إن إف تي: كيف ستحمي هذه التقنية مستقبل السياحة في إندونيسا؟

مع تضرر السياحة بشدة بعد انتشار وباء كوفيد -19، قررت إندونيسيا حماية مستقبلها بوضع تراثها الثقافي على الجيل المستقبلي للويب الذي يُعرف بـ”ويب 3″.

ملأت شرارات النار الهواء، حين قام سليل عائلة من الحدادين تعود إلى القرن الخامس عشر، بإدخال الملقط وسط اللهب لإخراج سبيكة من المعدن النفيس.

كان جرو مانكو إي وايان سوديارتا يبدو هادئا وهو ينقش الرموز المقدسة على جرس المعبد في ورشة الحدادة التي يملكها في قرية كولونغكونغ في بالي.

استغرق الأمر من الحداد، الذي تحول إلى كاهن، 70 ساعة لإتمام صنع الجرس، الذي وُضع في قالب من تربة بركانية سوداء وصُنع من الذهب والفضة والنحاس والزنك والحديد. لكن الأمر كان يستحق العناء؛ لأن الجرس عندما يُقرع في المعبد، يقال إنه يخرج الصوت الذي يتضمن جميع الأصوات، إنه صوت يجلب الصحة والازدهار والسلام، ويمثل البدايات والنهايات.

سوديارتا هو أحد الحدادين القلائل المتبقين في بالي، والذين يستطيعون صنع هذا الجرس المقدس يدويا. ومع ذلك، فإن إرثه ليس محميا فقط من خلال ما يصنعه، فهو اليوم واحد من 11 حِرفيا من إندونيسيا يساعدون في الحفاظ على ماضي البلاد ومستقبلها، من خلال وضع أعمالهم على ويب 3، وهو نسخة حديثة من شبكات الإنترنت تتضمن تقنية “بلوك تشين” أو سلسلة الكتل التي تسمح بمشاركة قواعد البيانات بشفافية داخل الشبكة.

انضم الحرفيون إلى “كوانتوم تيمبل”، وهي منصة على “ويب 3” مصممة للحفاظ على التراث الثقافي، بالتعاون مع وزارة السياحة الإندونيسية، لتأسيس مشروع “باثس تو ألانغو”، وفق تقنية الـ “إن إف تي” للتوثيق الرقمي، وهي اختصار لـ”الرموز غير القابلة للاستبدال”، وتعد من الأصول الرقمية الفريدة التي تباع عبر “ويب 3”.

الإن إف تي: ما الذي نعرفة عن الرسوم الرقمية التي تباع بآلاف الدولارات؟

بالي ترحل سائحاً روسياً تعرّى على قمة جبل مقدس

يقول محمد نيل الهِمام، نائب وزير السياحة والاقتصاد الإبداعي الإندونيسي: “لقد رأينا في ذلك ليس مجرد وسيلة للحفاظ على الثقافة، بل أيضا لتوريثها في المستقبل”.

وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تحويل القطع الأثرية إلى تقنية “إن إف تي”. فقد اشتهر معرض أوفيزي في فلورنسا ببيع لوحة “دوني توندو” أو العائلة المقدسة للرسام مايكل أنجلو باستخدام هذه التقنية. كما يقوم متحف شنغهاي بتحويل بعض القطع الفنية من مجموعته إلى “إن إف تي”. ومع ذلك، فهذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها دولة خطوة للحفاظ على تاريخها ومستقبلها، بوضع تراثها الثقافي على “ويب 3”.

أغلقت بالي أبوابها أمام السياحة العالمية في مارس/آذار 2020 مع انتشار الوباء، ولم تعاود استقبال السياح إلا بعد سبعة أشهر. ومع اعتماد 80 في المئة من اقتصادها على السياحة، فقد تضررت الجزيرة اقتصاديا بشكل كبير.

أتيح لليندا أدامي، مؤسسة “كوانتوم تيمبل”، التي أقامت في بالي لمدة سبعة أشهر خلال الوباء، أن تشاهد بنفسها التأثير المدمر لقلة السياح على الاقتصاد المحلي. ووفقا لفريق الأبحاث الأسترالي الإندونيسي، فقد واحد من كل ثلاثة أشخاص وظيفته في بالي. وبينما كانت أدامي تتنقل بين أرجاء الجزيرة، وتكتشف أعمال حرفيين مختلفين، وجدت أن الكثيرين منهم اتجهوا إلى الصيد أو الزراعة ليتمكنوا من إطعام أسرهم.

في تلك الأثناء، باع الفنان الرقمي الأمريكي مايكل جوزيف وينكلمان الشهير بـ”بيبل” قطعة “إن إف تي” مقابل 69 مليون دولار في دار كريستيز للمزادات.

ونظرا لامتلاكها خلفية جيدة بخصوص الـ “بلوك تشين”، أدركت أدامي على الفور كيف يمكن لـ”ويب 3” ربط الحرفيين في بالي بجمهور جديد، ومنحهم طريقة لكسب دخل متجدد. فمن خلال تقديم أعمالهم عبر “إن إف تي”، سيحصلون أيضا على نسبة مئوية من أي مبيعات ثانوية.

لماذا يفضل الشباب العمل في جزيرة بالي بإندونيسيا؟

قطعة نادرة من الياقوت الموزمبيقي تُباع مقابل 34 مليون دولار

بالصور: تراث الزولو والبحث غير القانوني عن الذهب وسوق الأضاحي

التقت أدامي بمسؤولين في المجتمعات المحلية والهيئة السياحية، وطرحت فكرة استخدام الحرفيين المحليين لتقنية “إن إف تي”. وتأكيدا للموثوقية، دعت أيضا عالم الأنثروبولوجيا ستيف لانسينغ لتنسيق الأعمال. ويعتقد لانسينغ، الذي عمل على ترشيح مدرجات الأرز في بالي للانضمام إلى قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، أن مشروع السياحة المستدامة هذا قد يساهم بشكل كبير في حماية تراث بالي ولدرجة أكبر مما تفعله منظمة اليونسكو..

ويقول لانسينغ: إن “مشروع البلوك تشين يوفر مصدرا للدخل واعترافا (بالفنان الحرفي). وهذا شيء رائع وقد غاب عن برنامج اليونسكو”.

ويتضمن مشروع “باثس تو ألانغو” مجموعة للتراث الثقافي، تسجل التراث غير المادي مثل الرقصات؛ ومجموعة للتحف الثقافية، التي تشمل الأعمال اليدوية مثل جرس المعبد؛ ومجموعة للخبرات الثقافية، تهتم بالتجارب الثقافية الواقعية المليئة بالطقوس والتقاليد. وبالاعتماد على تقنية “إن إف تي”، من المقرر بيع كل منها على حدا، أو بكميات أكبر، لكن بإصدار محدود.

وسيتمكن السياح الذين يشترون “إن إف تي” من مشاهدة التجربة على فيديو خاص بهذه التقنية قبل أن يشاهدوها بأنفسهم في موطنها، ويمكنهم أيضا التواصل مع أهل القرية، ما يربط السائح بالمجتمعات المحلية قبل وصوله.

وستتمكن إندونيسيا من تقييد عدد السياح الذين يزورون القرى الصغيرة من خلال مبيعات “إن إف تي” بكميات محدودة، وبالتالي فإن السفر سيكون تجربة تساعد أهل القرية بدلا من أن تعيقهم. وإذا لم يكن ذلك كافيا، فستقدم “إن إف تي” أيضا تذكارا للمسافر عندما يعود إلى بلده.

ولضمان مصداقية “إن إف تي”، يمكن تصوير الطقوس عندما يسمح التقويم البالي بذلك. على سبيل المثال، مهرجان غالونغان يقام في الأسبوع الحادي عشر من تقويم أوكو، حيث يُعتقد أن أرواح الأجداد تعود إلى ديارها في ذلك الوقت.

سافرت أدامي والفريق الذي يعمل معها إلى قرية بينغليبوران التي تعود إلى القرن التاسع عشر في جنوب بالي، بهدف تصوير القرويين المشاركين في هذا الاحتفال الذي تعود أصوله إلى عصر إمبراطورية ماجاباهيت (1293-1527).

وستمنح تكنولوجيا “إن إف تي” من يشتريها فرصة لإلقاء نظرة معمقة على التراث من الصلوات والاحتفالات والعروض المقدمة خلال المهرجان الذي يستمر لمدة 10 أيام من خلال فيديو عبر “إن إف تي” قبل الانتقال إلى التجربة الواقعية.

في المقابل، قد تكون الأعمدة الخيزرانية المنحنية التي يبلغ ارتفاعها 10 أمتار، والمزينة بالقرابين والمستخدمة لتمييز مدخل كل منزل هي كل ما يتاح للمسافرين الآخرين أن يشاهدوه من هذا المهرجان، إذ لن يتاح لهم التواصل مع السكان المحليين الذين يمكن أن يرشدوهم.

وتقول أدامي: “هذا ليس فيلما سينمائيا بأي شكل من الأشكال، بل هي عملية حفظ وأرشفة، لذا نرغب حقا في إظهار جوهر هذه التقاليد كما لو كنتَ هناك”.

وتلقت تقنية “إن إف تي” ضربة قوية بسبب انخفاض العملة المشفرة في عام 2022، ومع ذلك، لم يخلُ ذلك العام من مبيعات كبيرة؛ فقد بيع العمل الفني كريبتوبانك #5588 بتقنية “إن إف تي” مقابل 23.7 مليون دولار. وتأمل إندونيسيا في الحصول على جزء صغير من الأموال الكبيرة التي تجذبها هذه التقنية.

وسيحصل الحرفيون من خلال مشروع “باثس تو ألانغو” على 40 في المئة من ثمن بيع منتجهم الأصلي، و4.5 في المئة من المبيعات الثانوية المستقبلية. كما سيخصص جزء من المبيعات أيضا للصندوق الاجتماعي للمشاريع المستدامة في إندونيسيا.

ولقد أظهرت أول عملية بيع في 22 مارس/آذار 2023، مؤشرا إيجابيا على هذه المبادرة، فقد بيعت رقصة بالي في نسختها الرقمية “إن إف تي” مقابل 96.989.86 دولار. وقد أذهل هذا الرقم مصمم الرقصات إي مادي بانديم. ولم تنبع سعادته من المبلغ الذي حصل عليه، بل من الهدف الذي يصبو إليه بأن تجذب فكرة الـ “إن إف تي” الجيل القادم من الراقصين والراقصات. ولن يتمتع المشتري للـ”إن أف تي” بهذا الفيديو للرقصة فحسب، بل سيكون قادرا على مشاهدة بانديم وهو يؤدي الرقص في بالي.

وقد أدت أيضا الراقصتان كاديك دوي مارتيني وني كاديك فيرنا إريكاياني اللتان تنتميان إلى ما يعرف بـ “الجيل زد”، رقصة تعود إلى عشرينيات القرن الماضي تسمى (طيور الجنة)، واستخدمتا تقنية الـ “إن إف تي” لجمع الأموال لصالح بيت الفن في قرية سبالي، والذي يهتم بالحفاظ على ثقافة بالي وتطويرها.

وتم تصوير الراقصتين على أحد الشواطئ البركانية السوداء في بالي، وعلى مدرجات تيغالالانغ للأرز المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وهما تدركان تماما أنهما إن لم تبادرا بمحاولة الحفاظ على هذه الرقصة، فقد تكونان من القليلات المتخصصات في هذا الرقص التقليدي في المستقبل.

وتقول دوي: “لدينا مخاوف بشأن هذا. لكننا نأمل أن يرى الناس هذا العمل الفني من خلال إن إف تي، وأن يلهم جيل الشباب”

ويهدف مشروع “باثس تو ألانغو” إلى إثبات أن هذه التقاليد القديمة لا يزال بإمكانها توفير دخل لمن يتخذها مهنة له. فقد كان سوديارتا شاهدا على بحث حدادين آخرين عن مهن جديدة؛ لأن مردودها لم يكن كافيا. والآن، بات في مقدر الحرفيين ليس فقط التعرف على المزيد من الزبائن المحتملين، بل وبالنظر إلى أن كل قطعة “إن إف تي” تُباع بحسب الطلب، فسيمكنهم أيضا استلام المبالغ المالية مقدما قبل أن يعكفوا على العمل الفني المطلوب.

وتقول أدامي إن هذا يرفع من مستوى الفن؛ فخوف الحرفيين من تكدس أعمالهم الفنية، قد يدفع بعضهم إلى صناعة منتجات أقل جودة. كما أكد لانسينغ عالم الأنثروبولوجيا، على أن هذا المستوى من الفن يحتاج إلى الاعتراف به.

ويقول “إنها ترفع مستوى إبداعاتهم إلى شيء يحتاج إلى الحفاظ عليه. فهي ليست مجرد حرف يدوية؛ بل فنون تقليدية”.

وفي الوقت الذي يتطلع فيه مشروع “كوانتوم تيمبل” إلى التوسع في بيرو وبنما في عام 2023، ستزداد أيضا تجارب السفر المستدامة بتقنية “إن إف تي” لإندونيسيا، ويعلق على ذلك لانسينغ قائلا: “ستكون التقنية بمثابة مدخل وطريقة منظمة بعناية”.

وبيعت بالفعل أعمال فنية تعتمد تقنية “إن إف تي” في مزاد، وهناك قطع أخرى في طريقها لذلك، وهو ما يعني أن تقنية الـ”إن إف تي” تساعد حقا في رفع معنويات القرويين المشاركين في المشروع.

وعندما أُطلق المشروع في فبراير/شباط 2023 في معبد بورا تيرتا إمبول، نبع الماء المقدس الذي يعود إلى القرن العاشر في بالي، أدى السكان المحليون الرقصات داخل جدرانه التاريخية. وقالت أدامي إن الإندونيسيين العاملين في المشروع يرون مردود ذلك بالفعل على المجتمع.

وتضيف “قال الجميع إنهم يريدون إعادة دمج الفنون المسرحية في المعبد بشكل مستمر؛ لأن المشروع وحّد المجتمع المحلي وأعاد الحياة للمعبد”.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.