لا أجور للقطاع العام في حزيران.. فهل يتمّ المسّ بالاحتياطي الإلزامي؟
دعت الحكومة مجلس النواب إلى الالتئام في أسرع وقت ممكن، من أجل إقرار قوانين فتح الاعتمادات الاضافية (في موازنة العام 2022) الخاصة بالرواتب والاجور والمساعدات الاجتماعية والتعويضات الإضافية. وأتت هذه الدعوة على أثر إبلاغ وزير المال يوسف الخليل مجلس الوزراء الذي انعقد يوم الجمعة المنصرم «بعدم توافر الاعتمادات المالية اللازمة لدفع الرواتب والاجور والمساعدات الاجتماعية لجميع العاملين في القطاع العام والأسلاك العسكرية ابتداء من شهر حزيران، في حال لم يقر مجلس النواب قوانين فتح الاعتمادات الاضافية الخاصة بالرواتب والاجور والمساعدات الاجتماعية والتعويضات الاضافية، كذلك بدلات النقل على أساس 450 ألف ليرة». الجدير بالذكر أن قيمة الرواتب الجديدة أصبحت سبعة أضعاف الرواتب الأساسية.
وكان مجلس الوزراء قد وافق في الجلسة نفسها على دفع كامل التعويضات الإضافية (أربعة أضعاف) عن شهر أيار كاملة، والتي كان قد أقرّها سابقًا كمساهمات في رواتب وأجور القطاع العام. ويتزامن هذا الأمر مع إضراب القطاع العام لمدة أسبوعين، على أن يتحوّل إلى إضرابٍ مفتوح في حال ذهبت الأمور إلى الأسوأ.
المشكلة التي تبرز إلى العلن هي الاتية: بفرضية أن المجلس النيابي أقرّ هذه القوانين، من أين ستأتي الحكومة بالأموال اللازمة لدفعها؟ مع العلم أنها تقترض من مصرف لبنان لدفع الأجور.
بالطبع هناك عدّة سيناريوهات تُطرح على هذا الصعيد:
- السيناريو الأول ينص على الاستمرار في الآلية نفسها التي اعتمدتها الحكومة منذ بدء الأزمة، ألا وهي الطلب إلى المصرف المركزي تأمين الأموال، وهو ما يُبرّر إلى حدٍ كبير التضخّم الذي حصل في الفترة الماضية؛
- السيناريو الثاني ينصّ على أن تقوم حكومة تصريف الاعمال باستخدام حقوق السحب الخاصة (إذا بقي منها قليلًا) بهدف دفع أجور القطاع العام، وهو ما يعني أن هذا الحلّ هو كتأجيل للأزمة إلى الشهر المقبل؛
- السيناريو الثالث ينصّ على ان تُجيز حكومة تصريف الاعمال (لا نعلم بأي آلية قانونية) للمصرف المركزي إمكان استخدام الاحتياطي الإلزامي أي أموال المودعين، المودعة لدى المصرف المركزي بموجب عقود خاصة، وذلك بهدف إقراضها هذه الأموال. وهو ما يعني بدء المرحلة الأخيرة قبل الصدمة الكبيرة!
بالطبع هذا السيناريو الأخير هو الأكثر خطورة على حركة الأسعار في السوق، لأن حكومة تصريف الاعمال ستجد نفسها أمام معضلة كبيرة. هذا المعضلة تتمثّل بدفع الأجور بالليرة اللبنانية، وهو ما يعني تلقائيًا ارتفاع السيولة بالليرة اللبنانية، وبالتالي ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة في السوق السوداء (كنتيجة للتحويل)، أو دفع الأجور بالدولار الأميركي مع قلّة ما تملكه الحكومة والمصرف المركزي، وهو ما يؤدّي إلى ربح الوقت فقط لا غير، على أن يعاود الدولار صعوده في السوق السوداء عند نفاد هذه الدولارات.
وما يزيد الأمور خطورة هو مصير حاكمية المصرف المركزي والإجراءات التي قد يتخذّها قاطن «المركزي» الجديد، والذي لا تعرف الأسواق سياسته النقدية حتى الساعة. فالقرارات التي سيتخذها القاطن الجديد سيكون لها حكمًا تداعيات سلبية، في حال استمرّ المصرف المركزي في تمويل الحكومة والمرجّح – أي التمويل – أن يكون أكبر في حال لم يتغيّر شيء على صعيد الإصلاحات الاقتصادية والمالية، خصوصًا في القطاع العام.
إلا أن الغريب في الأمر هو أن حكومة تصريف الاعمال التي تجني أموالًا طائلة من الكهرباء والاتصالات والرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة وغيرها، لا تُصرّح عن قيمة هذه الأموال، وبالتالي لا توجد شفافية في ما خص هذه الأموال وكيفية صرفها. الجدير ذكره أن هذه الإيرادات تفوق المئة مليون دولار أميركي على الأقلّ شهريًا! فأين تُصرف هذه الأموال؟
عدة نقاط تُثير الريبة، وتجعلنا كاقتصاديين نطرح السؤال عن سبب الغموض المتعلّق بمالية الدولة في هذه الظروف؟ فهل يكون هدف عدم دفع الرواتب هو رغبة بالتخلّص من موظفي القطاع العام (قسم منهم) من باب وقف الدفع، وبالتالي الانقطاع عن العمل، مما يعني إمكان تطبيق قانون الموظفين؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هي الطريقة المثْلى لإعادة هيكلة القطاع العام؟
في الواقع إن الفراغ الحاصل في السلطة التنفيذية وغياب الرقابة من قبل المجلس النيابي، تُسهّل الفوضى التي ستنتج من غياب الإجراءات ، خصوصًا أن قسما كبيرا منها هو عشوائي وغير مدروس، على مثال رفع الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة من دون محاربة الاقتصاد غير الرسمي واقتصاد «الكاش» والتهريب، أو مثل دولرة الأسعار في «السوبرماركات» والمحروقات التي رفعت الأسعار بدل أن تُخفّضها كنتيجة لغياب الرقابة.
عمليًا، أظهرت مجريات الأمور أن تداعيات (سواء كانت إيجابية أو سلبية) القرارات الاقتصادية يتحمّلها المواطن اللبناني، سواء من باب ارتفاع الأسعار أو من باب فقدان قيمة العملة أو من باب ودائعه في المصارف. كل القرارات التي اتخذت حتى الساعة، كان وقعها سلبيًا، وبالتالي ألم يحن الوقت للقيام بخطوة إيجابية تجاه هذا المواطن؟
المطلوب الآن هو الذهاب نحو قرارات في العمق لمعالجة المشكلة من جذورها، وعدم ربط الشؤون الاقتصادية بالملفات السياسية (بغض النظر عن طبيعتها). فكيف تُبرّر السلطة توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، ولا تُقرّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي يُعدّ مفتاحا جوهريا للخروج من الأزمة؟ وكيف تبرّر السلّطة رغبتها في شطب دينها العام، مع العلم أن 85% من هذا الدين هو من أموال المودعين؟ أو كيف تُبرّر اللجوء إلى الدعم الذي قامت به في العام 2020 والحدود مفتوحة على مصراعيها للتهريب وغيره؟ أو كيف تُبرّر دولرة الأسعار التي ارتفعت أقلّه 20 إلى 30% منذ هذه الدولرة؟
في الواقع الأسئلة كثيرة، وأدوات المحاسبة قليلة جدًا، ومن يمتلكها لا يُجيد استعمالها للأسف، وهو ما أوصل الشعب إلى هذه الحال الذي هو بها. الانتخابات النيابية أوصلتنا إلى مجلس نيابي ينتظر الإشارة من الخارج لانتخاب رئيس جمهورية، وغدًا لتشكيل حكومة، وبعدها للبيان الوزاري ، وبعدها للإصلاحات وهلم جرا!
لبنان بلد يمتلك الديموقراطية… ولكنه لا يمارسها!
المصدر: الديار – الكاتب: بروفسور جاسم عجاقة
Comments are closed.