زهرة قرمزية جبارة

الزهرة المجففة ترمز للقوة و القتال

BBC

الزهرة المجففة ترمز للقوة و القتال

غالباً ما أجد علاقتي بموضوع الأمومة مشوبة بالارتباك، قد لا يبدأ ذلك من فكرة الأمومة بحد ذاتها ومتاهاتها النفسية والجسدية والاجتماعية، خاصة بالنسبة للنساء اللاتي يحملن إرثاً ثقافياً شرقياً، بل فكرة الحمل بحد ذاتها أجدها مربكة ومخيفة، وأحياناً أجدها فاتنة. وفي كثير من الأوقات لا أعرف كيف أجدها.

مجرد وجود كائن صغير داخلك, قلبه ينبض بإيقاع مختلف عن إيقاع قلبك، يتنفس، ويتغذى، ويتحرك، ويركل، يعطيني شعوراً غريباً في رأس معدتي. أستغرب عندما تتحدث صديقاتي الحوامل عن أجسادهن بشكل حيادي كما نفعل نحن، غير الحوامل.

تتقافز الأسئلة أمام وجهي ككرات ملونة بينما نخوض حديثاً عابراً. وأشعر برغبة في المقاطعة: لكن كيف تشعرين أثناء النوم؟ وماذا يحدث بالضبط عندما تأكلين؟ كيف أصلاً تشعرين بالجوع وبطنك متكور هكذا؟ هل تشعرين أنك ثقيلة؟ كيف يبدو إحساس حمل إنسان آخر داخلك؟ هل تشعرين أنك شخصان؟

طبعاً لا أسأل ولا سؤال. وما من أحد ربما يستطيع أن يعرف على وجه الدقة كيف تشعر المرأة نفسها إلا من عاشت ذات التجربة. إنه بالفعل سر من أسرار العبور الى عالم الأمومة العميق و المضطرب، والذي يشعر نساء كثيرات باكتمالهن، بخصوصيتهن، وبالأمان.

“هناك سببان فقط كي تنظر إمرأة بعينين وقادتين إلى طفل إمرأة أخرى .. إما أنها تريد أن تعود طفلة مجدداً أو أنها تريد أن تصبح أمّاً”

استوقفتني هذه الجملة وانا أقرأ كتاب “حليب أسود” للكاتبة التركية اليف شافاق، والذي تتحدث فيه عن علاقتها بالأمومة والكتابة والانقسامات النفسية التي واجهتها قبيل اتخاذ قرارها بالزواج وإنجاب طفلتها الأولى. أتقاطع معها في بعض من المسارات والحوارات التي خاضتها مع نفسها المنقسمة الى أربع جنيات صغيرات، عكست كلاً منهن وجهاً للجوانب المتناقضة والمتحاربة في شخصية الكاتبة.

فكرت، داخل كلًّ منا جنيات صغيرة متقاتلة ومشاكسة، لكن مانحن عليه في لحظة ما يعلن من منهن انتصرت على الأخرى.

الجنية الجبارة

وصلت خريف العام الماضي الى اسطنبول للقاء صبية بعمري تقريبا، اسمها ايدا. رافقتها في حكايتها لطريق الأمومة أثناء تصوير حلقة خاصة عن تقنيات الإخصاب.

التقينا للمرة الأولى وهي ترتقي السلم الى مدخل عيادة طبيبها حيث كنت أنتظرها، كانت منطلقة ومرحة تلبس فستانا طويلا أسود و خفين رياضيين، بشرتها سمراء صافية، شعرها كستنائي طويل و بطنها متكور وكبير. بدت مفعمة بالحياة و هي تحدثني عن طفلتها المنتظرة و ضيق الوقت لإنجاز كل التحضيرات قبل وصولها الوشيك. لم تنسى أن تحضر ألواح الشوكولا التركية الفاخرة، كل شيء بدا احتفالياً. بدأنا بالمقابلة.

“ست دورات علاج أطفال الأنابيب أجهضت خلالها مرتين، إحداهما كانت في شهري الخامس” حدثتني ايدا عن رحلة الألم الجسدي و النفسي التي مرت بها كل مرة كانت تحقن نفسها بإبر الهرمونات بينما ترى صديقاتها حوامل بشكل طبيعي ودون أية متاعب. وبكت أكثر من مرة. اقتراب موعد لقاء طفلتها لم يرفع ثقل الذكريات الصعبة.

فكرت حينها، ما الذي يجعل أي امرأة مستعدة لخوض رحلة كهذه لتصبح أماً؟ إنها ليست رحلة مواجهة مع المرض أو البقاء على قيد الحياة. إنها رحلة التمسك بخيارك لتصيري أمّاً.

ربما هذا هو الوقت الذي تنتفض فيها جنيتنا الجبارة. الجنية التي لم تذكرها الكاتبة في حواراتها الطويلة و الشيقة مع شخصياتها الأربع. انها الجنية التي لا نعرف بوجودها إلا عندما نوشك على الغرق الحقيقي.

في طريق السفر لمحطتي التالية في اسطنبول كنت أتأمل في يدي هدية رمزية أعطتني اياها ايدا عندما ودعتها. بطاقة صغيرة بيضاء كتبت عليها اسم طفلتها القادمة، و ثبتت فيها علاقة مفاتيح مصنوعة يدوياً وبجانبها زهرة قرمزية مجففة، قالت أنها ترمز للقوة و القتال.

عملية دقيقة قد تكون بداية حياة جديدةBBC

عملية دقيقة قد تكون بداية حياة جديدة

بداية التكوين

محطتي الثانية كانت أحد مخابر الإخصاب في مستشفى شهير بتركيا، أردت أن أصور كامل عملية الحقن المجهري بتفاصيلها.

بمجرد أن أنهينا استعداداتنا للتصوير دخلت مسؤولة المخبر وفي يدها شريحة زجاجية بها بويضات تم سحبها من جسم سيدة تخضع لعلاج أطفال الأنابيب. باتت البويضات جاهزة للتلقيح.

لم تكن المرة الأولى التي أتواجد بها في مختبر طبي، لكنها المرة الأولى التي أحبس بها أنفاسي مع كل حركة يقوم بها الأخصائيون أثناء عملية الحقن المجهري.

الطبيب المخبري يمسك بالأدوات بخفة وسلاسة وكأنه يعزف أوتار آلة موسيقية. يخترق جدار البويضة الهشة بإبرة دقيقة وحادة، يقطع ذيل الحيوان المنوي المسكين ويقذف به داخل البويضة، في المركز تماما. نسيت لوهلة أنني موجودة هنا لطرح الأسئلة، كل ما فكرت به حقيقة أنني لا أريد تشتيت ذهن الطبيب فيرتكب خطأ وأحيا مع الاحساس بالذنب لفقدان هذين الزوجين فرصتهما المنتظرة. تابعته بصمت وحالة من الخشوع وأنا أراقب بداية حياة ذلك الشيء الذي سيصبح جنينا.

هل شهدت للتو بداية تكوين إنسان صغير؟

خفق قلبي لمجرد التفكير أنه من المحتمل أن يحتفل هذا الكائن المخبري الصغير بعيد ميلاده بعد سنوات من اليوم، وأن السيدة في الغرفة المجاورة التي ربما تتحسس اليوم كدمات الحقن الكثيرة في بطنها ستحضّر هدية طفلها المرتقب بعد أشهر بعناية أم. وكتلك السيدة هناك الكثير من النساء اللاتي يبحثن داخلهن عن مكامن القوة لاكتشاف ذلك السر العظيم للعبور، والذي بات ممكناً لكثر منهن بفضل تقدم الطب و التقنيات، وبفضل الجنية الجبارة الكامنة داخلهن.

رافقوني مع تلك النساء القويات ورحلتهن خلال علاج الإخصاب في حلقة فورتك السبت الساعة الخامسة والنصف بتوقيت غرينتش على شاشة بي بي سي عربي.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
مواضيع تهمك

Comments are closed.