فرانكو باتياتو: من موسيقى البوب إلى التصوف الإسلامي
يسمونه بالإيطالية “إل مايسترو” أو المعلم فقد ترك لمسته الواضحة على الغناء والموسيقى في إيطاليا نحو نصف قرن، وعاش حياة ممتلئة ومتنوعة امتدت من موسيقى البوب حتى التصوف الإسلامي، وبينهما تتوزع مواهبه المتعددة التي امتدت إلى الرسم و الشعر وكتابة الأغاني والتأليف الموسيقي والفلسفة والتأمل الروحاني.
إنه المغني والمؤلف الموسيقي والرسام والمخرج السينمائي فرانكو باتياتو ، أو “صوفان بارزاني” في اسمه المستعار الذي اختاره لتوقيع لوحاته ذات المنحى التأملي الصوفي، والذي توفي أواخر الأسبوع الماضي في إيطاليا عن عمر يناهز 76 عاما.
فمن هو باتياتو وكيف جمع بين موسيقى البوب والتصوف الإسلامي، وكيف استلهم أجواءه الروحية في أعماله الإبداعية المختلفة وما علاقته بالطريقة الصوفية “الخلوتية”؟
شغف روحاني
يوصف باتياتو بأنه فنان متفرد ومتعدد المواهب لا يميل إلى تكرار نفسه، وينماز بنزوع لا يرتوي إلى تقديم الجديد والتجريب والتجديد الدائم.
وشكل باتياتو تجربة خاصة لا تشبه إلا نفسها في الموسيقى الإيطالية المعاصرة، بجمعه بين النغم الشعبي في موسيقى البوب والروك والموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الصوفية والتجربة الفلسفية الروحانية الغنية المستمدة من التراث الشرقي التي تفيض بها كلمات أغانيه، فضلا تلك النزعة التجريبية الطليعية التي يتميز بها.
فلم يقتصر تلقي نتاجه الموسيقي على نخبة متذوقة مثقفة، بل وصل الى روح الشارع؛ فقد عُد ألبومه الموسيقي “صوت السيد” أو “صوت الرب” مطلع الثمانينيات أول ألبوم موسيقي غنائي يبيع أكثر من مليون نسخة في إيطاليا في عام إطلاقه.
وقد رثاه الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا بقوله إنه “فنان مثقف راسخ التجربة فَتن جمهورا واسعا جدا، حتى خارج حدود البلاد الوطنية بأسلوبه الموسيقي المتفرد- وهو نتاج دراسة مكثفة وتجريب مخلص ومتواصل”.
كما رثاه الكاردينال جانفرانكو رافازي، رئيس المجلس الأسقفي للثقافة في الفاتيكان بعبارة شعرية في تغريدة على تويتر تحيل إلى بحثه الروحي بقوله “كم من الصعب أن تجد الفجر في قلب الغسق. أرقد في سلام فرانكو باتياتو”.
ولد باتياتو في بلدة “يونيا” على الساحل الشرقي لجزيرة صقلية الإيطالية، وبدأ حياته الموسيقية في مدينة ميلانو عازفا للغيتار في سن 19 قبل أن يشق طريقه مغنيا لأغاني موسيقى البوب في الستيتينات. وفي السبعينيات تعاون مع فرقة “أوزاجي تريبه” لموسيقى الروك أو ما يعرف “بروغرسيف روك” (نوع من موسيقى الروك تطور في بريطانيا والولايات المتحدة في الستينيات)، وقدم بعض الأغاني المنفردة التي عدت من أفضل أغاني هذا النوع الموسيقي في إيطاليا.
رحيل ليتل ريتشارد أبرز رواد موسيقى “الروك آند رول”
من هو الفنان المغربي الذي اكتشفه تشرشل؟
وانشغل أيضا في السبعينيات بتقديم بعض التجارب في إطار الموسيقى الإلكترونية مع ميل واضح نحو ما يعرف بالموسيقى الملموسة ” Musique concrète” والأسلوب الإختزالي (المينيمالست) اي الأسلوب الذي يستند الى البساطة والعناصر التعبيرية الأساسية والتخفف من أي زيادات زخرفية في الفنون عموما. وقد اشتهر عمله التجريبي “مصر قبل الرمل” في عام 1977 الذي نال عنه جائزة “شتوكهاوزن” التي تحمل اسم رائد الموسيقى الإلكترونية كارلهاينز شتوكهاوزن.
“مصر قبل الرمل”
ويبدو أن نزعة التخفف والتبسط تلك “المينيمالزم”، التي تدعو إلى العيش بتجرد وبساطة هي ما قادت باتياتو إلى طريق التصوف، كما يوشر عنوان أغنيته “مصر قبل الرمل” تعرفه على فلسفة جورج غوردجييف، الذي استخدم عبارة إنه كشف عن “خرائط مصر قبل الرمل” كاستعارة على تعرفه على منابع الحكمة الإنسانية القديمة.
وغوردجييف هو معلم روحاني روسي ، من أب يوناني وأم أرمينية، ولد في أرمينيا عندما كانت تابعة للإمبراطورية الروسية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتوفي في باريس عام 1949، والتي استقر فيها بعد تنقل بين روسيا وتركيا وعدد من العواصم الغربية الأخرى، وكان قبلها قد تنقل في أسيا الوسطى والتبت والهند وإيران ومصر وروما قبل أن يعود إلى روسيا أثناء بحثه عن أسس طريقته.
“درس القرآن” تُباع في لندن بأكثر من 4.5 مليون جنيه استرليني
وتقوم طريقته على خلطة من تعاليم التصوف الإسلامي والرهبنة المسيحية واليوغا البوذية، لكنه يصفها بأنها “الطريق الرابع”. ويرى أن البشر لا يمتلكون وعيا موحدا ويعيشون مسرنمين غائبي الوعي أشبه بالمنومين مغناطسيا، وعليهم اتباع طريق دِربةٍ روحيةٍ لإيقاظ وعيهم. وتقع الموسيقى والرقص في قلب تعاليمه، كما أنه هو نفسه مؤلف موسيقي اشترك مع مريده الموسيقار الروسي توماس دي هارتمان في كتابة عشرات الأعمال الموسيقية. وقد وجدت طريقته صداها لدى الكثير من الفنانين والكتاب والموسيقين في الغرب.
وقد تعرف بايتياتو على أفكار غوردجييف بعد قراءته كتاب تلميذه بيتر أوسبنسكي “بحث عن المُعجز: شذرات من تعاليم مجهولة” في عام 1975 ، كما تعرف باتياتو في هذه الفترة أيضا على أفكار الكاتب الفرنسي رينيه غينون، الذي عمل على تقديم الفلسفات والعقائد الميتافيزيقية الروحية الشرقية إلى الغرب، وسمى نفسه عبد الواحد يحيى لاحقا بعد انخراطه في ممارسة التصوف الإسلامي.
الطريقة الخلوتية
وفي أواخر السبعينيات بدأ باتياتو بتعلم اللغة العربية في سياق اهتمامه بالتصوف. وقد غنى لاحقا بعض الأغاني باللغة العربية كتلك التي افتتح بها حفلة شهيرة أقامها في العاصمة العراقية بغداد في عام 1992 (متوفرة كاملة على يوتيوب ضمن أرشيف الفنان) وحملت عنوان “ظل النور”. وغنى فيها أيضا اغنية فلكلورية عراقية شهيرة هي “فوق النخل” بتوزيع أوركسترالي جديد قام به، واشترك في عزفها مع فرقته السمفونية الفرقة السمفونية العراقية حينها وقد قدمها لاحقا ضمن ألبومه الموسيقي “كافيه دو لا بي” أو “مقهى السلام” عام 1993.
ومن الأمثلة الأخرى أيضا أغنية “تعال ياخريف” التي غناها بمزيج من العربية والإيطالية الصقلية وقدمها في فيلم المخرج الشهير (المتوج بسعفة كان الذهبية) ناني موريتي “حمامة خشبية حمراء” عام 1989، والذي وضع موسيقاه التصويرية.
لقد جذبت تلك اللغة الاستعارية المكثفة ومحمولاتها الرمزية العميقة في التصوف، روح الشاعر وكاتب الأغاني في باتياتو، فحاول النهل منها واستثمارها في أعماله الغنائية والموسيقية.
وقد ارتبط باتياتو في ميلانو بعلاقة صداقة مع الكاتب وعالم النفس والفنان غابرييل مانديل (إيطالي من أصول أفغانية)، وهو بدوره شخصية مثيرة للاهتمام، فهو نجل المؤرخ الصوفي الإسلامي يوسف روبرتو مانديل، وكان الشاعر والروائي الإيطالي الشهير غابرييل دانونزيو إشبينه عند ولادته كما درس مع الفنان الفرنسي الشهير هنري ماتيس، وعرف إلى جانب كتباته المتنوعة في علم النفس والفنون والتاريخ الإسلامي، وترجمته للقرآن إلى الإيطالية، وتحريره لترجمة كتاب “مثنوي” لجلال الدين الرومي الذي ترجمته زوجته، بأنه أحد مرشدي الطريقة الصوفية “الخلوتية الجراحية” ومدير “تكيتها” في مدينة ميلانو الإيطالية، التي انضم إليها باتياتو، ممارسا تعاليم الخلوة الصوفية، أي الاعتزال عن الناس لفترة تُكرس لتزكية النفس وتهذيب السلوك الروحاني والتقرب إلى الخالق.
وجد صوفي: رحلة داخل مصر الروحية
ما هي الصوفية التي استهدف مسجدها في سيناء؟
والطريقة الجراحية التي تنتشر في تركيا هي فرع من فروع الطريقة الخلوتية التي انتشرت إبان الدولة العثمانية، ولها فروعها اليوم المنتشرة في مصر والجزائر والأراضي الفلسطينية والأردن وكوسوفو .وتتباين المصادر في ذكر منبع الطريقة لكنها تجمع على نشأتها في خراسان (حاليا غربي أفغانستان)، في القرن الرابع عشر الميلادي، على يد الشيخ عمر الخلوتي، لكن من أسهم بترسيخها وتوسيع انتشارها هو تلميذه الشيخ يحيى الشرفاني حيث انتشرت فروعها إلى أرجاء الدولة العثمانية لاحقا.
وقد انتشرت لاحقا في بلاد الشام والحجاز وينسب انتشارها في مصر إلى الشيخ محمد بن أحمد كريم الدين الخلوتي، أحد أعيان الصوفية في القرن العاشر الهجري وأئمة الصوفية في خراسان، وقد توفي في مصر بعد هجرته إليها في عام 986 الهجري (1578 ميلادية).
وقد عكس بعض أعمال باتياتو الموسيقية انغماره في جو هذه الطريقة الصوفية، كما هي الحال مع إلبومه الشهير “أصداء رقصة الدراويش” وأول أوبراته “جينسي” عام 1987. ثم مازج بين الفهم الصوفي والميثولوجيا السومرية والبابلية القديمة في بلاد ما بين النهرين في أوبرا “جلجامش” عام 1992، محاولا ترسم خطى معلمه غوردجييف في العودة الى جذور الحكمة الإنسانية الأولى في بلاد مابين النهرين و حضارة حوض النيل.
السمع والبصر
في عام 1994 ، تعرف باتياتو على الفيلسوف الإيطالي مانليو زاغالامبرو ، ليبدأ مرحلة تعاون طويلة معه، ويشكلا معا ثنائيا ناجحا، طبع معظم أعمال باتياتو اللاحقة، إذ اشترك معه في كتابة نصوص أغانيه وأوبراته وسيناريوهات أفلامه حتى وفاته في عام 2014.
وتعاونا معا في كتابة سيناريو “حب ضائع” أو “حلم صقلي” الذي كان فاتحة دخول باتياتو إلى عالم الإخراج السينمائي في عام 2003 ، والذي توج بجائزة الوشاح الفضي لأفضل مخرج جديد، التي تمنحها رابطة الصحفيين السينمائيين وتعد من أعرق الجوائز السينمائية في إيطاليا.
وقد قدم باتياتو في هذا الفيلم نوعا من الدراما المعتمدة على سيرته الذاتية، بيد أنه لم ينجح في خلق شكل سردي يلم التفاصيل الواسعة التي شهدتها حياته الغنية والممتدة على مساحة زمنية واسعة؛ هي في الفيلم نحو ثلاثة عقود من عمره، وترك ذكرياته تنثال في مشاهد ولوحات متقطعة، وعبر قفزات تركت فجوات زمنية واضحة في خيط السرد في الفيلم. وكانت وسيلته الوحيدة لإيجاد معادل موضوعي يبرر هذه الانتقالات، عبر شريط الصوت وأغانيه وموسيقاه التي نثرها في الفيلم.
وفي واقع الحال نجد أنفسنا أمام فيلمين: الأول عن طفولة باتياتو ورصده للعالم الذي حوله فيها وتعلقه بأمه وعلاقتها بأبيه الغائب عن البيت دائما والذي يخونها في علاقات نسائية أخرى، ثم اكتشافه لشغفه بالموسيقى وتلقيه دروسا فيها على يد الارستقراطي باسيني وزوجته كلارا . والفيلم الثاني عن باتياتو الشاب ورحلة إلى ميلانو وانخراطه في أجواءها الموسيقية في الستينيات مع ميله الواضح لدراسة الفلسفة والميتافيزيقيا ومزاوجتها مع شغفه الموسيقي.
ووسط هذا الارتباك السردي كان مدير تصوير الفيلم والمخرج لاحقا ماركو بونتيكورفو، (أخرج نحو 12 عملا للسينما والتلفزيون أشهرها فاطمة وبا-را-دا) هو الفاعل الأهم في نجاح هذا الفيلم، إذ صوره بجماليات بصرية مميزة؛ مقدما النصف الأول منه أجواء النوستالجيا وعوالم الطفولة بأسلوب تصوير شاعري وتأملي تميز بإيقاع بطيئ وحركات ترافيلنغ طويلة تكشف عن سحر هذه العوالم وبما يتناغم مع موسيقى باتياتو. وانتقلفي النصف الثاني إلى حركات كاميرا سريعة تترافق مع قطع حاد في محاولة لالتقاط روح العصر في الستينات وسط الجماعات الموسيقية الشبابية في ميلانو حينها.
لقد ظل هذا الفيلم إلى جانب فيلم “موزيكانتن” أو “موسيقيون” الذي “يستحضر” فيه السنوات الأخيرة من حياة الموسيقار لودفيغ بيتهوفن (أدى دوره المخرج الشيلي الشهير أليخاندرو خودروفسكي) الأكثر ذكرا عند الحديث عن مساهمة باتياتو في السينما؛ التي قدم لها خمس محاولات إخراجية بين الروائي والوثائقي، قد نفرد لها مقالا خاصا يتناولها بشكل تفصيلي لاحقا.
Comments are closed.