ما هي “تجربة سنغافورة” التي تحدث عنها الشيباني؟

سنغافورة

Getty Images

بين إعلان أسعد الشيباني، وزير الخارجية في الإدارة السورية الجديدة، أن حكومته تستلهم من تجربة سنغافورة، واللحظة التي بكى فيها لي كوان يو أول، رئيس حكومة للجزيرة حزناً وهو يعلن استقلالها، رحلة طويلة عمرها 60 عاماً تحوّلت خلالها سنغافورة من إقليم فقير منبوذ لا تريده ماليزيا، إلى لؤلؤة القارة الآسيوية وواحدة من أكثر الدول ثراءً.

في المنتدى الاقتصادي العالمي في قرية دافوس السويسرية، مع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، قال الشيباني :”إن الإدارة الجديدة في سوريا تستلهم التجارب الناجحة كرؤية السعودية 2030، والنموذجين السنغافوري، والسويسري”، معتبراً أن سوريا ستكون مكان سلام وتطوّر ونمو، ومكاناً خالياً من الحروب، وتنتقل إلى النمو والابتكار.

سنغافورة: “المدينة الفاضلة” في أعين المغتربين

سنغافورة: ماذا نتعلم من هذا البلد الآسيوي المولع بالنظافة لدرجة جعلته يحظر العلكة؟

لكن ماذا نعرف عن النموذج السنغافوري، الذي اعتبره الشيباني ملهماً للإدارة الجديدة في سوريا؟

لقد اشتهرت سنغافورة على مستوى العالم بمطارها الرائع، ومبانيها الشاهقة، وأضوائها المتلألئة، وطرقها المرصوفة بإتقان، ومتنزهاتها العامة المشذبة بعناية، وشوارها النظيفة الخالية من القمامة، ووصفتها صحيفة “نيويورك تايمز” بأنها مكان “شديد النظافة إلى درجة أنّ العلكة تعدّ من المواد الخاضعة للرقابة”.

ومن المعروف أن سنغافورة مضرب المثل في النظام والكفاءة، وفوق ذلك، هي المكان الذي يُحظر فيه مضغ العلكة، وغدت اليوم، بعد جهود مضنية، واحدة من المراكز المالية في العالم.

إلا أنّ هذا الوضع لم يكن كذلك قبل 60 عاماً.

تاريخ المنطقة

تقول دائرة المعارف البريطانية، إنه تباينت الآراء حول سبب تسمية سنغافورة (مدينة الأسد) باسمها، فهناك رأي يقول إنّ من أطلق عليها هذا الاسم هو راجندرا تشولا الأول، حاكم مملكة تشولا في جنوب الهند، والذي أغار على الجزيرة في عام 1025، ومرة ثانية في عام 1068.

وهناك رأي آخر يقول إنه ربما تم إطلاق الاسم عليها في القرن الرابع عشر من قبل الرهبان البوذيين، الذين كان الأسد يمثل بالنسبة لهم شخصية رمزية.

ووفقاً للسجلات التاريخية لملايو، فإن المدينة أسسها سري تري بوانا أمير سريفيجايا (إمبراطورية في سومطرة)، ويقال إنه لمح نمراً، فظن أنه أسد، وبالتالي أطلق على المكان اسم “مدينة الأسد” (سنغافورة).

وقد شهد عام 1299 تأسيس مملكة سنغافورة على يد سانغ نيلا أوتاما.

وفي القرن الرابع عشر، ازدهرت سنغافورة، التي عُرفت آنذاك باسم تيماسك، كميناء تجاري تحت تأثير إمبراطورية ماجاباهيت التي اتخذت من جاوة مقراً لها، وإمبراطورية أيوثايا في تايلاند الحديثة.

وقد فرّ باراميسوارا، آخر ملوك سنغافورة، من المملكة عام 1398، بعد غزو ماجاباهيت البحري وقام بتأسيس سلطنة ملقا (في ماليزيا).

وفي القرن السابع عشر، أصبحت سنغافورة رسمياً جزءاً من سلطنة جوهور، بينما خضعت المنطقة البحرية الأوسع للسيطرة الهولندية بعد غزوهم لملقا.

وتُجمع المراجع التارخية على أن تاريخ سنغافورة الحديث بدأ في أوائل القرن التاسع عشر، عندما استقر الإداري البريطاني، ستامفورد رافيلس، في جزيرة جاوة واختار تطوير الجزيرة لتكون مركزاً تجارياً تابعاً لشركة الهند الشرقية-البريطانية، وفي عام 1824، استولى البريطانيون على الجزيرة بأكملها.

تاريخ سنغافورة الحديث بدأ في أوائل القرن التاسع عشر مع الإداري البريطاني ستامفورد رافيلس

Getty Images
تاريخ سنغافورة الحديث بدأ في أوائل القرن التاسع عشر مع الإداري البريطاني ستامفورد رافيلس

وكانت سنغافورة واحدة من ثلاث مدن شكّلت لاحقاً مستعمرة بريطانية ثرية عرفت باسم مستوطنات المضايق (المدينتان الأخريتان هما ملقا القريبة من كوالالمبور، وبينانغ التي تقع في شمال غرب ماليزيا).

وفي عام 1867، انفصلت مستوطنات المضيق عن الهند البريطانية وأصبحت تحت السيطرة المباشرة لبريطانيا.

وقد شجّع الحُكام في سنغافورة العُمال على الهجرة من المستعمرات البريطانية في جنوب آسيا إليها. كما رحبوا بالتجار والعمال الصينيين الذين انتقلوا إلى الجزيرة من الصين وجنوب شرقي آسيا وباتوا لاحقاً أكبر مجموعة عرقية في سنغافورة.

ومع تأسيس صناعة المطّاط في مالايا وسنغافورة في عام 1890، أصبحت الجزيرة مركزاً عالمياً لصادرات المطاط.

وقد أكملت المملكة المتحدة بناء القاعدة البحرية البريطانية في سنغافورة عام 1938، كقاعدة للبحرية البريطانية للدفاع ضدّ العدوان الياباني.

وفي عام 1942، استولى اليابانيون على سنغافورة، حيث استسلم 85 ألف جندي من جنود بريطانيا وحلفائها، في أكبر استسلام بريطاني في التاريخ.

وفي عام 1945، استسلمت اليابان، وعادت القوات البريطانية إلى سنغافورة.

وفي عام 1959، منحت بريطانيا سنغافورة درجة كبيرة من الحكم الذاتي، وصار لي كوان يو، زعيم حزب العمل الشعبي رئيساً للوزراء بعد فوزه في الانتخابات.

وفي عام 1961، دعا رئيس وزراء الملاي، تونكو عبد الرحمن، إلى اتحاد جديد يسمّى ماليزيا، يوحّد شبه جزيرة ملايو وسنغافورة وبروناي وشمال بورنيو وساراواك، وقد دعمت المملكة المتحدة هذا الاتحاد معتقدةَ أنّ الاندماج من شأنه أن يمنع سنغافورة من أن تصبح ملاذاً للشيوعية.

وكانت القيادة الجديدة في سنغافورة ترى أيضاً أنّ من مصلحة الجزيرة الدخول في الاتحاد الماليزي المجاور، الذي يضمّ مجموعةً من السلطنات التي استقلّت عن بريطانيا.

انضمت سنغافورة إلى ماليزيا بعد عامين، ولكن هذه الوحدة لم تدم طويلاً. فقد أثار بند في الدستور الماليزي يمنح أغلبية شعب المالايو امتيازات، غضب السياسيين في سنغافورة. أمّا القيادات الماليزية، فشعرت أنّ الأغلبية الصينية المهيمنة على سنغافورة تمثل تهديداً لثقافة المالايو في البلاد، كما تخوفوا من تمثل عبئاً اقتصادياً على ماليزيا.

وقد أدت هذه التوترات إلى أعمال شغب عرقية في سنغافورة عام 1964 سقط فيها عشرات القتلى.

وفي 9 أغسطس/آب من عام 1965، أعلن البرلمان في ماليزيا طرد سنغافورة من الاتحاد الماليزي، الذي كانت قد انضمت إليه قبل ذلك بعامين، ووسط دموع الحزن وليس الفرح أعلن زعيم الجزيرة، لي كوان يو، استقلالها الذي كان أشبه بالطلاق الغيابي، لتبدأ منذ تلك اللحظة رحلة سنغافورة إلى المجد الاقتصادي والازدهار.

لي كوان يو مؤسس سنغافورة الحديثة

Reuters
لي كوان يو مؤسس سنغافورة الحديثة

وفي أعقاب طردها من الاتحاد الماليزي، وجدت سنغافورة نفسها غارقة في مشكلات اجتماعية واقتصادية كثيرة، علاوةً على البطالة وتدني مستوى التعليم والسكن غير اللائق، وانعدام الموارد الطبيعية وصغر المساحة.

ورغم هذا الميلاد غير الطبيعي، وربما بسببه، صارت سنغافورة ناجحة اقتصادياً عبر الاستثمار في مينائها الذي أصبح أكثر موانىء العالم ازدحاماً على مستوى العالم، إذ استثمرت الحكومة في الموقع الاستراتيجي للبلاد عند مدخل مضيق ملقا.

ولتعويض افتقارها للموارد الطبيعية، فتحت سنغافورة أبوابها لرجال الأعمال الأجانب الذين جلبوا المهارات والثراء إلى الجزيرة التي يقترب عدد سكانها من 6 ملايين نسمة.

وتولّى مهمّة النهوض بسنغافورة، رئيس الوزراء الراحل لي كوان يو. إذ أدرك كوان يو أنّ سنغافورة لن تزدهر إلا بتغيير شامل.

وذكر في حوار مع جريدة “نيويورك تايمز”: “نحن نعلم أننا لو سرنا على نهج الدول المجاورة سنموت، فنحن لا نملك شيئاً بالمقارنة مع ما يمتلكونه من موارد، ولهذا، ركزنا على إنتاج شيء مميز وأفضل مما لديهم، وهو القضاء تماماً على الفساد، وتوفير الكفاءة، واختيار أصحاب المناصب بناء على الجدارة والاستحقاق، ونجحنا”.

التجربة السنغافورية

لقد نهضت سنغافورة على مدار 60 عاماً من الصفر تقريباً، واستطاعت حكومتها، بفضل قدرتها على توجيه سلوكيات المواطنين وقراراتهم، أن تبني مجتمعاً يحظى باحترام وإعجاب العالم.

وتحقيقاً لهذه الغاية، تعاونت الحكومة مع فريق مسؤول عمّا يعرف بـ “الرؤى السلوكية” للمواطنين، الذي يطلق على أفراده اسم “وحدة التحفيز”، المعنية بتطبيق “نظرية التحفيز” على السياسات الحكومية، وهي النظرية التي فاز عنها ريتشارد ثالر بجائزة نوبل.

وتقوم هذه النظرية على فكرة مؤداها أنّ الناس يمكن توجيههم لاتخاذ قرارات أفضل من خلال سياسات بسيطة وغير ملحوظة، دون مصادرة حريتهم في الاختيار.

ولفتت نظرية التحفيز أنظار الكثير من واضعي السياسات في العالم، لكن سنغافورة تحديداً كانت تتبنى استراتيجيات مشابهة للتأثير على سلوكيات المواطنين، قبل انتشار هذه النظرية بسنوات طويلة.

أدركت الحكومة في سنغافورة، أنّ السبيل الوحيد للنجاح عقب الاستقلال هو أن تمسك بزمام الأمور لتضمن تلبية جميع احتياجات السكان المادية. وكلّفت هيئة التنمية والإسكان بإقامة مبانٍ سكنية شاهقة. وأفضى تطوير القطاع الصناعي وزيادة الاستثمارات الأجنبية في البلاد إلى زيادة فرص العمل، وتشكّلت معالم الدولة الوليدة تدريجياً.

ودُشنت حملات عامة لغرس حسّ الانتماء لمجتمع غير متجانس يضمّ سكان من مختلف الثقافات، ودعت أولى هذه الحملات إلى الحفاظ على نظافة البيئة والصحة العامة، تحت شعارات عديدة، منها “حافظوا على نظافة سنغافورة”، و”ازرعوا الأشجار”.

"الأسد" السينغافوري

Getty Images

لكنّ الحرص على النظافة لم يكن بدافع الحفاظ على المظهر المثالي فحسب، ففي هذا البلد الصغير الذي لم ينل استقلاله إلا منذ أقلّ من 60 عاماً، أصبحت النظافة مرادفاً للنهضة الاجتماعية والنمو الاقتصادي غير المسبوق.

وبينما قد لا يعتقد مواطنو سنغافورة أنّ نظافة بلادهم لا مثيل لها، ربما من باب التواضع، فإنّ حكام سنغافورة بذلوا كل ما في وسعهم للحفاظ على هذه الصورة العامة الناصعة.

ويقول دونالد لو، الأكاديمي السنغافوري والباحث في السياسة العامة: “إنّ الحكومة السنغافورية تحرص دائماً على ترسيخ هذه الصورة المثالية الناصعة للبلاد، وكانت النظافة في البداية تحمل معنيين، النظافة المادية ـ بمعنى نظافة البيئة- ونظافة يد الحكومة والمجتمع، أي عدم التهاون مع الفساد”.

فبعد انفصالها عن ماليزيا في عام 1965، وضع رئيس الوزراء السنغافوري آنذاك لي كوان يو، أهدافاً طموحة لتحويل بلاده إلى “واحة متقدمة وسط منطقة من الدول النامية”.

ويقول لو مُفسّراً: “اعتقد لي كوان يو، أنّ هذه الأهداف لو تحققت في بلاده حديثة العهد بالاستقلال والحريصة على اجتذاب المستثمرين الأجانب، ستميز سنغافورة عن سائر بلدان جنوب شرق آسيا، وقد كان محقاً في ذلك”.

كما ركّزت حملات أخرى على تنظيم الأسرة، وحث الناس على “الامتناع عن الإنجاب بعد طفلين”. وفي ظلّ الانتعاش الاقتصادي، دُشنت الحملة القومية للتأدّب في التعامل مع الآخرين، وحملة أخرى تحث الناس على تحدث لغة المندرين، لبناء مجتمع متماسك ومتحضر يراعي كل فرد فيه حقوق ومشاعر الآخرين.

وفي عام 1986، ذكر لي كوان يو في حوار صحفي: “كثيراً ما اتُهمت بأنني أتدخل في الشؤون الخاصة بالمواطنين. وأنا لا أنكر هذا، ولو لم نفعل ذلك، لما كنا وصلنا إلى هذه المرحلة، ولولا تدخلنا في كل صغيرة وكبيرة من حياتهم، بداية من جيرانهم إلى عاداتهم وسلوكياتهم ولغتهم، لما حققنا هذا التقدم الاقتصادي، نحن نحدد ما هو الصواب”.

وفي غضون 60 عاماً، آتت هذه الاستراتيجية ثمارها، وأشار تقرير للبنك الدولي أنّ سنغافورة توفر المناخ الأكثر ملاءمةً وتشجيعاً لمزاولة أنشطة الأعمال في العالم.

الحريات السياسية

تقول منظمات المجتمع المدني إنّ الحكومات المتعاقبة في سنغافورة حققت نموها الاقتصادي على حساب الحريات السياسية.

وقد انتُخب ثارمان شانموغاراتنام رئيساً في سبتمبر/أيلول من عام 2023، بأغلبية قياسية بلغت 70.4 في المئة من الأصوات، متغلباً بشكل مريح على مرشحين آخرين.

وكان شانموغاراتنام قد عمل كوزير للمالية ونائب لرئيس الوزراء، كما شغل الخبير الاقتصادي السابق أيضاً مناصب عليا في مؤسسات عالمية مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، و في مرحلة ما، كان من المتوقع أن يرأس صندوق النقد الدولي.

وتولّى شانموغاراتنام الرئاسة خلفاً لحليمة يعقوب، التي كانت قد وصلت في عام 2017 إلى سدّة الرئاسة في سنغافورة كأول امرأة وسط انتقادات بسبب غياب منافسين لها.

وتنتمي حليمة يعقوب، وهي مسلمة، لأقلية الملايو التي قررت سنغافورة أن تكون الرئاسة هذه المرة من نصيبها بهدف تعزيز الشعور بالتعددية الثقافية والعرقية، علماً أنّ منصب الرئاسة هو منصب شرفي إلى حدّ بعيد، حيث تتركز السلطة الفعلية في يد رئيس الحكومة.

رئيس الوزراء وونغ خبير اقتصادي وموظف حكومي سابق

Getty Images
رئيس الوزراء وونغ خبير اقتصادي وموظف حكومي سابق

ويترأس حكومة سنغافورة حالياً لورانس وونغ، وهو رجل اقتصاد من كبار موظفي الدولة، والذي تولى منصبه في العام الماضي بعد عقدين تحت قيادة رئيس الوزراء المخضرم لي هسين لونغ الذي كان قد تولى بدوره رئاسة الوزراء منذ أغسطس/آب 2004 وهو الإبن الأكبر لمؤسس سنغافورة الحديثة لي كوان يو.

وقد سار لونغ، الذي درس في جامعة كامبريج وعمل ضابطاً في الجيش، على خطى والده في بناء اقتصاد تنافسي والارتقاء بنظام التعليم والاستثمار في البحوث والتنمية.

وفي النهاية، أعلن لي كوان يو استقلال سنغافورة الفقيرة في أغسطس/آب من عام 1965 وهو يبكي.

وعندما توفّي في 23 مارس/أذار من عام عام 2015، عن عمر يناهز 91 عاماً، ترك الجزيرة وهي أكثر ثراءً بكثير من جاراتها.

Powered by WPeMatico

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.