ومع سياسات حزب البعث وحكم حافظ الأسد وبشار الأسد، أصبح لبنان الخيار المثالي لرجال الأعمال السوريين، نظرًا إلى تسهيلات التحويل المالي وعمليات الاستيراد والتصدير التي يتيحها القطاع المصرفي اللبناني.
وتابع حديثه بالإشارة إلى ردود الأفعال السلبية التي أثارها تعميم الجديد الصادر عن مصرف لبنان المركزي رقم 158 بين المودعين. ورغم ذلك، يعتبر البعض أن القرار يشكّل خطوة، ولو بسيطة، نحو تحسين الأوضاع، وقد يساهم في استعادة بعض المصداقية للنظام المصرفي اللبناني، لكنه يشدد على أن المبلغ الذي يسمح التعميم بسحبه يبقى ضمن إطار “الخيال”، في ظل تعقيد الأزمات الراهنة.
لا تمييز بين المودعين
ومصرفياً، قال الخبير الاقتصادي أنطوان فرح، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، إنه لا يوجد ترابط مباشر بين ما يُعرف بالودائع السورية في المصارف اللبنانية، أو بالأحرى ودائع السوريين، وبين طبيعة النظام في سورية. وأوضح أن الخطط التي تضعها الحكومة اللبنانية لمعالجة الأزمة المالية لا تعتمد التمييز بين الودائع على أساس الجنسية، سواء كان المودع عربيًا أو لبنانيًا أو أجنبيًا، فإن الحلول تُطبق على الجميع بالتساوي، من دون أولوية لفئة على أخرى بناءً على الجنسية.
ووفق فرح، فإن “المصارف اللبنانية لا تستطيع تخفيف القيود المفروضة على المودعين السوريين تحديدًا، لأن هذه القيود عامة وتُطبق على كل المودعين نتيجة الأزمة الاقتصادية وانهيار القطاع المالي في البلاد. وبالتالي، فإن أي حل شامل لمجموع الودائع سيشمل المودعين السوريين كما يشمل غيرهم، من دون أي تمييز”. كما أكد أن الدولة السورية في حال تغيّر نظامها لن تكون قادرة على فرض واقع جديد أو المطالبة بمعاملة خاصة للمودعين السوريين لا تشمل الآخرين.
وأشار إلى أنه من غير المرجح أن يتحول هذا الملف إلى وسيلة ضغط أو أزمة في أي حوار بين الحكومتين اللبنانية والسورية، إلا في حال قررت الحكومة السورية الادعاء بأن بعض الإيداعات التي وضعها السوريون تعود إلى الحكومة السورية نفسها، وتُعتبر أموالًا منهوبة من سورية ومودعة في المصارف اللبنانية.
ووصف الخبير الاقتصادي اللبناني هذا المسار بأنه معقد وصعب الإثبات، حتى لو تمكنت الحكومة السورية من إصدار أحكام ضد بعض الأشخاص باعتبارهم فاسدين وسارقين للمال العام السوري، فإن أقصى ما يمكن تحقيقه هو تحويل هذه الأموال إلى اسم الحكومة السورية، لكنها ستظل خاضعة للحل الشامل الذي تنتظره كل الودائع.
وأوضح فرح أن لبنان شهد محاولات عدة لإحالة هذا الملف إلى القضاء، لكن تبين أن الأزمة ذات طابع نظامي، والدولة اللبنانية هي المسؤولة الأولى عن معالجتها، والقضاء اللبناني لم يفصل في هذا الملف حتى الآن.
كما استبعد فرح أي تدخل خارجي في هذا الملف، مشيرًا إلى أن هناك دولًا كبرى لديها مودعون من جنسياتها، وأموالهم عالقة في المصارف اللبنانية من دون قدرة هذه الدول على التدخل الفعلي.
وأسلف فرح حديثه بالإشارة إلى استحالة رفع قضايا قضائية من قبل الحكومة السورية طالما أن الأزمة نظامية وتمس الاقتصاد اللبناني بالكامل مع القطاع المالي، وأن الحل النهائي يقتضي من الدولة اللبنانية تحمل جزء من الخسائر باعتبارها الجهة المسؤولة عن إنفاق أموال المودعين.
ولفت إلى أن المصارف اللبنانية لديها ديون مستحقة على مصرف لبنان بقيمة 86 مليار دولار، فيما يقول مصرف لبنان إن الدولة مدينة له بحوالي 75 مليار دولار.
وفي السياق، صرّح أحد المودعين السوريين المقيمين في لبنان بأنه في سورية، كان التعامل بالدولار ممنوعًا، ما دفعه إلى نقل أمواله إلى لبنان وإيداعها في أحد المصارف اللبنانية في عام 2014. وأوضح أنه بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان عام 2019، لم يتمكن من سحب ودائعه لمدة ستة أشهر.
وأضاف أنه “في وقت لاحق، صدر تعميم سمح له بسحب مبلغ 400 دولار شهريًا بالإضافة إلى 400 دولار أخرى تُحسب على أساس سعر صرف الليرة اللبنانية لمدة عام كامل. أما في عام 2023، فقد تغير الوضع ليصبح سقف السحب الشهري 300 دولار فقط”.
تقديرات بـ40 مليار دولار
من جانبه، أفاد رئيس جمعية المودعين حسين مغنية، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، بأنه يجب تقسيم ودائع السوريين في المصارف اللبنانية إلى قسمين: الأول يشمل الودائع المشروعة التي يُعرف أصحابها، والثاني يضم ودائع أشخاص نافذين ومقربين سياسيًا من النظام السوري السابق، حيث وُضعت هذه الأموال بأسماء أشخاص وهميين أو أقرباء، وليس بأسماء أصحابها الحقيقيين.
وأضاف: لذلك، لا يمكن تحديد الحجم الدقيق لودائع السوريين، لافتاً إلى تصريح رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد قبل عامين، حينما قال إن قيمة الودائع السورية في المصارف اللبنانية تبلغ 40 مليار دولار، إلا أن الرقم الفعلي أقل من ذلك بكثير، مؤكداً أن هناك ودائع يُعرف أصحابها الذين يطالبون بها، فيما هناك ودائع لم يُطالَب بها خوفًا من الملاحقات السياسية والقانونية.
وأضاف مغنية أن هناك عاملين رئيسيين دفعا السوريين إلى وضع أموالهم في المصارف اللبنانية، الأول يتمثل في النظام المصرفي اللبناني الذي كان يتمتع بالسرية المصرفية، أما العامل الثاني فهو الخوف من سيطرة النظام السوري السابق على هذه الأموال، ما دفع رؤوس الأموال السورية إلى فتح حسابات مصرفية في لبنان، وبرز هذا الاتجاه بشكل كبير بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011، حيث تدفقت الأموال السورية إلى لبنان بكميات كبيرة وغير مسبوقة.
وأشار مغنية إلى أن الودائع السورية تأثرت كغيرها بالأزمة الاقتصادية التي شهدها لبنان، موضحاً أن المودع السوري، كحال المودع اللبناني، يعاني من نفس الإجراءات والتحديات التي فرضتها الأزمة المالية، من دون وجود تمييز واضح بناءً على الجنسية، واسترداد هذه الأموال، حسب مغنية، يتطلب خطة شاملة من الدولة اللبنانية والنظام المصرفي، وقد تستغرق العملية أكثر من عشر سنوات لتنفيذها.
في سياق متصل، قال الناشط في الدفاع عن حقوق المودعين إبراهيم عبد الله، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، إن الودائع المحتجزة في المصارف اللبنانية تعود لمودعين من مختلف الجنسيات، ومصير كافة المودعين واحد، سواء أكانوا سوريين أم لبنانيين، مشيرًا إلى أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان أثرت على الجميع بالقدر نفسه، حيث احتُجزت الأموال لجميع المودعين من دون استثناء.
وأشار عبد الله إلى وجود تقصير فاضح من قبل الحكومة اللبنانية في معالجة ملف أموال المودعين بشكل عام، قائلًا إنه لم تُتخَذ أي خطوات فعلية أو تُوضع خطط واضحة لحل هذه الأزمة. وأضاف أن سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد لن يؤثر على قضية الودائع السورية المحتجزة، حيث إن هذا الملف لا يدخل ضمن أي تدخلات دولية أو اتفاقيات، نظرًا إلى أنه لا يمكن العمل على حل قضية الودائع السورية بمعزل عن أموال المودعين اللبنانيين.
ومنذ عام 2019، يشهد الاقتصاد اللبناني حالة من الانهيار شبه الكامل، حيث فقدت العملة الوطنية نحو 95% من قيمتها، وأصبحت البنوك تفرض قيودًا صارمة تمنع معظم المودعين من الوصول إلى مدخراتهم. هذا الوضع أدى إلى انزلاق أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر.
Comments are closed.