الألوان تحكم المنطقة: ماذا وراء الخطوط الزرقاء والخضراء والبنفسجية في خرائط الشرق الأوسط؟
قبل أنا تبدأ في قراءة هذا التقرير، تعال نأخذك في رحلة سريعة إلى أيام الطفولة، حين كنت تمسك بأقلام التلوين وتبدأ في رسم عالمك الصغير، تلتقط اللون الأخضر لتشكل شجرة، وتتناول الأزرق لتصوّر سماءً واسعة، ثم بقلم بنفسجي تضفي لمسة من السحر على وردة رسمتها في قلب ورقة بيضاء.
تبتسم وأنت ترى طبيعتك الخاصة تجسدُ الحياة بكل ألوانها الزاهية.
لكن، هل فكرت يوماً كيف شكلت تلك الألوان جغرافيّة الشرق الأوسط؟ وكيف تحولت إلى رموز لحدود سياسية واجتماعية حيث تلتقي الأزمان والآمال والصراعات؟
الآن أخبرك عن ذلك.
في عالم السياسة الدولية، لا تقتصر أهمية الألوان على التعبير الفني فحسب، بل تمتد لتصبح رموزاً لحدود ومواضع النفوذ بين الدول.
الخطوط الزرقاء والخضراء والبنفسجية التي رسمتها الأمم المتحدة على خرائط الشرق الأوسط ليست مجرد تمييزات جغرافية، بل هي خطوط فُرضت بعد صراعات دامت لعقود.
هذه الخطوط، التي تمثل اتفاقات وقف إطلاق النار وتوزيع الأراضي، تشكل اليوم ما يشبه الحدود الفعلية بين دول المنطقة، في وقت لا تزال فيه النزاعات حول الأراضي تتجدد.
وبينما كان لهذه الخطوط دور في تحقيق بعض الاستقرار المؤقت، فإنها تبقى رمزاً لتوترات وأزمات مستمرة، تعكس واقعاً سياسياً لا يزال غارقاً في تعقيداته.
وعلى وقع التوترات السياسية التي يشهدها الشرق الأوسط، بدءاً من قطاع غزة والحرب مع إسرائيل، إلى لبنان، فسوريا، تعود إلى الواجهة ثلاثة خطوط أممية؛ الخط الأخضر والخط الأزرق والخط البنفسجي.
هل تعرف كيف ظهرت تلك الخطوط، وماذا تعني في الجغرافيا السياسية؟
الخط الأخضر
ظهر مصطلح “الخط الأخضر” بعد حرب 1948، عندما توسطت الأمم المتحدة لإبرام اتفاق هدنة بين إسرائيل والدول المجاورة، ليوقّع العرب وإسرائيل بذلك اتفاقية الهدنة، وتم رسم خط الهدنة في الخرائط باللون الأخضر.
جاء ذلك بعد أن شنّت منظمات يهودية حملات عسكريّة رفعت من خلالها سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية من 57 في المئة، وفق قرار تقسيم فلسطين رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة، إلى 78 في المئة، ليتبقّى 22 في المئة من مساحة الأراضي الفلسطينية تحت سيطرة الأردن ومصر، وهي مساحات في الضفة الغربية وغزة.
وأصبح الخط الأخضر والمعروف بـ(خط الهدنة 1949) هو الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي المحتلة عام 1967.
ولكن كيف أثر هذا الخط على الفلسطينيين؟
تشير الخرائط إلى أن هذا الخط فصل بين سكان 75 قرية وأراضيهم، وقسّم عشرات الآلاف من التجمعات السكنية في القدس وقلقيلية وطولكرم، وقد أصبح علامة إدارية خاصة مع توسع الاستيطان في الضفة.
ولا يعد الخط الأخضر في القانون الدولي خطاً حدودياً، بل هو خط هدنة بين إسرائيل والدول العربية، ومع ذلك، أصبح هذا الخط فاصلاً أساسياً في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
وعاد الخطر الأخضر إلى الواجهة مؤخراً بعد قرارات عدة اتخذتها السلطات الإسرائيلية وتتعلق به، أبرزها إغلاق المعابر وتوقيف العمال الفلسطينيين عن العمل داخل الخط الأخضر وطردهم، بالإضافة إلى إقرار “الكنيست” قانون “إبعاد” عائلات منفذي العمليات من داخل الخط الأخضر.
الخط الأزرق
يبلغ طوله 120 متراً، ويفصل بين لبنان من جهة وإسرائيل وهضبة الجولان من جهة أخرى، أنشأته الأمم المتحدة عام 2000 بهدف التحقق من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان.
ويحصر لبنان المناطق التي يختلف حولها مع إسرائيل عبر الخط الأزرق في 13 نقطة تمتد من مزارع شبعا (جنوب الشرق)، إلى بلدة الناقورة (جنوب الغرب)، في قضاء صور بمحافظة الجنوب.
وتوضح الأمم المتحدة عبر موقعها الرسمي أنه في حال “رغبت السلطات الإسرائيلية أو اللبنانية في القيام بأي أنشطة بالقرب من الخط الأزرق، تطلب قوات حفظ السلام الأممية (يونيفيل) منها تقديم إشعار مسبق، مما يسمح لبعثة الأمم المتحدة بإبلاغ السلطات على الجانبين تفادياً لأي سوء فهم قد يؤدي إلى زيادة التوترات”.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن الخط الأزرق هو أحد العناصر المركزية للقرار 1701 منذ حرب عام 2006، وتتولى قوات اليونيفيل الأممية مهمة حراسته مؤقتاً.
ويعد الخط الأزرق خط اشتباك ساخن بين القوات الإسرائيلية و”المقاومة في لبنان” بشكل روتيني، وتقوم القوات الإسرائيلية باختراقه باستمرار، إذ اجتاحت لبنان في العديد من العمليات أبرزها اشتباك عام 2012.
وعادت مسألة الخط الأزرق إلى الواجهة من جديد في صيف 2023، بسبب محاولات القوات الإسرائيلية إنشاء جدار إسمنتي في المنطقة، ووضعت سياجاً شائكاً وجداراً إسمنتياً حول كامل قرية الغجر السورية، التي تتمدد في ثلثيها على أراض لبنانية، وهو ما يعتبره لبنان “احتلالاً وخرقاً للقرار 1701”.
وكانت السلطات اللبنانية قد أكدت عدم اعترافها بالخط الأزرق الموجود داخل مزارع شبعا المحتلة من إسرائيل.
وخلال الفترة الماضية، طرح المبعوث الأمريكي إلى لبنان آموس هوكشتاين فكرة تحويل الخط الأزرق إلى خط حدودي، وهو ما يرفضه لبنان وحزب الله، فيما تسعى إسرائيل إلى دفع قوات حزب الله شمالاً وإنشاء منطقة عازلة داخل لبنان.
الخط البنفسجي
الخط البنفسجي هو خط وقف إطلاق النار بين إسرائيل وسوريا بعد حرب الأيام الستة في يونيو/حزيران 1967.
خلال الحرب، استولت إسرائيل على مرتفعات الجولان بما في ذلك مدينة القنيطرة، وتم رسم الخط البنفسجي على خرائط الأمم المتحدة ليكون حدوداً فعالة بين البلدين بعد الحرب، وأشرفت عليه هيئة الأمم المتحدة لمراقبة الهدنة.
وخضع الخط البنفسجي للرقابة من خلال مواقع ومراكز مراقبة تديرها الأمم المتحدة، وهو يُعتبر الحدود الفعلية بين إسرائيل وسوريا على الرغم من أنه ليس خط حدود رسمي.
في حرب أكتوبر/تشرين أول 1973، عبرت القوات السورية هذا الخط في هجوم مفاجئ على الجولان، مما أدى إلى معارك عنيفة مع القوات الإسرائيلية.
بعد عدة أيام من القتال، تمكنت إسرائيل من دفع القوات السورية إلى الداخل، وأصبح الخط البنفسجي مرة أخرى هو الحدود الفاصلة بين البلدين، ثم في مفاوضات فك الاشتباك بعد الحرب، تم الاتفاق بين إسرائيل وسوريا في 31 مايو/أيار 1974 على سحب قواتهما إلى ما وراء الخط البنفسجي.
وتم إنشاء منطقة عازلة تحت إشراف الأمم المتحدة في نفس اليوم، كما تم إنشاء منطقة قوة مراقبة فض الاشتباك بموجب قرار مجلس الأمن رقم 350.
ومنذ ذلك الحين، أصبح الخط البنفسجي الحدود الفعلية بين إسرائيل وسوريا حتى اليوم.
“حدود مصطنعة”
ويقول أستاذ علم الاجتماع والسياسة، الدكتور بدر ماضي لبي بي سي إن هذه “الحدود المصطنعة” كانت تهدف إلى خلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما يصب في مصلحة القوى الكبرى المسيطرة على الساحة الدولية، بحسب تعبيره.
ويضيف أن هذه القوى عملت على إبقاء الكيانات السياسية بعيدة عن الوحدة والتنمية أو بناء الدولة، مما جعل هذه الحدود عائقاً أمام اندماج المجتمعات التي كانت مرتبطة بروابط اجتماعية وسياسية وتاريخية عميقة.
“هذه الخطوط فرضت حدوداً عاطفية بين المجتمعات التي قسّمتها بعد أن كانت وحدة واحدة”، بحسب ماضي.
ويشير إلى أن هذه الحدود فرضت هوية ضيقة على الشعوب، وأسهمت بتعزيز الانقسامات العرقية والطائفية في المنطقة، معتبراً أن النتيجة كانت “تمزقاً اجتماعياً عميقاً”، إذ أصبحت “الهويات الفرعية تغلب على الهويات الكبرى، مما خلق بيئة غير مستقرة في الدول العربية”.
ويقول: “الأنظمة العربية والقوى الاستعمارية لا تريد أن يشعر المواطن أنه شريك في أي إنجاز، وهذا ما يزيد الشرخ بين المجتمعات العربية التي هي نتاج الانقسام بين الأنظمة السياسية بحد ذاتها”.
ويؤكد ماضي أن المجتمع الدولي ما زال يعتقد أن إبقاء المنطقة في هذه “الفوضى المنضبطة” يعد ضرورة لاستمرار المصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى، وتوقع أن تظل هذه الحدود كما هي، “فالقوى الكبرى لن تسعى لخلق حالة من الاستقرار أو أن تعيد رسم هذه الحدود، أو تسمح لأي الجهة القيام بذلك”.
ويختم ماضي حديثه مع بي بي سي بالقول إن الأنظمة السياسية في المنطقة، المدعومة من القوى الكبرى، لا تسعى لبناء وحدة حقيقية بين شعوبها، بل تعمل على إبقاء الانقسامات، لا سيما الحدودية، لتخدم مصالحها.
في النهاية، قد تكون الحدود مجرد خطوط على خريطة، لكنها تبقى أكثر من ذلك في قلوب الناس، تحمل معها قصصاً وحكايات عن الهوية والكرامة والحرية.
ويبقى السؤال: هل ستظل هذه الخطوط، رغم كل ما تحمله من تاريخ، حجر عثرة لنزاعات مستقبلية، أم ستصبح جزءاً من قصة تحدد الشعوب ألوانها بعيداً عن الصراعات؟
قد لا تكون الإجابة واضحة في الوقت الراهن، لكن طفولتنا أخبرتنا أن العالم دائماً يعيد رسم نفسه.
- ماذا نعرف عن هضبة الجولان المحتلة وما أهميتها الاستراتيجية؟
- حرب غزة: كيف يعيش الفلسطينيون داخل الخط الأخضر خلال حرب إسرائيل وغزة؟
- ما هي خطة إسرائيل لاستبدال 200 ألف عامل فلسطيني؟
Powered by WPeMatico
Comments are closed.