اشتباكات السودان: مراسل بي بي سي من الخرطوم يوثق رحلة نجاته من الحرب

محمد عثمان ينظر إلى نهر النيل أثناء العبور بين السودان ومصر

BBC
محمد عثمان ينظر إلى نهر النيل أثناء العبور بين السودان ومصر

في ظل استمرار القتال العنيف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع والذي دخل أسبوعه الثالث، تضاءلت آمالي بتوقف القتال وعودة الهدوء مرة أخرى.فبعد صبيحة هادئة نسبيا انفجر القتال العنيف مرة أخرى بين الطرفين في محيط قيادة الجيش وعادت سحب الدخان السوداء لتغطي سماء منطقة شرق الخرطوم، هذه السحب السوداء زادت من إحساس الكآبة داخلي. بالإضافة إلى سُحب سوداء في مناطق أخرى من أم درمان والخرطوم بحري، والتي شهدت اشتباكات عنيفة بين الطرفين بالرغم من الهدنة المعلنة. كما بدأ الطرفان في تحشيد المزيد من القوات من خارج الخرطوم.هذا التطور دفعني إلي اتخاذ قرار لم أتخذه في يوم ما، وهو مغادرة بلدي مضطرا.

بالنسبة لي كصحافي فان تغطية الحرب من على الأرض ونقل ما يحدث إلى العالم بصورة مهنية وصادقة، تُمثّل أفضل جائزة. ولكن الصعوبات الكبيرة التي واجهتني خلال التغطية مثل عدم القدرة على التحرك، وضعف خدمة الإنترنت والاتصال، والأهم من ذلك كله سلامتي الشخصية، وسلامة أسرتي، كل ذلك جعل قرار الخروج من البلاد أمرا لا مفر منه.

امرأة تجلس مع أطفالها

BBC
الكثير من الناس فروا من السودان عند بدء القتال في الخامس عشر من أبريل/نيسان الماضي

“خطورة بالغة” كان قرار مغادرتنا المنزل، عند منتصف النهار، لأنّه الوقت الذي تقل فيه حدة المعارك نوعا ما، بعكس بقية أوقات الصباح الباكر أو المساء. تحركنا من مدينة أم درمان في اتجاه الغرب، وسلكنا طريقا لا توجد فيه نقاط تفتيش كثيرة، وبعد مرور نحو عشر دقائق من الخروج، ولسوء حظنا، ظهرت طائرة حربية في السماء، وسرعان ما خرج مقاتلون يتبعون لقوات الدعم السريع من داخل الأحياء التي يختبئون فيها، وبدأوا في إطلاق مضادات الطائرات بكثافة، ثم انتشروا في الشارع. استوقفنا بعضهم وهم في حالة من الهياج والتوتر شاهرين أسلحتهم في وجوهنا، وسألونا بتوتر واضح: من أين قادمون؟ وإلى أين تُريدون الذهاب. الأمر الذي عاظم من فزع زوجتي وأطفال، لأنهم أحاطوا بالسيارة.أخبرت الجنود بأنني وعائلتي ذاهبون الي الاتجاه الغربي من مدينة أم درمان. نظر بعضهم داخل السيارة، ثم سمحوا لنا بالمغادرة. تنفسنا الصعداء، ولكن ما أن قطعنا مسافة قصيرة حتى ظهرت لنا مجموعة أخرى من قوات الدعم السريع أيضا، لكنهم كانوا أقلّ توترا ، وطلبوا منا المغادرة على الفور.

صورة جوية لدخان أسود يغطي السماء فوق العاصمة الخرطوم في 23 أبريل/نيسان

Getty Images
تصاعدت الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع

” شوارع خالية ومنازل فارغة”

الشوارع في حي المهندسين، أحد أحياء مدينة أم درمان، كانت خالية تماما من سكانها، والبيوت مغلقة الأبواب، مع وجود واضح لسيارات تتبع لقوات الدعم السريع منتشرة على شوارع عديدة في الحي، وهي متمركزة في بعض الشوارع الجانبية، أو متخفية تحت الأشجار حتى لا تكون عرضة لطائرات الجيش السوداني التي تُحلّق في المنطقة بين الفينةِ والأخرى.الملاحظة الأساسية أننا لم نُصادفُ أي نقطة تفتيش تتبع للجيش السوداني، طوال هذه الرحلة، بل إنّ الوجود العسكري بشكلٍ عام، كان يقلُ تدريجيا كل ما اتجهنا غربا. وبالمقابل تزداد مظاهر الحياة، خاصة في أحياء أم بدة، ودار السلام اللتان تتبعان لمدينة أم درمان. حيث العديد من المتاجر في هذه الأحياء تعملُ وأبوابها مفتوحة، وكذلك المقاهي الشعبية التي تديرها النساء هي الأخرى ممتلئة بالروّاد، والمواصلات العامة تعمل وإنْ كانت بوتيرة أقل.مصدر الخطورة لا يكمنُ فقط في الاشتباكات المسلحة، ونقاط التفتيش المنتشرة هنا وهناك، بل أيضا في العصابات المسلحة والتي بدأت في تنفيذ عمليات سطو ونهب في الطرقات، وفي المنازل التي هجرها أصحابها، المتاجر التي لم تعمل في بعض الأسواق، في ظل غياب تام لقوات الشرطة، أو أي قوات أخرى تحفظ الأمن. تمكّنا من تجنّب هذه الأماكن التي تتوزّع فيها العصابات التي تتحرك غالبا في مجموعات وتتسلّح بالأسلحة البيضاء، بفضل الاتصالات التي أجريناها قبل مغادرتنا.

“غياب تام للدولة”

عند وصولنا إلى الحدود الفاصلة بين ولاية الخرطوم والولاية الشمالية، لم نجد نقاط التفتيش الروتينية التي كانت تُوجد في هذه المناطق عادة، وتتكون من أفراد شرطة أو قوات أمنية، أو تتبع للجيش السوداني، وبدلا عنها كانت هناك أعداد كبيرة من السيارات الخاصة، وحافلات السفر، وسيارات النقل، وجميعها ممتلئ بالبشر، وتتجه شمالا في اتجاه مدن في شمال السودان مثل: مروي، ودنقلا، ووادي حلفا.استغرقت رحلتنا إلى مدينة وادي حلفا أربعة وعشرين ساعة، كانت رحلة شاقة للغاية، في ظل طرق وعرة، وانتشار للكثبان الرملية، واشتداد الرياح التي حجبتْ عنها الرؤية. عند الليل، توقفنا عند أحد المقاهي في مدينة دنقلا، واستأجرنا أسرة نمنا عليها في العراء بدون Hغطية تقينا البرد القارس، وعند الصباح، سارت بنا العربة نحو ثمان ساعات حتى وصلنا المعبر الحدودي الفاصل بين السودان ومصر.

في مدينة وادي حلفا، هالني مشهد آلاف العائلات التي تقطّعتْ بهم السُبل، لانعدام فنادق أو أماكن إيواء تستوعب هذه الأعداد الكبيرة من الفارين من جحيم الحرب في الخرطوم. نساء وأطفال يفترشون الأرض في الساحات العامة، وفي المدارس، مع نقص واضح للطعام. قالت لي سيدة خمسينية بأنّها تُعاني في ظل هذه الأوضاع المزرية منذ أربعة أيام، لا طعام ولا مياه تكفي، مكابدين حرارة الشمس اللاهبة بالنهار، وبرودة الأجواء عند الليل، في انتظار تأشيرة الخروج لابنها الذي يتولى مسؤولية عبورهم إلى داخل الأراضي المصرية.بالإضافة إلى السودانيين الذين تمتلئ بهم المعابر الحدودية، فإنّ هناك فارين من جنسيات أخرى كانت في السودان، وصادفت الحرب: هنود، يمنيون، سوريون، سنغاليون، صوماليون، ومعظم هؤلاء طلاب يدرسوا في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم. قال لي أحد هؤلاء وهو من غانا، بأنّه يُريد المغادرة بأي وسيلةٍ ممكنة، وأضاف بأنّه عاش لحظات صعبة جدا في الخرطوم، وما يزالُ يُعاني نفسيا من القصف وأصوات الانفجارات، وختم قوله لي: “أريدُ المغادرة الآن”.

الناس ينتظرون وسائل النقل لمغادرة السودان

BBC
سافر كثيرون من الناس بالحافلة إلى نهر النيل على أمل استقلال عبارة من السودان إلى مصر

“نقطة ضوء في العتمة”

النقطة المضيئة في هذا الواقع المعتم، هو أنّ معظم سكان مدينة حلفا، والمناطق الواقعة على الطريق البرّي الممتدُ شمالا إلى الحدود السودانية المصرية، فتحوا منازلهم لاستقبال الفارين، وتقاسموا معهم الطعام والمياه دون مقابل مادي. قال لي بدري حسن وهو صاحب منزل كبير في مدينة حلفا إنه ظل يأوي العشرات من الفارين منذ بدء تدفقهم على المدينة منذ عشرة أيام: “نشعر بأننا مسؤولين من هؤلاء الناس. السلطات هنا ليس لديها ما تُقدمه للعابرين، وهم في أوضاع مزرية”.

مواطنة سودانية تبلغ من العمر 75 عاماً ، تخبز الخبز في كوخ من الطين كما تفعل يومياً لتقدمه للفارين من السودان الذي مزقته الحرب الذين يمرون في بلدة وادي حلفا الشمالية.

Getty Images
في وادي حلفا ، يساعد السكان المحليون النازحين ويقدمون لهم الطعام والسكن

“جحيم المعبر”

الوضع في معبر إشكيت الحدودي، لا يقلُ سوءا عن كل الظروف التي أجبرت الفارين من جحيم الحرب في الخرطوم، هو مشهد ينتمي إلى كل مشاهد المأساة التي خلّفتها الحرب. العشرات من حافلات السفر، والسيارات الخاصة مكدسة داخل المعبر وخارجه. عدد الموظفين والعاملين لا يتناسب اطلاقا مع الكم الهائل من الناس. تكدس في دورة المياه الوحيدة. ومن نجح في إكمال اجراءات السفر عليه المبيت داخل المعبر بسبب أن العبّارة التي تنقل المسافرين من اشكيت إلي مدينة أبو سمبل تتوقف عند الساعة الخامسة مساء. ولذلك فإنّ المئات من العائلات، وكبار السن والأطفال، جميعهم يفترشون الأرض والأرصفة حتى الصباح. عند صبيحة اليوم التالي، وبعد ليلة قاسية انخفضت فيها درجات الحرارة، تمكنتُ والأسرة من المغادرة والدخول إلى الأراضي المصرية. أثناء عبورنا بالعبّارة وأنا أنظر للنهر، انتابتني مشاعر متناقضة بين السعادة والحزن في آن واحد . السعادة في إنقاذ أسرتي الصغيرة من براثن الحرب، والحزن على ترك أمي وأبي وأسرتي الكبيرة والأصدقاء خلفي، وهم يُواجهوا رياح الحرب العاتية، دون مصدّات لمواجهتها.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.