حرب الحبوب.. العالم على أبواب مجاعة غير مسبوقة

الجميع تحت وطأة الحرارة الشديدة يئن، والكل مصاب بأعراض الطقس الساخن، تعرق طوال اليوم، إرهاق، والرغبة في الارتماء على أقرب مقعد لتناول طعام بسيط، لكن لأن المصائب لا تأتي فرادى، فالطعام نفسه أصبح غير مضمون، وبات المواطن الفرنسي ينظر إلى “كرواسون” الصباح بقلق من اختفائه غدا، وزميله الأمريكي المعتاد على الوجبات السريعة مثل البيتزا يبحث عن حجم مخزون العالم من الدقيق، وإذا كان الرجل البريطاني قد يتخلى عن شاي الخامسة مساء، فكيف نقنع المواطن العربي بالتخلي عن رغيف الخبز الذي يعتمد عليه في كل وجبات طعامه.
قلق العالم الذي وحده الحر الشديد، لم ينبع من فراغ أو تقارير صحافية تهول الأمر لجذب مزيد من القراءات، بل حقيقة واقعة بعد إعلان روسيا أنها لن تسمح لأوكرانيا بتصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وهو ما يعني حرفيا حجز 20 مليون طن من الحبوب التي تعتمد عليها دول العالم، ولذلك لم يكن غريبا أن يعلنها بصراحة أنطونيو جوتيرش، الأمين العام للأمم المتحدة، أن القرار يعني تجويع مئات الملايين حول العالم.
ورغم أن المجاعات جزء من التاريخ الإنساني، لكن الأجيال الحالية لم يعرفوها بالقدر الكافي، فالأوروبيون اليوم معظمهم مولود بعد الحرب العالمية الثانية التي بسببها جاع أكثر من عشرة ملايين إنسان، فيما ودع الصينيون عصر “القفزة إلى الأمام” وسياسة زعيمهم “ماو” التي عرضت 43 مليون صيني إلى الهلاك نتيجة موجات جفاف وعدم إدارة الموارد الزراعية بشكل جيد في الفترة من (1959-1964)، وهي ما باتت تعرف بالمجاعة الأبشع في القرن الـ20.
لكن إذا كانت مجاعات الماضي تحددت برقعة جغرافية بعينها سواء بلد أو قارة، فأزمة اليوم تهدد الأرض بقاراتها السبع ودولها دون استثناء، يدلل على ذلك إحصاءات منظمة “الفاو” التي توضح أن أوكرانيا وحدها مسؤولة عن 42 في المائة من الإنتاج العالمي لزيت بذور عباد الشمس، و16في المائة من الذرة بجانب 9 في المائة من إنتاج القمح العالمي، وبزاوية أخرى، فإن الدول المعتمدة على الحبوب الأوكرانية موزعة بين مصر والسودان والسنغال وتونس في إفريقيا، ومرورا بلبنان وقطر وباكستان آسيويا، ووصولا إلى مالدوفا الأوروبية.
تلك الحقائق هي ما دفعت دول العالم بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية مباشرة، إلى المطالبة بعدم المساس بأي شيء يخص تصدير أوكرانيا للحبوب، وأن يكون الأمن الغذائي بعيدا عن رصاص البنادق، وتحت عنوان “الشحن الآمن” والتي سميت لاحقا بـ”اتفاقية الحبوب”، وافقت روسيا في يوليو 2022 على استمرار كييف في تصدير محصولها حتى لا يحدث أي أزمة عالمية، وهو ما توقفت عنه منذ أيام معلنة أن أي سفينة أوكرانية محملة بالغذاء تمر عبر البحر الأسود سيتم معاملتها كهدف عسكري.
دول كثيرة توقعت القرار الروسي قبل صدوره، فطالما الحرب مشتعلة فكل طرف لن يفرط في ورقة يمكنه الربح بها، وسرعان ما ظهر سؤال ما البديل، وحاولت دول مثل مصر التي تعتمد على الحبوب الأوكرانية بنسبة تتخطى الـ80 في المائة، أن تتوجه إلى أسواق أخرى مثل كندا والهند، لكن تلك البدائل لم تستطع سد الفجوة فضلا عن ارتفاع التكلفة المالية، وكحل جديد وربما أخير أعلنت أوكرانيا في 22 يوليو الماضي أنها ستمرر بضاعتها عبر نهر الدانوب لتصدير حبوبها مباشرة إلى الأماكن القريبة في أوروبا، ثم شحنها في سفن عملاقة لكل دول العالم، وإذا كان هذا سيرفع التكلفة المالية التي ستتكبدها دول لم تشارك في الحرب، لكن أمام وحش المجاعة بدا ذلك مقبولا.
يقول المهندس الأمريكي الشهير ميرفي، في أول قوانينه لسوء الحظ، “كل شيء يتعطل في الوقت نفسه”، هذا بالضبط ما حدث الأسبوع الماضي بعد أن ضرب العالم موجة حارة غير مسبوقة، أدت إلى انخفاض منسوب المياه لدرجة وصلت إلى 40 في المائة في بعض مناطق نهر الدانوب المفترض أن ينقل الحبوب الأوكرانية، وهذا جعل بحسب شبكة بلومبيرج مرور السفن الكبيرة مستحيلا، والحل الوحيد حشد عدد هائل من السفن الصغيرة وهو أمر قد يكون مستحيلا من الناجية اللوجستية.
وترسيخا لقانون ميرفي، زادت الأزمة بحرائق الغابات والأشجار نتيجة موجة الحر الشديد، فالصين وحدها فقدت 700 ألف هكتار من أراضيها، فضلا عن أراض لم يتم حصرها حتى الآن في دول أخرى مثل الأوروغواي والمكسيك وهولندا واليونان، وهو ما يعني أن الأزمة لن تقتصر على الحبوب فقط، فالحرارة الشديدة مستمرة والحرائق أكيدة.
بالتأكيد لم تقف الدول الكبرى مكتوفة الأيدي، خاصة بعد أن وصل عدد الجياع إلى 783 مليون إنسان في نهاية 2022 بحسب صندوق النقد الدولي، وبالتأكيد أيضا كانت السعودية في مقدمة الدول التي تعمل باستمرار على تخفيف معاناة الإنسان بصرف النظر عن دينه وجنسه وعرقه، فطائرات المملكة التي تحمل المواد الغذائية لم تتوقف محركاتها عن الدوران يوما واحدا، يدلل على ذلك الأرقام الرسمية التي تشير إلى أن السعودية دعمت اليمن بنحو 17 مليار دولار في قطاع الأمن الغذائي، وكذلك سورية ولبنان بتكلفة 152 مليون دولار مساعدات غذائية، وكان نصيب أفغانستان 95 مليون دولار، فيما حظت جنوب السودان بـ370 ألف دولار.
تلك الجهود هي ما دفعت صندوق النقد الدولي إلى إنشاء مكتب إقليمي له في الرياض في 2022، وأشارت رئيسة الصندوق كريستالينا جورجييفا حينها، إلى أن دور السعودية في الإغاثة استثنائي، وهذا يجعلها مركزا إقليميا كبيرا للمساعدات الإنسانية خاصة في الوطن العربي ومنطقة الشرق الأوسط، لكن السؤال هنا: بينما تتسع الهوة.. هل تستطيع كبرى الدول مهما بلغ عطاؤها مسايرة أعداد الجياع، كما هل يصدق بوتين في وعده للدول الإفريقية في قمة بطرسبرج منذ أيام، ويعوضهم فعلا بحبوب مجانية خلال أشهر قليلة ليحل على الأقل جزءا كبيرا من الأزمة، أم سيتطاحن الناس حتى آخر قطعة في دول لم يسبق أن سمع عنها الرئيس الروسي مسبقا؟

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.