تكساس: ما فرص نجاح دعوات بانفصال هذه الولاية عن الولايات المتحدة؟
في أواخر يونيو/حزيران الماضي، أعلن الحزب الجمهوري لولاية تكساس الأمريكية عن سياساته للمرحلة المقبلة، والتي كان بعضها مثيرا للجدل، من قبيل إعلان أن الرئيس جو بايدن “لم ينتخب بطريقة شرعية”، والمطالبة بإجراء استفتاء حول انفصال تكساس عن الولايات المتحدة.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطالب فيها البعض بانفصال تكساس، التي تعرف “بالولاية ذات النجمة الوحيدة”. فما الخلفية التاريخية لتلك الدعوات ومدى جديتها؟ وهل يمكن للولاية بالفعل مغادرة اتحاد الولايات الأمريكية؟
“جمهورية تكساس”
بعد استقلال المكسيك عن إسبانيا في عام 1821، سعت الجمهورية الوليدة إلى بسط سيطرتها على المنطقة الشمالية والتي كانت شبه خالية من السكان، وكانت خلال الاستعمار الإسباني تقوم بوظيفة سياج يصد أي محاولات للتوغل من قبل الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية .
أصبحت هذه المنطقة الشمالية تعرف بولاية “كواويلا وتكساس” في إطار نظام فيدرالي أسس له الدستور المكسيكي لعام 1824. وكان معظم من يقطنون الولاية من السكان الأمريكيين الأصليين من قبائل الأباتشي والكومانشي.
ولأن كثيرا من المكسيكيين كانوا يرفضون الانتقال للعيش في الولاية، كانت الحكومة المكسيكية تشجع الأمريكيين وغيرهم من الأجانب على الاستيطان هناك، وقررت إعفاءهم من بعض الضرائب لمدة سبع سنوات.
ولكن سرعان ما شعرت الحكومة المكسيكية بالقلق إزاء التدفق المستمر للمهاجرين الأنغلو-أمريكيين، فقررت في عام 1830 حظر المزيد من الاستيطان في كواويلا وتكساس وأعادت فرض الضرائب المعلقة ، وشهدت الولاية الكثير من الاضطرابات والكثير من النزاعات مع الحكومة الفيدرالية المكسيكية.
قصة الحرب الأهلية الأمريكية التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص
تعرف على الرئيس الوحيد للولايات الكونفدرالية الأمريكية
في عام 1836، أعلنت “جمهورية تكساس” انفصالها عن المكسيك. لم يستمر استقلال تكساس سوى تسع سنوات، إذ عانت الجمهورية من أوضاع اقتصادية متدهورة إبان حكم رئيسها الثاني ميرابو لامار، وربما كان ذلك سببا رئيسيا لانضمامها إلى الولايات المتحدة في عام 1845.
بين عامي 1860 و1861، كانت تكساس من بين 11 ولاية أمريكية تنفصل عن الاتحاد في أعقاب انتخاب إبراهام لينكون رئيسا للبلاد وتزايد المشاعر المناهضة للعبودية في الولايات الشمالية، ما عجل باندلاع الحرب الأهلية الأمريكية في أبريل/نيسان عام 1861.
بعد انتهاء الحرب في 1865 وخسارة كونفدرالية الولايات الجنوبية، ومن بينها تكساس، بدأت عملية إعادة دمج لتلك الولايات استمرت لأكثر من عقد من الزمان.
بحسب المؤرخين، لم تكن هذه العملية سهلة بالنسبة لسكان تكساس، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لإلغاء العبودية والإقرار بأن الانفصال عن الاتحاد غير قانوني. ورغم ذلك، أعيدت الولاية إلى حظيرة الاتحاد في عام 1870.
وبشكل عام، انتهت في الجنوب المطالبات الصريحة بحقوق الولايات في الانفصال، ولكن ذلك لم يشكل نهاية للهوية التكساسية التي شعر أهل الولاية بأنها مختلفة عن باقي الولايات الأمريكية.
وينظر كثير من أبناء الولاية إلى تاريخ “جمهورية تكساس” على أنه فترة تحقق لهم فيها الاستقلال وتحقيق الذات، في مقابل ما يرونه تدخلات من قبل الحكومة الفيدرالية في واشنطن. وظهرت في تسعينيات القرن الماضي مساع تروج لانفصال تكساس عن الولايات المتحدة مرة أخرى. وتأسست في ذلك الوقت “منظمة جمهورية تكساس” التي زعمت أن الولايات المتحدة ضمت تكساس إليها بشكل غير قانوني. وفي عام 2005، تأسست حركة تكساس القومية من إحدى فصائل المنظمة، ولكنها نأت بنفسها عن ممارسات المنظمة العنيفة وآثرت الحلول السياسية.
وقالت الحركة إن هدفها هو تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي التام لتكساس.
ويرى البعض أن الأصوات الداعية لانفصال الولاية تتعالى كلما تولى رئيس ديمقراطي الحكم في البلاد.
أيد إجراءات عزل ترامب فخسر ترشيح الحزب الجمهوري
الحزب الجمهوري ودعوات الانفصال
في عام 2021، طفت فكرة الانفصال على السطح من جديد، بل وغادرت الهامش لتدخل في نسيج الخطاب السياسي للحزب الجمهوري، أحد الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة. وتقدم أحد أعضاء مجلس نواب ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري بمشروع قانون لإجراء استفتاء غير ملزم على انفصال الولاية عن الاتحاد، ولكن لم يتم التصويت عليه أو تُحدَد له جلسة استماع من قبل المجلس.
في العام ذاته، كتب الصحفي والمؤلف ريتشارد كرايتنر، المتخصص في تاريخ الانفصالية في الولايات المتحدة، أنه حان الوقت “لأخذ الحديث عن الانفصال على محمل الجد”.
يرى الكاتب أنه في أعقاب محاولة التمرد الفاشلة التي شارك فيها أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، واقتحامهم للكونغرس، فإن ميليشيات اليمين المتطرف، مدفوعة بمزاعم ترامب التي لا أساس لها من الصحة بأن الانتخابات “سُرقت”، أصبحت تطالب بشكل متزايد بالانفصال، ليس فقط في تكساس، ولكن في ولايات أخرى كذلك. وأظهرت دراسة أجراها مجموعة من الباحثين من عدة جامعات أمريكية أن الفكرة يؤيدها ثلث الجمهوريين في مختلف الولايات الأمريكية، وأكثر من نصف الجمهوريين في الولايات الكونفدرالية السابقة.
ويرى كرايتنر أن أعلام الكونفدرالية التي رفعها مقتحمو الكابيتول لم تكن إشارة إلى الماضي، بل إلى المستقبل.
ترامب يصف التحقيق في اقتحام الكونغرس بأنه “مهزلة قضائية”
دونالد ترامب عرّض نائبه مايك بنس للخطر أثناء اقتحام الكونغرس
وللمرة الأولى، أيد الحزب الجمهوري لولاية تكساس رسميا فكرة الانفصال بشكل رسمي في يونيو/حزيران المنصرم، إذ أصدر تقريرا يطالب المجلس التشريعي بإجراء استفتاء في عام 2023 على الانفصال عن الولايات المتحدة، وبإصدار قانون يؤكد حق الولاية في الانفصال. أشعل ذلك جدلا كبيرا داخل الولايات المتحدة. علق البعض – مازحين – بأنهم يأملون في أن يحدث ذلك لكي يتخلصوا من الجمهوريين وذوي الاتجاهات اليمنية المتطرفة – ومعهم ولاية تكساس، والبعض الآخر أشار إلى أن انفصال تكساس ليس ممكنا من الناحية القانونية، في حين بدأ آخرون يحذرون من عواقب ذلك على البلاد بأسرها، ولا سيما إذا ما حذت ولايات أخرى حذو الولاية ذات النجمة الوحيدة.
تعاظم الاستقطاب
فكرة الانفصال ليست مقصورة على الجمهوريين فحسب، فقد أظهر استطلاع للرأي أجري العام الماضي أن نسبة الديمقراطيين الراغبين في الانفصال بلغت أكثر من 40 في المئة في بعض الولايات. وفي أعقاب فوز الرئيس السابق ترامب بالانتخابات، كانت هناك أصوات في ولاية كاليفورنيا على سبيل المثال، تطالب بانفصالها عن الاتحاد.
يعزو كثير من المحللين أسباب تلك الدعوات إلى ما يعتبرونه حالة غير مسبوقة من الاستقطاب والانقسامات السياسية المتعمقة في الولايات المتحدة. وتشير العديد من الدراسات إلى تزايد الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين حول العديد من القضايا، من بينها التغير المناخي، إنفاذ القانون وتطبيق عقوبة الإعدام، الحق في حمل السلاح ، سياسات الهجرة، والسياسات الاقتصادية، والسياسة الخارجية للبلاد.
وقبل شهر من الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، أظهر استطلاع للرأي أن نحو ثمانية من بين كل 10 ناخبين مسجلين من كل من الحزبين يرون أن الخلافات مع الجانب الآخر هي خلافات حول القيم الأمريكية الأساسية، وليس فقط حول السياسات. وفي كثير من الأحيان، أصبحت الانتماءات العرقية والعقائد الدينية تتقاطع مع الهوية الحزبية.
ولكن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي عانت مؤخرا من الانقسامات السياسية المتعمقة، بل كانت واحدة من بين بلدان عديدة شهدت تغيرات جذرية على الساحة السياسية والحزبية.
فقد شهدت المملكة المتحدة على سبيل المثال استقطابا سياسيا حادا بسبب قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأدى صعود الأحزاب الشعبوية في بلدان أوروبية أخرى إلى إرباك النظم الحزبية القائمة، فضلا عن الصراعات الثقافية والمخاوف من تزايد التعددية العرقية والمخاوف الاقتصادية التي عمقت جميعها التصدعات القديمة. وأصبحت الأفكار التي كانت تعتبر متطرفة، تجد طريقها بسهولة إلى الخطاب السياسي للأحزاب الكبيرة.
ترى الدكتورة دونا جاكسون، وهي من كبار المحاضرين في التاريخ الحديث بجامعة تشستر البريطانية ومتخصصة في التاريخ الدستوري الأمريكي، أن “مواطني تكساس الذين يطالبون بالانفصال يزعمون أنهم حُرموا من حقهم الانتخابي عام 2020، ومن ثم فإنهم لا يحصلون على كامل امتيازات المواطنة الأمريكية، ولذا يرغبون في ترك الاتحاد. وقد ثبت مرارا عدم صحة هذا الادعاء، ومع هذا يتواصل الترويج لتلك الأكاذيب. الهدف هو الإبقاء على الزخم السياسي للجناح اليميني المتطرف داخل حزب المحافظين، وتحقيق مكاسب خلال انتخابات التجديد النصفي لعام 2022.”
ماذا يقول الدستور عن الانفصال؟
ليس هناك في دستور الولايات المتحدة ما يمنع تكساس أو أي ولاية أمريكية أخرى من ترك الاتحاد.
ولكن كثيرا من المؤرخين يعتقدون أنه عندما استسلم جيش الكونفدرالين في نهاية الحرب الأهلية عام 1865، فإن فكرة الانفصال انهزمت إلى الأبد، وأن انتصار الاتحاد كان بمثابة سابقة لعدم جواز انفصال الولايات قانونيا.
وفي أعقاب انتهاء الحرب الأهلية، وفي القضية المعروفة ب “تكساس ضد وايت”، أزالت المحكمة العليا الأمريكية أي غموض محيط بالمسألة عندما قضت بأن “الاتحاد بين تكساس والولايات الأخرى هو اتحاد كامل ودائم ولا يمكن حله، مثله في ذلك مثل الاتحاد بين الولايات الأصلية” التي تشكلت منها دولة الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن في حال قررت تكساس الانفصال، فسيرجع الأمر إلى الحكومة الأمريكية ما إذا كانت تريد أن تتدخل أم لا.
وعندما سُئل قاضي المحكمة العليا الراحل أنتونين سكاليا في عام 2006 عما إذا كان هناك أي سند قانوني للانفصال، كتب قائلا: “الإجابة واضحة. إذا كان هناك قضية دستورية واحدة حسمتها الحرب الأهلية، فهي أنه لا يحق [للولايات] الانفصال”.
وتقول الدكتورة جاكسون : “من الناحية الفنية، إذا انفصلت أي من الولايات، فإنها لن تكون ملتزمة بالدستور، والمحكمة العليا لن يعود لديها صلاحيات هناك، لذا بإمكان تكساس أن تنفصل. بيد أنه سيتعين عليها الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بها كدولة مستقلة، وستضطر إلى إنشاء نظم مالية واقتصادية ودفاعية وتوقيع اتفاقات تجارية خاصة بها..إلخ. فالأمر أكثر تعقيدا بكثير من مجرد الخروج من الولايات المتحدة، بل يتضمن أيضا تحديد آليات للمستقبل”.
ما احتمالات حدوث الانفصال؟
ربما كان أكثر ما يجعل هذه الفكرة غير معقولة هو أهمية ولاية تكساس للجمهوريين على المستوى الوطني، ولا سيما خلال الانتخابات الرئاسية. فالولاية من معاقل الحزب، وبدون أصوات أعضائها في المجمع الانتخابي، لم يكن ليفوز أي من الرئيسين الجمهوريين جورج دابليو بوش ودونالد ترامب بالمنصب. ومن ثم من المستبعد للغاية أن يؤيد الزعماء الجمهوريين انفصال تكساس، ولا سيما ترامب، الذي ستكون محاولاته استعادة الرئاسة في انتخابات 2024 شبه محكوم عليها بالفشل بدون دعم الولاية.
كثيرون يرون أن احتمالات حدوث الانفصال ضئيلة للغاية، ومنهم الدكتورة جاكسون التي لا تعتقد أن هناك رغبة جادة لدى أي من الولايات الأمريكية في الانفصال.
“في حين أن أحجام بعض الولايات واقتصاداتها قد تجعل الأمر ممكنا، إلا أن تفاصيل تأسيس دول مستقلة تعني أن الأمر غير واقعي من الناحية العملية. فضلا عن ذلك، النظام الفيدرالي يعطي للولايات استقلالية في نواح عديدة، ومن ثم الانفصال لن يعود عليها بفوائد تذكر”.
فيما يتعلق بمسألة الهوية التكساسية، تقول جاكسون إنها لا تعتقد أن سكان الولاية يعتبرون أنفسهم “تكساسيين فقط وليس أمريكيين”. وبينما توافق على أن الأفكار المتطرفة تبدو في تصاعد، فإنها ترى أن ثمة حدودا لما يمكنها أن تحققه.
“المتطرفون نادرا ما يشكلون أغلبية، ورغم أن أصواتهم ربما تكون عالية، ورغم أنهم قد يحققون ‘انتصارات ‘ على المدى القصير، فإن الأصوات الأكثر اعتدالا دائما ما يكون لها الوقع الأكبر على المدى الطويل”.
بيد أن ريتشارد كرايتنر يقول في كتابه Break It Up: Secession, Division and the Secret History of America’s Imperfect Union
(التفكيك: الانفصال والانقسام والتاريخ السري للاتحاد الأمريكي غير الكامل) إنه رغم أن فكرة الانفصال تبدو احتمالا بعيدا في الوقت الراهن، فإن ذلك لا يعني أنها لن تحدث على الإطلاق. ويرى الكاتب أن كثرة تكرار دعوات الانفصال من قبل كل من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء، ينبغي أن يدفع الأمريكيين إلى التوقف والتفكير في الأسباب التي تؤدي إلى تلك الدعوات، والتأمل في عيوب النظام الفيدرالي الذي يؤدي إلى تململ البعض واعتقادهم أنهم ربما سيصبحون أفضل حالا إذا انفصلوا عن اتحاد الولايات الأمريكية وكونوا دولا مستقلة.
Comments are closed.