سيلفيو برلسكوني: السياسي اللامع ملك العودة الذي قاد إيطاليا أربع مرات
في دهاليز عالم السياسة الإيطالية، كان سيلفيو برلسكوني هو الدينامو والشخصية البارزة التي تحرك الأمور، رجل دمج الأعمال والحياة العامة بشكل لا مثيل له.
ضربت شخصيته المتوقدة على وتر حساس لدى الناخبين الإيطاليين، الذين استمروا في دعمه على الرغم من مزاعم الفساد وازدواجية المعايير.
شغل منصب رئيس الوزراء لأربع مرات. وفي كل مرة يخرج من المنصب، كان يبدو وكأن حياته السياسية قد انتهت، يتمكن من إرباك منتقديه والعودة بقوة وكأن شيئا لم يكن.
وبعد تسع سنوات من حرمانه من المناصب العامة بعد إدانته بالاحتيال الضريبي، عاد إلى البرلمان وانتخب لعضوية مجلس الشيوخ الإيطالي قبل أن يبلغ 86 عاما في سبتمبر/ أيلول 2022.
ولكن غالبا ما كانت حياته الخاصة، وولعه بإحاطة نفسه بشابات جميلات، وما تبع ذلك من فضائح جنسية، تتصدر عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم.
كان برلسكوني، الذي توفي عن عمر يناهز 86 عاما، قطبا إعلاميا ومالكا لنادي كرة قدم ورجل أعمال ومليارديرا لم يستسلم أبدا ولم يتخل عن السياسة.
لقد ساعد الرجل في تشكيل صورة إيطاليا لعقود.
قطب ميلانو
ولد برلسكوني في عائلة من الطبقة المتوسطة في ميلانو في 29 سبتمبر/ أيلول 1936 ونشأ في قرية خارج المدينة خلال الحرب العالمية الثانية.
منذ أيام دراسته، أظهر القدرة على كسب المال. وأثناء دراسته للقانون في الجامعة، كان مغنيا وعضوا في في فرقة غنائية طلابية. واكتسب شهرة كمغنٍ، وعمل في النوادي الليلية وعلى متن السفن السياحية.
وكانت أولى خطواته في استخدام جاذبيتة الشخصية في العمل، عندما عمل كبائع ومسوق لمكنسة كهربائية وفي بيع البحوث الدراسية القصيرة المكتوبة لزملائه الطلاب.
وبعد التخرج، اشتغل في البناء من خلال شركته الخاصة “إديلنورد Edilnord”، وبنى مجمعا سكنيا ضخما على أطراف ميلانو – على الرغم من أن مصدر تمويل المشروع كان غامضا.
وفي عام 1973، أطلق شركة تلفزيونية محلية تسمى “تيليميلانو Telemilano” لتوفير خدمة مشاهدة البث التلفزيوني لمجمعاته السكنية.
وبعد أربع سنوات، امتلك محطتين أخريين واستوديو في وسط ميلانو. وبحلول نهاية العقد، أنشأ شركته قابضة هي “فيناينفست Fininvest”، لإدارة التوسع السريع في ممتلكاته التجارية.
وامتلك في نهاية المطاف “ميدياسات Mediaset” – أكبر إمبراطورية إعلامية في إيطاليا وأكبر المحطات الخاصة في البلاد – وكذلك أكبر دار نشر في إيطاليا “موندادوري Mondadori”.
وعند وفاته، كان أحد أغنى الرجال في إيطاليا، وتقدر ثروة أسرته بمليارات الدولارات. وخلال حياته شارك أبناؤه – مارينا وباربرا وبيير سيلفيو وإيلونورا ولويجي – في إدارة إمبراطوريته التجارية.
وقد استخدم بعض هذه الثروة لتعزيز الأعمال التي كان يهواها وموضع اهتمامه الشخصي – بما في ذلك إنقاذ نادي كرة القدم في مسقط رأسه إيه سي ميلان من الإفلاس في عام 1986.
وقد آتى هذا الاستثمار أُكله بعد ثلاثة عقود في عام 2017، عندما باع النادي لمستثمرين صينيين مقابل 740 مليون يورو.
وعلى الرغم من ذلك، لم يتخل أبدا عن كرة القدم، فقد اشترى لاحقا نادي مونزا لكرة القدم واستمتع بصعوده إلى دوري الدرجة الأولى الإيطالي للمرة الأولى في تاريخه.
السلطة السياسية وتهم الفساد
كانت قدرة برلسكوني الرائعة على مواجهة المحاكم مرارا وتكرارا – والحفاظ على شعبيته في السياسة – منقطعة النظير.
ولطالما اشتكى من تعرضة للإيذاء – لا سيما من قبل المدعين في مسقط رأسه ميلانو – الذين قالوا إنه مَثُل أمام المحكمة 2500 مرة في 106 محاكمات على مدار 20 عاما.
وتضمنت التهم على مر السنين الاختلاس والاحتيال الضريبي وتزوير الحسابات ومحاولات رشوة قضاة. لكن تمت تبرئته أو نقض إدانته في عدة مناسبات.
كانت خلافاته ظاهرة بشكل واضح للعلن وشكلت جزءا أساسيا ومنتظما طوال حياته السياسية.
وحتى فبراير/ شباط من العام الجاري 2023، اتُهم بالرشوة، حتى تمت تبرئته أخيرا من تهمة رشوة الشهود للكذب بشأن حفلات “بونغ بونعا bunga bunga” سيئة السمعة التي أقامها في الفيلا الخاصة به عندما كا ن رئيسا للوزراء.
وكان قد أسس حزبه السياسي قبل ذلك بثلاثين عاما، أي في عام 1993، وفي غضون عام واحد، وصل إلى السلطة.
ومستفيدا من حماسه لكرة القدم، قام بتسمية حزبه “فورزا إيتاليا” على هتاف المشجعين، والتي تعني “تقدمي إيطاليا”. وفي ذلك الوقت، ظهر فراغ في السلطة في أعقاب فضيحة طالت يمين الوسط الإيطالي، وقدم برلسكوني بديلاً لأولئك الناخبين غير اليساريين.
وساعدت حملة إعلانية ضخمة على قنواته التلفزيونية في دفعه للفوز في انتخابات 1994.
ومع ذلك، كان يُنظر إلى شهيته الجديدة للسياسة على أنها محاولة لتجنب الضلوع بنفسه في اتهامات بالفساد، بعد أن تعرضت وخضعت العديد من شركاته للتحقيق.
لكنه نفى هذه المزاعم. وقال “لست بحاجة إلى تولي المنصب من أجل السلطة. لدي منازل في جميع أنحاء العالم، وقوارب هائلة، وطائرات جميلة، وزوجة جميلة، وعائلة جميلة. أنا أضحي بذلك من أجل البلاد”.
وبمجرد وصوله إلى السلطة، أصدرت حكومة برلسكوني قانونا يمنحه وشخصيات عامة بارزة أخرى، حصانة من الملاحقة القضائية أثناء وجوده في المنصب، لكن المحكمة الدستورية أسقطته لاحقا.
عودة الملك
استمر التحالف الأول الذي أبرمه برلسكوني بضعة أشهر فقط – ويرجع ذلك جزئيا من ناحية إلى الاحتكاك بين الأحزاب المختلفة فيه، ومن ناحية أخرى بسبب لائحة اتهام برلسكوني بتهمة الاحتيال الضريبي من قبل محكمة ميلانو.
وفي 1996، خسر الانتخابات لصالح اليسار – لكن مسيرته السياسية كانت لا تزال في بدايتها فقط.
وفي عام 2001، عاد برلسكوني كرئيس للوزراء، على رأس ائتلاف جديد يعرف باسم بيت الحريات. وكان العنصر الرئيسي في حملته الانتخابية هو الوعد بإصلاح الاقتصاد الإيطالي، وتبسيط النظام الضريبي، وزيادة المعاشات التقاعدية.
لكن الوضع المالي الإيطالي كان يعاني في ظل تدهور الاقتصاد العالمي، ولم يتمكن برلسكوني من الوفاء بتعهداته. ليخسر أمام اليسار في عام 2006 – لكنه عاود الفوز مرة أخرى في عام 2008.
وظل لاعبا أساسيا في السياسة الإيطالية حتى عام 2011، الذي كان يُعد من بين أكثر سنواته تحديا.
فقد ارتفعت تكاليف الاقتراض في إيطاليا خلال أزمة الديون في منطقة اليورو. وخسر رئيس الوزراء الكثير من الدعم واضطر إلى الاستقالة بعد أن فقد أغلبيته البرلمانية.
وفي العام نفسه، ألغت المحكمة الدستورية جزءا من القانون الذي يمنحه وكبار الوزراء الآخرين حصانة مؤقتة.
بحلول نهاية عام 2011، كان برلسكوني خارج السلطة. وفي أكتوبر 2012، حُكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات بعد إدانته بالاحتيال الضريبي ومُنع من المناصب العامة. لكنه أصر على براءته وقال إن هذا “انقلاب قضائي”.
لكنه في ذلك الوقت، كان قد تجاوز سن الـ75. وبدلا من حبسه كُلف بقضاء الفترة في الخدمة المجتمعية. وكان يعمل أربع ساعات في الأسبوع مع مرضى الخرف المسنين في دار رعاية كاثوليكية بالقرب من ميلانو.
كما مُنع من تقلد المناصب العامة – وهو حظر استمر لعدة سنوات قبل عودته التالية.
حفلات بونغا–بونغا وحياة خاصة لكنهاعامة
بعيدا عن السياسة، هيمن برلسكوني على عناوين الصحف سببب حياته الخاصة والتي غالبا ما كانت علنية وعامة جدًا.
لم يخف رئيس الوزراء سعيه وراء الشابات. فقد كانت آخر شريكة له، زميلته في الحزب مارتا فاسينا، التب تصغره بأكثر من 50 عاما. كان معروفا بهوسة بزراعة الشعر والجراحة التجميلية ليبدو أصغر سنا.
تعرف على زوجته الثانية، فيرونيكا لاريو، خلال عرض مسرحي قدمته عارية الصدر. لكنها لاحقا عبرت مرارا وتكرارا عن إحباطها علنا من سلوك زوجها تجاه الشابات في أكثر من مناسبة.
وتقدمت بطلب للطلاق بعد أن صُور زوجها في حفل عيد الميلاد الثامن عشر للعارضة نايومي ليتيزيا Noemi Letizia.
وكانت فضائحه الأكثر شهرة هي حفلات “بونغا – بونغا bunga –bunga” المزعومة التي حضرتها فتيات الإستعراض – وهي القصة التي انتهت بإدانته بدفع أموال لعاهرة قاصر مقابل ممارسة الجنس.
وظهرت الفضيحة في نهاية المطاف للعلن في عام 2010، عندما كان برلسكوني رئيسا للوزراء، واتصل بمركز للشرطة وطلب الإفراج عن الفتاة كريمة المحروق، البالغة من العمر 17 عاما، والملقبة بـ”روبي هارت ستيلر”، والتي كانت محتجزة بتهمة السرقة. كما قالت تقارير إنها كانت إحدى فتيات حفلات “بونغا- بونغا”.
وذكرت وسائل إعلام إيطالية أن رئيس الوزراء زعم أن الفتاة ابنة أخت أو حفيدة رئيس مصر، وأنه كان يحاول تجنب وقوع حادث دبلوماسي.
وأُدين برلسكوني بدفع أموال لها مقابل ممارسة الجنس وإساءة استخدام سلطته في عام 2013، لكن هذا الحكم أَلغي في العام التالي.
ودأب برلسكوني على نفي مزاعم بأنه دفع مالا لأي امرأة مقابل ممارسة الجنس، قائلاً إن القيام بذلك “يفتقد لذة الظفر”. لكنه اعترف أيضا بأنه “ليس قديسا”.
فورزا إيطاليا مرة أخرى
بسبب مشاكل الميزانية العامة الوطنية والضلوع في فضائح شخصية، كان أداء حزب الشعب الإيطالي الذي ينتمي إليه برلسكوني ضعيفا في الانتخابات المحلية لعام 2011، وخسر في مدينة ميلان، مسقط رأسه وقاعدة سلطته.
لكنه ظل يحظى بشعبية كبيرة، حيث كان على بعد 1 في المئة تقريبا من الفوز في الانتخابات الوطنية لعام 2013. وفي النهاية، انقسم حزبه – وأعاد برلسكوني إطلاقه تحت اسمه الأصلي، فورزا إيطاليا.
وبين هزائمه الانتخابية وحظر توليه المناصب العامة بسبب إدانته جنائيا، بدا برلسكوني وكأن حياته السياسية قد انتهت.
ومع ذلك، احتل حزب فورزا إيطاليا، الذي استخدم اسم برلسكوني كعلامة دعائية له، المركز الثالث في انتخابات 2018، خلف الحزب اليميني “فايف ستار” و”ذا ليغ” الشريك الانتخابي اليميني لفورزا إيطاليا.
ووعد، حينها، برلسكوني “بالدعم المخلص” لجهود زعيم ذا ليغ، ماتيو سالفيني لتشكيل حكومة – لكن الائتلاف اختار أن يحكم بدون فورزا إيطاليا.
ومرة أخرى، بدت مسيرة برلسكوني السياسية وكأنها تقترب من نهايتها. لكن في عام 2018، قضت محكمة بأنه يستطيع الترشح، مرة أخرى، لمنصب عام – معلنة أنه قد “أعيد تأهيله”.
وجاء القرار بعد فوات الأوان بالنسبة لانتخابات 2018، لكن في عام 2019 أعلن برلسكوني، الذي يفوز دائما، أنه سيترشح للبرلمان الأوروبي. وبصفته المرشح الأكثر حظا في قوائم حزبه، فقد فاز بسهولة بمقعد أوروبي.
وبعد ثلاث سنوات، عاد إلى البرلمان الإيطالي مع حزب فورزا إيطاليا الصغير في ائتلاف يميني مع رئيسة الوزراء الإيطاليا الحالية، جيورجيا ميلوني.
أيقونة سيئة السمعة
عُرف برلسكوني بتسريحة شعره الداكن الناعم وفضائحه البشعة، وبنى شخصية تضيق بها حياته.
كما اشتهر بحسه الفكاهي المشكوك فيه بعد عدد من الزلات البارزة. ففي إحدى المرات، قال إن عضوا في البرلمان الأوروبي يصلح أن يكون حارسا جيدا لمعسكر اعتقال. وفي أخرى، ادعى أن موسوليني كان في الواقع قائدا لطيفا.
ونفى هذه التصريحات ووصفها بأنها مزحة. ومع ذلك، فقد كان أيضا صديقا قديما للزعيم الروسي فلاديمير بوتين وألقى باللوم على أوكرانيا في الغزو الروسي بينما كانت حكومته تدعم وتقف وراء كييف بقوة.
ربما كانت مشاركته في كل جانب من جوانب الحياة الإيطالية هي التي أغضبت منتقديه أكثر من غيرها – وخاصة إمبراطوريته الإعلامية، والتي، كما يقول الكثيرون، أعطته ميزة غير عادلة في الانتخابات.
شعر العديد من الإيطاليين الذين صوتوا له أن نجاحه كرجل أعمال كان دليلا على قدراته، وسببا في ضرورة تسنمه إدارة البلاد.
نفى برلسكوني نفسه المزاعم القائلة بأن خلط الأعمال والسياسة عاد بالفائدة له شخصيا أكثر من إيطاليا ككل.
وصرح قائلا: “إذا كنت أهتم بمصالح الجميع، وأعتني أيضا بمصلحتي، فلا يمكنك التحدث عن تضارب في المصالح”.
Comments are closed.