عوامات النيل: مصير مجهول ينتظر سكان البيوت العائمة في مصر
بكثير من الحسرة تتحدث إخلاص، 88 عاما، عن القرار الصادر بإزالة بيتها العائم فوق سطح النيل في القاهرة، حيث أمضت ربع قرن من حياتها.
“أشعر أنني سأموت. لا يمكنني أن أبتعد عن النيل. فأنا من عشاقه. لماذا كل هذا العذاب لامرأة في سني؟”
- بعد “قرافة المماليك”، مخاوف من هدم مقابر في “مدينة الموتى” بالقاهرة التاريخية
- لماذا تتكرر حوادث انهيار العقارات في مصر؟
- قصة المرأة التي تعيد إحياء التراث النوبي في مصر
تعد البيوت العائمة أو “العوامات”ملمحا تراثيا بارزا من ملامح القاهرة.
وكانت، حتى منتصف القرن العشرين، تنتشر في العاصمة المصرية بشكل لافت، إذ كان يمتلكها مشاهير المجتمع من رجال الفن والسياسة والمال. ويقول متخصصون إنها تحمل طابعا معماريا مميزا يتناسب مع طبيعة البيئة المصرية.
لكن عددها تراجع الآن لبضع عشرات. وقد قررت الدولة مؤخرا إزالتها بالكامل بدعوى أنها غير مرخصة وتعتبر تعديا على نهر النيل.
“أين أذهب؟”
عند دخولي إلى عوامة إخلاص شعرت وكأنني عدت إلى خمسينيات القرن الماضي. انفصلت تماما عن ضجيج القاهرة وضوضائها وأصابتني حالة شديدة من الارتياح،
لكن هذه الحالة سرعان ما تبددت في مواجهة الحزن والتوتر الذي تملك من صاحبة البيت وقد قلب رأسا على عقب استعدادا للرحيل.
فالمرأة التي قاربت التسعين من العمر غارقة وسط مقتنياتها. تمشي بخطى ثقيلة في أرجاء منزلها وهي تفكر ماذا ستأخذ وماذا ستترك. فالسلطات لم تمهلها إلا أياما معدودة كي تلملم تفاصيل حياة استمرت سنوات طويلة.
“لم يمنحوني حتى شهرين أو ثلاثة أشهر لأتدبر أموري وأبحث عن مسكن. فوجئت بقرار يجب أن ينفذ في بضعة أيام.”
قضت إخلاص طفولتها في عوامة مع والديها وإخوتها، وبعد زواجها قررت أن تبني عوامة خاصة بها لتعيش فيها مع زوجها.
“بعت كل ما أملك لأبني هذه العوامة. لم أفكر يوما أنني سأتركها. أين سأذهب؟ لا يوجد لدي أي مأوى”
منذ وفاة زوجها تأتنس إخلاص برفقة عدة حيوانات أليفة، فهي تربي حوالي عشر قطط وبعض البط، ويحرس عوامتها كلب عجوز.
وهي الآن تشعر بالقلق على مصير حيواناتها الأليفة التي ستضطر لتركها وراءها: “من سيطعم تلك الحيوانات؟ من سيعتني بها؟ ستموت جوعا عندما أتركها.”
“التعدي على النيل”
السلطات المصرية بدأت بالفعل عمليات الإزالة لمجموعة من البيوت العائمة رغم اعتراض الأهالي ووسط حراسة مشددة من الشرطة.
أصوات صافرات سيارات الأمن لم تنقطع عندما كنا نتحدث إلى إخلاص. وعلى مسافة ليست ببعيدة عن منزلها، شاهدنا سيارات ضخمة تحمل أعدادا كبيرة من الجنود.
حاولنا التواصل مع عدة مسؤولين للرد على استفساراتنا في هذا الخصوص لكننا لم نتلق أي إجابة.
وزارة الري أصدرت بيانا قالت فيه إنها ستتصدى بكل حسم لأشكال التعديات المختلفة على نهر النيل.
وأكدت الوزارة أنها سبق وأنذرت أصحاب البيوت العائمة المخالفة وسلكت كل السبل القانون بشأنها، مشيرة إلى أن البيوت “غير مرخصة”.
“تفريط في التراث”
إزالة العوامات أثارت غضبا شديدا على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ اعتبر كثيرون أن المضي قدما في الأمر سيترتب عليه فقدان القاهرة جزءا من هويتها البصرية، واتهموا السلطات بالتفريط في التراث.
لا تقتصر هذه القيمة التراثية على الجانب المعماري للعوامات، فالكثير من كلاسيكيات السينما المصرية دارت أحداثها في البيوت العائمة، التي شكلت أيضا مسرحا لمجموعة من الروايات الأدبية الشهيرة ومن أبرزها “ثرثرة فوق النيل” لنجيب محفوظ.
اشترت منار الهجرسي العوامة التي صور فيها فيلم “أيام وليالي” لعبد الحليم حافظ في أواخر الخمسينيات، وهي تسكنها منذ أربع سنوات.
ترى الهجرسي في قرار السلطات “ظلما كبيرا”، وتعتبر أنها تعامل أصحاب العوامات “بكثير من التعنت”.
تضيف: “منذ عامين تقريبا ونحن نحاول تجديد رخصة العوامة لكن السلطات ترفض، من دون أن تقدم لنا سببا واضحا.”
تؤكد إخلاص الأمر نفسه، حيث سعت مرارا لتجديد رخصة العوامة من دون جدوى.
“في كل مرة نذهب للسلطات المحلية لتسديد الرسوم مقابل استخراج ترخيص، نعود بخفي حنين”، تؤكد لنا.
وترى أن السلطات رفضت تجديد رخص العوامات لأنها “تريد السيطرة على المكان وتحويله إلى مطاعم ومقاه”.
لا تعويض
السيدتان أوضحتا أنهما لن تحصلا على أي تعويض مادي مقابل إزالة هذه البيوت العائمة، بل إن الدولة تطالبهما بتسديد غرامات مالية ضخمة لأنهما لم يجددا ترخيص المكان.
وتضيف منار الهجرسي “علمنا أن الدولة قد تصادر أموالنا في البنوك إذا لم نسدد مبلغ الغرامة.”
تجد منار نفسها عاجزة عن تصديق ما يحدث: “إذا كانت الدولة تريد إقامة مشروع في هذه المنطقة، كان من الممكن نقل العوامة لمكان آخر. ونحن لا نمانع. لكن هل يعقل أن يأخذوا ممتلكاتي، من دون تقديم أي تعويض، لأتحول إلى شخص مشرد؟!”
لماذا الآن؟
شاهدنا مصير إحدى العوامات التي أزيلت وقد تحطم جزء كبير منها وباتت في حالة يرثى لها. ولا نعلم إذا كانت باقي البيوت العائمة ستواجه نفس المصير القاسي.
ويتساءل خبراء عن أسباب إزالة العوامات في هذا التوقيت تحديدا. فالدولة لم توضح خططها بشأن المنطقة التي ترسو بها البيوت العائمة. لكن هناك مخاوف من أن تتحول لمطاعم ومقاه مثلما قالت إخلاص.
وتقول سهير حواس، أستاذ العمارة والتخطيط العمراني بجامعة القاهرة: “لا أحد يعارض إزالة التعديات على نهر النيل، ليعود ملكا لكل المصريين. لكن لماذا نزيل العوامات في وقت نترك فيه الكثير من المطاعم والنوادي التي تحجب رؤية النهر تماما؟”
وتضيف أن بعض المنشآت الترفيهية والاجتماعية على امتداد مجرى النهر “أقامت أسوارا وجدران بارتفاع أربعة أو خمسة أمتار تمنعك من رؤية الضفة الأخرى للنهر”، متسائلة “أليست تلك المنشآت مخالفة كذلك؟”
وتوضح حواس أن الدولة لم توضح تفصيلا طبيعة المخالفات التي ارتكبتها تلك العوامات.
وتتساءل: “كيف يمكننا أن نحاسب السكان على غياب الترخيص، في حين أن الدولة هي التي سمحت بإنشاء تلك البيوت منذ عقود من الزمن؟ أين كانت السلطات عندما وقع ما تسميه اليوم مخالفة؟”
تطل إخلاص من شرفة عوامتها على النيل، قبل أن ترحل عن المكان للأبد. أخبرتني أن كل المساعي القانونية لوقف تنفيذ الإزالة باءت بالفشل.
تقول الدولة إن التحرك لإزالة العوامات لم يكن مفاجئا، إذ سبقه إنذارات وتحذيرات، لكن السكان يؤكدون أن القرار الحكومي باغتهم ولم يعطهم أي فسحة من الزمن كي يخرجوا من بيوتهم بأقل الخسائر. ويؤكدون أن فرض الأمر الواقع يدفع بهم نحو المجهول.
Comments are closed.