ضابط نازي وأسير: حكاية لاعبين في فريق واحد فرقتهما الحرب

محطة قطار هامبورغ، سبتمبر/أيلول من عام 1933 – مشهد وداع بين اثنين من الزملاء القدامى اللذين حققا الكثير معا.

كان أسبيورن هالفورسن، لاعب خط وسط فريق هامبورغ، عائدا إلى بلده النرويج. لقد كان جزءًا أساسيًا من هجوم الفريق ومن أوائل النجوم الأجانب في كرة القدم الألمانية. وكان الرجل الآخر الذي يودعه في محطة القطار هو صديقه وزميله في الفريق أوتو فريتز (هاردر) الذي كان مستفيدا من إبداع هالفورسون الكروي الذي يحوله إلى أهداف.

قصة حليف هتلر الذي اعتبره الكثيرون “رجلا خارقا”

قصة الجاسوسة التي لعبت دورا بارزا في هزيمة النازيين

كان هاردر حاسما أمام المرمى، وقد ساعدت أهدافه هامبورغ على الفوز بالبطولة الألمانية في عامي 1923 و 1928.

هرع هاردر إلى المحطة بدافع شكر هالفورسن على وقتهما معا وتمنى له التوفيق. لم يعرف أي منهما، في تلك المرحلة، المسارات المختلفة التي سيسيران فيها.

اعتزل هالفورسن اللعب في عام 1934 لتولي دور مع الاتحاد النرويجي لكرة القدم. وقد قاد فريقهم الوطني كمدرب إلى الميدالية البرونزية في دورة الألعاب الأولمبية لعام 1936 في برلين، ولا يزال هذا الإنجاز هو التكريم الدولي الوحيد لكرة القدم النرويجية.

لكن ارتبط اسمه بشكل أكبر بما حدث بعد ذلك. عندما اجتاحت الحرب العالمية الثانية القارة الأوروبية، فقد حارب هالفورسن ضد المحتلين النازيين في النرويج كعضو في المقاومة قبل أسره وإرساله إلى معسكرات الاعتقال.

كان هاردر أكبر بست سنوات من هالفورسن. ومع تغير الصورة السياسية والعسكرية في ألمانيا، انضم إلى قوات الأمن الخاصة إس إس التي كانت جزءًا من الرايخ الثالث، وكانت هذه القوات الخاصة مخيفة ومهيبة. وقد كانت في الأصل حدة الحماية الشخصية لأدولف هتلر، وتوسعت لتتولى مسؤولية القضاء على المستهدفين سياسيا وعرقيا من قبل النازيين.

ارتقى هاردر في الرتب، وأصبح في نهاية المطاف قائدًا في أحد معسكرات الاعتقال التي سيتم إرسال هالفورسن إليها.

ولا يعتقد أن هاردر وهالفورسن التقيا مرة أخرى. فبحلول الوقت الذي وصل فيه هالفورسون إلى معسكر اعتقال نوينغامي الذي كان يعمل فيه هاردر في أبريل/نيسان من عام 1945، كان زميله السابق قد تلقى أوامر بالفعل بالانتقال إلى مكان آخر. وقد توفي هالفورسن في يونيو/حزيران من عام 1955 بسبب التيفوس الذي كان قد أصيب به في معسكرات الاعتقال النازية.

وأجرى يورغن كوالوسكي، مدرس التاريخ المتقاعد من هامبورج، مشروعًا بحثيًا لمدة عامين مع طلابه حول حياة هالفورسن إذ زاروا النصب التذكاري لمعسكر الاعتقال ومنزل هالفورسن في هامبورغ ونادي مسقط رأسه في النرويج. وعلق كوالوسكي قائلاً: “ما زلنا نكافح من أجل تسمية شارع في هامبورغ باسمه”.

لقد كانت هذه الجهود حتى الآن عبثا – على الرغم من أن قصة هالفورسن الرائعة تستحق أن تكون معروفة بشكل أفضل.

Short presentational grey line

BBC

بعمر 18 عامًا، قاد هالفورسن فريقه ساربسبورغ وسجل هدفاً في الفوز بكأس النرويج عام 1917 ، عندما فاز فريقه على فريق بران بيرغن 4-1.

وخلال أيام اللعب كهاو، كان يعمل سمسار سفن وقد جاءته فرصة للانتقال إلى الساحل الشمالي لألمانيا.

انضم إلى هامبورغ وحقق نجاحًا فوريًا، إذ قاد هالفورسن النادي إلى بطولتين ألمانيتين وثماني بطولات إقليمية في شمالي ألمانيا.

وفي كتاب “إيه لا غيت” عن أعظم شخصيات كرة القدم النرويجية، يدعي المؤلفون أنه كان هناك عرض لضم هالفورسن للمنتخب الألماني كقائد له إذا كان منفتحًا على تغيير جنسيته، ويقال إنه رفض ذلك.

لقد قرر العودة إلى بلاده على الرغم من أنه كان معروفًا في ألمانيا بشكل أفضل منه في البلد الذي ولد فيه.

ولا يزال سبب اختياره ركوب ذلك القطار، وتوديع هاردر ومغادرة ألمانيا في سبتمبر/أيلول من عام 1933 غير واضح.

ويقول مدرس التاريخ كوالوسكي: “أشك في أنه غادر ألمانيا بسبب الوضع السياسي، فليس لدينا دليل على معارضته لمن هم في السلطة حتى عام 1940 عندما عاد إلى النرويج”.

ووفقًا لتقرير نشرته مجلة غوسيمار النرويجية لكرة القدم، كان هالفورسن هو اللاعب الوحيد الذي احتفظ بيديه بجانبه بينما أدى زملائه تحية نازية في مباراة أقيمت على شرفه قبل مغادرته مباشرة.

فتح أرشيف الفاتيكان الخاص بالبابا في عهد النازية

قصة المرأة التي فرت من النازيين لتعيد تشكيل علم الرياضيات

لكن هالفورسن عاد إلى ألمانيا بعد 3 سنوات حيث أدار فريق النرويج في أولمبياد برلين عام 1936. وفي الدور ربع النهائي، كانت النرويج مستضعفة ضد دولة مضيفة تلعب على خلفية الدعاية التي تعلن التفوق العنصري.

بعد فوز ألمانيا على لوكسمبورغ 9-0 في الجولة السابقة، تم إقناع هتلر، الذي كان مترددًا، بحضور المباراة. لم تكن هزيمة ألمانيا متوقعة، ولكن فازت النرويج 2-0 وقيل إن هتلر غادر مقعده غاضبا قبل صافرة النهاية.

وخسرت النرويج أمام إيطاليا بنتيجة 2-1 بعد وقت إضافي في نصف النهائي، لكن تم الإشادة بهالفورسن لتحليله للمباراة وأسلوبه في تغذية اللاعبين، والذي كان متقدمًا في ذلك الوقت.

وكمدرب، كان هالفورسن شخصية جذابة ومبتكرة. ففي مأدبة في كأس العالم 1938 في فرنسا، أدى رقصة من الموسيقى الشعبية آنذاك أنا وفتاتي Me And My Girl أمام اللاعبين وطاقم العمل.

وفي أبريل/نيسان من عام 1940، غزا النازيون النرويج، وأراد المحتلون أيضًا وضع اتحاد كرة القدم تحت سيطرتهم. يقال إن هالفورسن، الذي لم يكن مديرًا للمنتخب الوطني فحسب، بل كان أيضا رئيسا لاتحاد كرة القدم، كتب رسالة احتجاج.

الملعب الأولمبي، القادر على استيعاب 100 ألف شخص، مباراة نصف نهائي النرويج ضد إيطاليا في بطولة كرة القدم الأولمبية لعام 1936 في برلين

Getty Images
الملعب الأولمبي، القادر على استيعاب 100 ألف شخص، مباراة نصف نهائي النرويج ضد إيطاليا في بطولة كرة القدم الأولمبية لعام 1936 في برلين

وقبل نهائي كأس النرويج في ذلك العام، حاول أيضًا منع القادة النازيين من اتخاذ مواقع ورفع أعلام الصليب المعقوف بين مقاعد كبار الشخصيات، وهي منطقة مخصصة عادةً للعائلة المالكة النرويجية التي فرت إلى المنفى.

قال كوالوسكي: “لعب هالفورسن دورًا رئيسيًا في منظمة رياضية سرية أصبحت مجموعة مقاومة مهمة في النرويج، لقد قاطعوا النازيين بل وقاموا بعمليات تخريب ضد أولئك الذين شاركوا في الأحداث الرياضية النازية مثل رش الرمال على ساحات التزلج على الجليد في الليل”.

مع ذلك، تجاوزت معارضة هالفورسن الرياضة.

في أغسطس/ آب من عام 1942، فتش النازيون قبوًا صغيرًا في أوسلو واكتشفوا عملية مقاومة سرية.

احتوى الطابق السفلي على مطبعة أنتجت منشورات “النشرة” و”الزمن” و”همسات” والتي كانت تنشر المعلومات من البث الإذاعي البريطاني بين السكان المقموعين.

واعتقل النازيون هالفورسن على الفور، إذ سُجن في النرويج مدة عام تقريبا. وكتب في رسالة إلى شقيقه أولاف قائلا:”أنا جائع وأخشى أن أُرحًّل إلى ألمانيا”.

كانت مخاوفه مبررة.

عندما نُقِل بعيدًا، كان أولئك الذين أتوا من أجله يتبعون توجيهات النازيين السرية في عملية عُرفت باسم الضباب والليل، وهي عملية سعت إلى إلقاء القبض على أعضاء المقاومة وعدم ترك أي أثر لهم.

رُحِّل إلى معسكر اعتقال في ناتزفيلر، بالقرب من جبال فوج في شرق فرنسا حيث كان على المعتقلين العمل في محجر وبناء الطرق، من بين مهام أخرى تتطلب جهداً بدنياً.

“الثائرة الهولندية”: الصبية التي أغوت النازيين وقتلتهم

أدوار سرية أدتها بي بي سي في الحرب العالمية الثانية

وبحسب المجلة النرويجية غوسيمار، نجا 266 فقط من أصل 504 من السجناء نرويجيين في المعسكر. ويعزى ارتفاع معدل الوفيات إلى وحشية الحراس وسوء التغذية والمرض. وبصفته لاعب كرة قدم سابقًا، كان هالفورسن معروفًا جيدًا من قبل بعض الحراس ويقال إنه تلقى معاملة جيدة سعى إلى جعل زملائه السجناء الآخرين يستفيدون منها.

وفي سبتمبر/أيلول من عام 1944، نُقِل هالفورسن إلى نيكاريلز، إلى الجنوب من فرانكفورت، حيث تم تحويل مبنى المدرسة السابق إلى معسكر آخر.

وفي يناير/كانون الثاني من عام 1945، نُقِل مرة أخرى إلى مستشفى في معسكر بالقرب من فينغن، إلى الجنوب قليلاً.

وكتب السجين كريستيان أوتوسين في مذكراته: “كان من المفارقات وصف ذلك المكان بالمستشفى، كان قذرًا ومليئا بالقمل”.

ويصف أوتوسين أيضًا كيف أصبح هالفورسن ممثلًا غير رسمي للسجناء الآخرين وتقدم بنجاح للحصول على مزيد من الطعام، وتصف روايات معاصرة أخرى كيف تعرض هالفورسن للتعذيب بعد رفضه ضرب سجين آخر عندما أمره الحراس بذلك.

وفي أبريل/نيسان من عام 1945، أُرسِل هالفورسن مرة أخرى إلى معسكر آخر وهو نوينغامي في ضواحي هامبورغ حيث كان ذات يوم نجماً. وقبل بضعة أشهر فقط، كان زميله القديم هاردر هو الضابط المسؤول في ذلك المعسكر.

كان هالفورسن يقاوم الجوع والمرض، وكان يعاني من مرض التيفوس الوبائي وهو مرض ينتشر عن طريق القمل. كانت الظروف في نوينغامي بائسة – إن لم تكن أسوأ – من تلك التي كان هالفورسن محتجزًا فيها سابقًا.

“حتى بالمقارنة مع الوضع في المعسكرات الأخرى، كان الأمر مؤلمًا هناك”، وذلك بحسب المفوضية العليا للحلفاء لاحقًا حيث سعت إلى محاكمة المسؤولين عن ذلك المعسكر بعد هزيمة ألمانيا النازية.

لقد مات في ذلك المعسكر نحو 43 ألف شخص، كثيرون منهم بسبب الإرهاق حيث تعرضوا لأشغال شاقة وحصص غذائية هزيلة. كما كان موقعا لتجارب طبية مميتة على السجناء، بمن فيهم الأطفال.

حُكم على هاردر بالسجن 15 عامًا لارتكاب جرائم حرب أثناء إدارته للمعسكر حيث أمضى 4 سنوات فقط خلف القضبان قبل أن يموت عن عمر يناهز 63 عامًا في مارس/آذار من عام 1956.

ومن غير المؤكد ما إذا كان طريقه وطريق هالفورسن قد تقاطعا مرة أخرى بعد الحرب.

أنقذ الصليب الأحمر هالفورسن في أبريل/ نيسان من عام 1945، ولكن في البداية كان هزيلًا وضعيفًا للغاية بحيث لا يمكن نقله في إحدى حافلات منظمة الإغاثة.

في مقابلة مع صحيفة أفتنسبوتن في وقت لاحق من ذلك العام، قال: “الجوع هو أقسى شيء، ألم المعدة يكاد لا يطاق وقمنا بأكثر الأشياء التي لا تصدق لتخدير ذلك الألم”.

يقف تمثال "لو ديبورتي" لفرانسواز سالمون كنصب تذكاري للأرواح التي فقدت في معسكر اعتقال نوينغامي

Getty Images
يقف تمثال “لو ديبورتي” لفرانسواز سالمون كنصب تذكاري للأرواح التي فقدت في معسكر اعتقال نوينغامي

بعد الحرب، عاد هالفورسن إلى الرياضة كأمين عام لاتحاد كرة القدم النرويجي حيث وضع نظاما جديدا للدوري هناك.

وعندما لعبت النرويج في ألمانيا خلال التصفيات المؤهلة لكأس العالم 1954، سافر هالفورسن مع الفريق. ومرة أخرى، أخذه القدر إلى هامبورغ.

حكاية فتيات خاطرن بحياتهن لتذوق طعام هتلر

هربت من النازيين وهي طفلة لتصبح من أصحاب الملايين

وأفادت مجلة كيكر الرياضية الألمانية عن لقاء بين هالفورسن ومدرب ألمانيا الغربية سيب هيربيرغر وجورج إكساندري من الاتحاد الألماني لكرة القدم، حيث تصافح الثلاثة، وخلص الصحفيون إلى أن “كل ما حدث تم نسيانه”.

ومنذ ذلك الحين، قال عالم السياسة الألماني آرثر هاينريش إن الجمهور الألماني يريد بشدة وضع حد للمناقشات حول الرعب النازي.

ويقول المدرس السابق كوالوسكي: “لا ينبغي أن نخلط بين التسامح والنسيان، فبعد الحرب بوقت قصير، أصبح هالفورسن رجلًا صامتا فيما يتعلق بما حدث، لكنه انخرط في مساعدة الرياضيين الألمان على المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في أوسلو عام 1952، وهي المشاركة التي عارضها الكثير من مواطنيه، وقال إن الرياضيين ليسوا مسؤولين ولا ينبغي معاقبتهم، ربما شعر هالفورسن أيضًا بارتباط بالبلد الذي عاش فيه لمدة 12 عامًا”.

في الواقع ، سيتم تَذكُر هالفورسن باستمرار بالتعذيب وسوء المعاملة التي عانى منها. توفي في يونيو/حزيران من عام 1955 ، بينما كان في رحلة عمل للاتحاد النرويجي بعد أن ضعفت صحته كثيرا بسبب التيفوس الذي أصابه خلال فترة وجوده في معسكرات الاعتقال.

وقال ينغفار ستين، مؤرخ قديم في ساربسبورغ ، أول نادٍ لهالفورسن:”لقد كان الوقت الذي قضاه في المعسكرات هو الذي دمر صحته وأدى إلى وفاته، وعندما ألقيت خطابًا عنه في احتفالات عيد الميلاد المئة لنادينا شعرت أن عددا قليلا فقط من الأعضاء يعرفون اسمه، آمل أن يتغير ذلك، لأنه يستحق امتنانا وتقديرا كبييرين”.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
مواضيع تهمك

Comments are closed.