هجوم بوفالو في نيويورك نموذج عن إرهاب اليمين المتطرف
الهجوم ذو الدوافع العنصرية الذي راح ضحيته 10 قتلى في سوبر ماركت بولاية نيويورك هو فقط أحدث مثال على أعمال العنف التي يرتكبها أشخاص تشبعوا بالأفكار المتطرفة من خلال شبكة الإنترنت.
تفاصيل عملية إطلاق النار في مدينة بافالو تحاكي تفاصيل هجمات مماثلة ارتكبت في مختلف أنحاء الولايات المتحدة والعالم.
فقد وقعت حوادث مماثلة في بيتسبرغ وكرايستشيرش وبوواي وإلباسو وهالي – حيث قام رجال بيض عنصريون صاروا راديكاليين من خلال الإنترنت باستهداف أفراد من مجتمع بعينه عن عمد، تاركين وراءهم سيلا من الأدلة التي توثق آراءهم المتطرفة على شبكة الإنترنت.
فكيف تأتّى لمرتكبي تلك الهجمات أن ينصهروا في بوتقة تلك الجماعات المتطرفة على الإنترنت؟ وما الذي يمكن فعله لمحاربة العنف المنبثق عن تلك الجماعات؟
اعتناق الأفكار الراديكالية عبر الإنترنت
كهؤلاء الذين سبقوه في تنفيذ هجمات مماثلة، قام بايتون غندرون المشتبه فيه الرئيسي في هجوم بافالو والبالغ من العمر 18 عاما بنشر ما يطلق عليه “إعلان مبادئ” مطول على الإنترنت يشرح فيه دوافعه ومعتقداته.
بعض فقرات الإعلان منقولة حرفيا من إعلانات مبادئ عنصرية كان قد كتبها منفذ جرائم قتل كرايستشيرتش، برنتون تارانت، وغيره من مرتكبي الهجمات العنيفة. يشير غندرون إلى تارانت بوصفه مصدر إلهامه الرئيسي، وبوابته إلى عالم التطرف وأفكار تفوق العرق الأبيض على الشبكة العنكبوتية.
كل اليمنيين المتطرفين الذين نفذوا هجمات عنصرية مؤخرا ذكروا أن الإنترنت هي نقطة بداية رحلتهم إلى التطرف. إعلانات مبادئهم وكتاباتهم تظهر معرفتهم الوثيقة بأفكار الجماعات المتطرفة على الإنترنت ونظريات المؤامرة والشعارات والصور التي تنتشر عبر مواقع التواصل “الميمز”، وأنهم استخدموا ذلك في مضايقة مستخدمي تلك المواقع أو نشر معلومات مضللة.
ويلاحظ أن جميعهم معادون للسامية ومنكرون للمحارق النازية “الهولوكوست”، ويستشهدون بمجموعة متنوعة من نظريات المؤامرة.
وكلهم تقريبا يشيرون إلى نظريات المؤامرة التي تتحدث عن “الإبادة الجماعية للبيض” و “استبدال البيض”، وعن كراهيتهم للمهاجرين والأقليات، ويعتبرون هذه الأفكار حجر الأساس لنظامهم العقائدي، والدافع الأساسي وراء عنفهم.
يقول الدكتور راجان بصرة الباحث بالمركز الدولي لدراسة الراديكالية بجامعة كينغز كوليدج لندن: فكرة ‘الإبادة الجماعية للبيض’ تخلق إحساسا بأن ثمة حاجة ملحة للتحرك”
“ومن الممكن أن يكون ذلك دافعا قويا للقوميين البيض، وقد جعلهم بالفعل يرتكبون أعمال عنف مرارا وتكرارا”.
هجوم “عنصري” يسفر عن مقتل 10 أشخاص في الولايات المتحدة
مطلق النار في بافالو “تعمد البحث عن ضحايا سود”
كما نشر المتهم بارتكاب هجوم بافالو ما يقارب 700 صفحة من يومياته الخاصة تعود إلى سبعة أشهر مضت على شبكة الإنترنت. وقد اطلعت بي بي سي على نسخ من تلك اليوميات.
تشكل مدوناته نافذة على عقل شاب من الواضح أنه مضطرب ومشوش، يتحدث باستمرار عن إدمانه لألعاب الفيديو وتصفح المواقع المتطرفة على الإنترنت.
لقد قام بدراسة المتجر في بافالو بدقة، وزاره عدة مرات لكي يخطط بحذر لأسلوب وتوقيت هجومه، كما تدرب على تنفيذه.
يذكر باقتضاب تعرضه لمشكلة مع السلطات في وقت سابق من العام الحالي بعد أن كتب شيئا أثار انزعاجها.
هناك بعض اللحظات القصيرة التي تنم عن أنه كانت تساوره الشكوك، إذ تساءل ما إذا كان سيتمكن من تنفيذ عملية إطلاق نار واسعة النطاق بدون “إفسادها”.
كما أن هناك تفاصيل واضحة لقيامه بإيذاء حيوان، وحديث عن تفكيره في الانتحار لأنه لم ينجح في تنفيذ الهجوم في الموعد الذي حدده في بادئ الأمر.
يعج “إعلان المبادئ” الذي نشره على الإنترنت بنظريات مؤامرة عنصرية ومعادية للسامية، و”ميمز” وخدع ونكات لا يفهمها إلا من يعتنقون نفس الأفكار، كما أنه متأثر بوضوح بمنتدى الرسائل 4chan (فور تشان)، وهو واحد من أكبر مراكز ترويج الأفكار والنظريات الشاذة عن المألوف وأكثرها إثارة للجدل. هذا المنتدى خرجت منه الكثير من “الميمز” الشهيرة على الإنترنت، كما شهد مولد حملات مضايقة مستخدمي مواقع التواصل، وكذلك الكثير من الحركات الاجتماعية والسياسية وتلك التي تؤمن بنظريات المؤامرة.
يشير غندرون إلى صفحة من صفحات 4chan مخصصة للأسلحة، ويقول إنه أصبح راديكاليا بفضل صفحة “pol” التي ترمز اختصارا لعبارة “politically incorrect” (غير صحيح سياسياً أو اللاصوابية السياسية). كما أنه يذكر مواقع متطرفة أخرى زارها على الشبكة، بما في ذلك موقع النازيين الجدد “The Daily Stormer”.
وقد بث المهاجم عمليات القتل التي نفذها مباشرة على منصة “Twitch” (تويتش) باستخدام كاميرا فيديو مثبتة فوق خوذته. ومثل تارانت، كتب غندرون أيضا شعارات تشير إلى تفوق العرق الأبيض وإهانات عنصرية على سلاحه الناري.
شاهد البث الحي 22 شخصا فقط، وقامت منصة Twitch بحجبه في غضون دقائق. إلا أن نسخا منه تم تداولها بشكل واسع على الإنترنت خلال ساعات فقط، حيث اجتذبت الملايين من المشاهدين على فيسبوك وغيره من المنصات.
ما هي أوجه التشابه بين اليمين المتطرف وتنظيم الدولة الإسلامية؟
أقصى أثر ممكن
مزيج إعلان المبادئ على الإنترنت وبث الفيديو الحي يهدف إلى إحداث الأثر الإعلامي الأقصى، ونشر أفكار المهاجم إلى أبعد مدى ممكن.
وعلى الأرجح سيتم تداول نسخ من مقطع الفيديو وإعلان المبادئ على مدى الأعوام القادمة، لأغراض دعائية وكأداة تجنيد. وعلى الرغم من أن منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية سوف تزيل تلك النسخ، إلا أن هناك مواقع متطرفة ستتيح مشاهدة الفيديو بكل سهولة.
إزالة أي محتوى من على الإنترنت يكاد يكون أمرا مستحيلا. على سبيل المثال، في أعقاب أعمال العنف التي وقعت في مدينة شارلوتسفيل الأمريكية في عام 2017، تعرض موقع النازيين الجدد Daily Stormer لضغوط من قبل شركة الاستضافة وشركات حماية مواقع الإنترنت.
ولكن مع بذل ما يكفي من الجهد، يمكن العثور على ذلك الموقع على الإنترنت، ويزعم مهاجم بافالو بأنه كان يرتاده بانتظام.
وكما لوحظ من قبل في حالة منصات متطرفة أمثال 8chan – التي ظهرت عليها إعلانات مبادئ ثلاثة قتلة واحدة تلو الأخرى في عام 2019 – حتى عندما يتم حجب أحد المواقع، فإن موقعا آخر لا يلبث أن يظهر بسرعة كبيرة.
يقول الدكتور بصرة: “سيظل هناك على الدوام مأوى للمحتوى المتطرف على شبكة الإنترنت ، مهما يكن متخصصا أو غامضا”.
تلك الوثائق المستفيضة التي تفتقر إلى الترابط تهدف إلى أن تكون مصدر إلهام للمتطرف الذي سينفذ عمليات إطلاق النار التالية، مثلما كان مصدر إلهام غندرون هو برنتون تارانت، الذي كان مصدر إلهامه القاتل النرويجي الذي يعتنق أفكار النازيين الجدد أندرز بريفيك.
يقول الكاتب والصحفي ديفيد نايورت الذي يكتب عن اليمين المتطرف منذ عقود: “بمجرد أن يسير الأشخاص في تيار التطرف، يصبح باستطاعتهم تكوين مجموعات [على الإنترنت] واجتذاب أتباع لهم عبر أنحاء العالم”.
“من بين نتائج ذلك هو أن إرهاب اليمين المتطرف المحلي اتخذ بعدا تسلسليا: عملية عنف واحدة تصبح مصدر إلهام لعملية تالية، وهكذا دواليك”.
بعد مقتل 9 في مقهيين للشيشة: حكاية “أحفاد هتلر” في ألمانيا
برامج ردع فدرالية
واستجابة لارتفاع عدد هجمات الإرهاب الداخلي، حاولت حكومات عديدة صياغة خطط لمكافحة الإرهاب للحيلولة دون وقوع مثل تلك المآسي.
برنامج الحكومة البريطانية لمنع الإرهاب هو أحد الأمثلة. رغم الانتقادات التي وجهت إليه لإخفاقه في ردع متطرفين معروفين للسلطات، مثل المتطرف الإسلامي علي حربي علي الذي قتل النائب البرلماني ديفيد إميس، تزعم الحكومة أن البرنامج حال دون تحول مئات الأشخاص إلى إرهابيين.
لا يوجد برنامج مماثل في الولايات المتحدة. في يونيو/حزيران عام 2021، أعلن البيت الأبيض عن خطة لمكافحة الإرهاب المحلي. تركز الخطة بالأساس على جهود إنفاذ القانون، وتشمل إعطاء منح قدرها 77 مليون دولار لقوات الشرطة المحلية.
يقول نايورت إنه رغم أن أجهزة إنفاذ القانون في الولايات المتحدة لديها صلاحية التدخل عندما تتم مناقشة أنشطة إجرامية على شبكة الإنترنت، فإنه ليس بوسعها القيام بالكثير قبل أن يقدم شخص مشتبه فيه على فعلته.
ولم يكن مهاجم بافالو مجهولا تماما للسلطات. فقد أسفر اصطدامه بالسلطات العام الماضي (حيث حققت الشرطة معه بعد إطلاقه تهديدات بالقتل والانتحار) إلى دخوله المستشفى لفترة وجيزة للخضوع لتقييم لصحته العقلية.
يشار إلى أن ولاية نيويورك لديها قانون يسمح للشرطة بمصادرة أسلحة الأشخاص الذين يتم اعتبارهم خطرين. وسوف تواجه الشرطة المحلية ومكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” تساؤلات بشأن ما إذا كان بإمكانهم أن يفعلوا المزيد لمنع الهجوم.
لكن تبقى المشكلة الأعم: حركة عالمية لا زعيم لها تضم شبابا عنيفا متطرفا اعتنق أفكاره الراديكالية من خلال الإنترنت، وبعضه على استعداد لشن هجمات قاتلة ضد أناس أبرياء.
Comments are closed.