«الجميلة والأبطال».. مشهديةٌ مضيئة في «الوقت المستقطع» اللبناني

منصّتا تتويجٍ، رياضية وجَمالية، بدت أضواؤهما أقوى من كل العتمة التي حوّلت «بلاد الأرز» بؤرة أزماتٍ تفشّت في جسم وطنٍ صغيرٍ، أثْقَلَتْه وجعلتْه منصةً في صراعاتٍ إقليمية يكاد معها أن يندثر لبنان… الذي كان.

من إندونيسيا إلى بيروت، عُرسان وقف فيهما لبنان على منصة الفائزين بميدالياتٍ وتاجٍ، في بطولة آسيا لكرة السلة حيث خاض منتخب الأرز النهائي للمرة الرابعة في تاريخه ضد ثالث التصنيف العالمي أستراليا، وخسر بفارق نقطتين ليحل ثانياً، وفي مسابقة انتخاب ملكة جمال لبنان التي عادت بعد احتجابٍ قسري لنحو 4 أعوام.

وجاء هذان الحدَثان ومجرياتهما مدجَّجيْن بكل معاني الأمل الذي أطل شعاعه من جاكرتا على امتداد بطولة آسيا التي حقق فيها لبنان انتصاراتٍ تاريخية على نيوزيلندا والصين ثم الأردن في طريقه الى النهائي أمس، ومن «الفوروم دو بيروت» حيث كان الجمال قطرةَ ضوءٍ بوجه القبح الذي يلفّ مختلف أوجه الحياة في بلدٍ بدا وكأنه يرفع يديه من قلب جهنّم التي رُمي فيها، ليس استسلاماً بل إعلاناً بأن «هذه ليست النهاية».

وإذا كانت كرة السلة لطالما شكّلت، خصوصاً في النصف الثاني من التسعينات والأول من الألفين، ملعباً خلفياً لـ «انتفاضة سبّاقة» بقالب رياضي في زمن الوصاية السورية وأبقتْ شعلةَ «الروح اللبنانية» مضاءة بوجه القهر الوطني، فإن منتخب الأرز بإنجازاته في بطولة آسيا كان يعيد صناعة «المعجزة اللبنانية» بعكس كل الظروف القاهرة التي حوّلت الوطن – اللؤلؤة حُطاماً تحت أنقاض الانهيار الكبير، ويرمّم بكل انتصارٍ أجزاء من أحلام تكسّرت لشعبٍ تَحلَّق خلف 12 لاعباً ومدرّبهم بدوا أملهم الوحيد بالتحليق مجدداً كـ «الفينيق» الذي كاد أن يملّ… الرماد.

وحتى العرس «السلّوي» الذي عمّ لبنان، في البيوتات التي نسيت أوجاعها وبؤسها كما المطاعم والمقاهي التي كانت «تنفجر» فرحاً مع كل سلّة و«ينقطع النفَس» فيها مع كل نقطة مهدورة، لم يسْلَم من «العبث بمسرح الإنجاز» حيث كان وزراء يناشدون وزير الطاقة توفير الكهرباء عند الرابعة عصراً ليتسنى للبنانيين متابعة النهائي أمام استراليا و«تحريرهم» من مزاجية مولدات الأحياء والأكلاف الباهظة لباقات الانترنت التي جعلت النسبة الأكبر منهم «خارج العالم».

أما مَن كان قادراً على تَحَمُّل هذا «الترف»، فراح يتحرّى عن رابطٍ الكتروني لـ «النفاذ» إلى المباراةِ التي أسدلت معها الستارة على بطولة أهدى المنتخب نتائجها تباعاً إلى الشعب اللبناني وحده، وليس سياسييه الذين بدوا «صائدي فرص» للتعويض عن فشلهم وتَسابقوا على المفاخرة بما حقّقه «الفريق الذهبي».

وفي موازاة مشهدية «الجميلة والأبطال»، كان المشهد السياسي مشدوداً إلى المقر الصيفي للبطريركية المارونية في الديمان (شمال لبنان) حيث اكتملت الأبعاد العميقة التي أعطتْها الكنيسة بلسان البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي لتوقيف رئيس أساقفة أبرشيّة حيفا المارونيّة والنائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينيّة وعمّان وأراضي المملكة الأردنيّة الهاشميّة المطران موسى الحاج الاثنين الماضي لنحو 13 ساعة على معبر الناقورة الحدودي مع إسرائيل عقب عودته من «الأراضي المقدّسة» والتحقيق معه ومصادرة جواز سفره وهاتفه ومساعدات مالية وطبية من متبرّعين لبنانيين وفلسطينيين.

وفي حين كان الراعي يصف توقيف الحاج بأنه «اعتداء سياسي من الطبقة الحاكمة والمُهَيْمِنة وتصرفات بوليسية» و«إساءة للبطريركيّة المارونيّة، وتعدٍّ على صلاحيّاتها ونحن نرفض هذه التصرقات البوليسيّة (…)»، متوجّهاً إلى «المسيئين إلى كرامة اللبنانيّين» بـ «كفّوا عن قولكم إنّ المساعدات تأتي من العملاء، واذهبوا وابحثوا في مكان آخر عن العملاء، وأنتم تعلمون أين هم، ومن هم» ومطالباً بإعادة كل ما صودر من المطران، فإن هذا الموقف عكَس بوضوح أن الكنيسة لن تتراجع أمام حملات التخوين والاتهامات بالعمالة التي استعيدت على لسان قياديين في «حزب الله» خصوصاً بالتوازي مع استحضارٍ كثيف على مواقع التواصل الاجتماعي لملف اللبنانيين الذي فروا إلى إسرائيل بعد انسحابها العام 2000 وكانوا متعاملين معها، تحت عنوان «العملاء ليسوا لاجئين في اسرائيل» و«لا للتطبيع».

وفيما جاء تأكيد الراعي «صمود» البطريركية على مسيرتها «لإنقاذِ لبنان بالاستناد لمنطلقاتِ الحِيادِ الإيجابيّ الناشط واللامركزيّةِ الموسّعةِ وعقدِ مؤتمرٍ دُوَليٍّ خاصٍّ بلبنان لبتّ المسائل المسمّاة (خلافيّة) وتشديده «سنواصل الدعوةَ الحثيثةَ لتشكيلِ حكومةٍ جديدةٍ بأسرعِ ما يمكن، وانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجُمهوريّةِ في الـمُهلِ الدستوريّة»، كإشارةٍ تكرّس الاعتبارات السياسية المتعدّدة البُعد التي تعتبر الكنيسة أنها تقف وراء قرار توقيف الحاج، فإن حجم الالتفاف الشعبي والسياسي، ولا سيما المسيحي، حولها وفق ما عبّر عنه الحضور الحاشد أمس إلى الديمان يشي بأن بكركي استعادت الإمساكَ ببوصلة التوجهات الوطنية التي سيشكّل خروج أي فريق عنها إحراجاً له على تخوم الانتخابات الرئاسية، ناهيك عن أن الإمعان في تحدّي البطريركية من شأنه إقامة «عازل مسيحي» والتأسيس لجسر عابر للطوائف ارتسمت ملامحه تحت عنوان رفض العودة «لزمن الاحتلال» الذي اعتبرت الكنيسة أن التحقيق مع الحاج جاء تعبيراً عنه.

وكان البطريرك الراعي قال في عظة الأحد أمام وفود شعبية وسياسية طغى عليها نواب وممثلون لقوى وأحزاب «سيادية» معارضة لـ«حزب الله» وتقاطرت إلى الديمان بعد قرع أجراس الكنائس في القرى والبلدات المحيطة رفضاً لِما تتعرّض له البطريركيّة من حملات سياسيّة تشكّك بدورها الوطني: «نحن ككنيسة لن نتخلّى عن إنسانيّتنا وعن خدمة هذا الإنسان الذي بقربنا، مهما كلّف الأمر. لقد آن الأوان لتغييرِ هذا الواقعِ الطافحِ بالأحقاد والكيديّات، والمكتَظِّ بالسلوكيّاتِ المعيبةِ بحقِّ القائمين بها أوّلًا.

لا يُبنى لبنانُ ولا يَنمو ولا يتوحَّدُ بهذا النهجِ المنحَرِفِ عن قيمِ شعبِه ومجتمعِه وتاريخِه. ويا ليتَ الّذين يَقترفون هذه السلوكياتِ ويُفبرِكون الملفّات يتَّعظِون ممن سبقَهم، ومن تجاربِ الماضي القريبِ والبعيد، التي أظهرَت أن ما عدا الأمنِ والحريّةِ والمحبّةِ والكرامةِ لا يَنبُتُ في تُربةِ لبنان، وأن ما عدا الصالحين لا يدخلون تاريخَ لبنان الحضاريّ المشرّف».

وأضاف: «عبثًا تحاول الجماعةُ الحاكمةُ والمهيمنةُ تحويل المدبَّر الذي تعرّضّ له سيادةُ المطران موسى الحاج من اعتداءٍ سياسيٍّ والذي انتهك كرامة الكنيسة التي يمثّلها، إلى مجرّد مسألةٍ قانونيّةٍ هي من دون أساس لتغطيةِ الذَنبِ بالإضافة إلى تفسيرات واجتهادات لا تُقنع ولا تُجدي.

وإن كان هناك من قانون يمنع جلب المساعدات الإنسانيّة فليبرزوه لنا. ومن غير المقبول أن يخضع أسقف لتوقيف وتفتيش ومساءلة من دون الرجوع إلى مرجعيّته الكنسيّة القانونيّة، وهي البطريركيّة. وبهذا النقص المتعمّد إساءة للبطريركيّة المارونيّة، وتعدٍّ على صلاحيّاتها».

وتابع: «نحن نرفض هذه التصرفات البوليسيّة ذات الأبعاد السياسيّة التي لا يجهلها أحد، ونطالب بأن يُعاد إلى سيادة المطران موسى الحاج كلّ ما صودر منه: جواز سفره اللبنانيّ، وهاتفه المحمول، وجميع المساعدات، من مال وأدوية، كأمانات من لبنانيّين في فلسطين المحتلّة والأراضي المقدّسة إلى أهاليهم في لبنان من مختلف الطوائف.

هذا ما كان يفعله الأساقفة الموارنة أسلافه على مدى سنوات، وما يجب عليه هو أن يواصله في المستقبل. وأنتم أيّها المسيئون إلى كرامة اللبنانيّين كفّوا عن قولكم إنّ المساعدات تأتي من العملاء، واذهبوا بالاحرى وابحثوا في مكان آخر عن العملاء، وأنتم تعلمون أين هم، ومن هم».

وأكد أن «الدورَ الذي يقوم به راعي أبرشيّةِ الأراضي المقدسّةِ عموماً ليس دينيًّا وإنسانيًّا فحسب، بل هو دورٌ وطنٌّي أيضاً، إذ يحافظُ على الوجودِ المسيحيِّ والفِلسطينيِّ والعربيِّ في قلبِ دولةِ إسرائيل، ويَستحِقُّ الإشادةَ به ودعمَه لا التعرّضَ لكرامته ورسالته المشرّفة.

إنَّ الوجودَ المارونيَّ في فِلسطين يعود إلى الأزمنةِ الأولى لبروزِ جماعةِ مارون.

ولَعِب الموارنةُ هناك دورًا أساسيّاً في تعزيزِ الهُويّةِ الوطنيّة، وكانوا رسلَ خيرٍ بين جميعِ الأديان، وظلَّ اسمُهم بَهيًّا ورفيعًا ومحطَّ تقديرٍ من إخوانِهم في الطوائف الأخرى».

وختم: «(…) يَكفي اللبنانيّين عذابات.

فما تَعذّب شعبُ لبنان وذُلَّ مثلما يَتعذّبُ ويُذَلُّ في هذه السنوات.

لذلك، سنواصل الدعوةَ الحثيثةَ إلى تشكيلِ حكومةٍ جديدةٍ بأسرعِ ما يمكن، وانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجُمهوريّةِ في الـمُهلِ الدستوريّة. إنَّ لبنانَ يَستحقُّ حكومةً جديدةً ورئيسًا جديداً».

وبعد انتهاء القداس، أكد البطريرك الماروني أمام الحشود الشعبيية أن «توقيف المطران الحاج إهانة للكنيسة المارونية لأن القوانين تقتضي بعدم محاكمة أسقف أو كاهن من دون استئذان البطريرك».

واعتبر أن «ما حصل مع المطران الحاج هو ليس إهانة فحسب بل اعتداءٌ واهانة للبطريركية المارونية ولي شخصياً»، وقال: «ممنوعٌ إيقاف المطران الحاج ومساءلته عند الحدود اللبنانية والنواب الذين حضروا اليوم إلى الديمان سيكونون صوتنا دائماً في البرلمان».

وشدد على «أننا بحاجة الى أصوات لبنانية عريقة وحين يكون الصوت لبنانياً صرفا في المجلس النيابي يكون ذلك لخير كل اللبنانيين».

ومن الديمان، قال النائب جورج عقيص (من كتلة القوات اللبنانية): «نرى من جديد نظاماً بوليسياً امنياً لبنانياً – إيرانياً هذه المرة، يطل علينا قبل انتخابات دقيقة جدا كمحاولة للضغط على القوى السيادية في لبنان لإخضاعها كما تم عام 2004 وغالبية الشعب اللبناني لن ترضى إلا برئيس سيادي.

لسنا بوارد التصعيد انما نحن بموقع رد الفعل على تجاوزات كبيرة جدا يرتكبها هذا النظام المتمثل برئيس الجمهورية وحزب الله والمحكمة العسكرية.

نحن ننتظر 40 سنة بعد لقيام لبنان ودولة المؤسسات، ولكن للصبر حدود».

بدوره، أكد متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة: «نحن مع محاسبة ومعاقبة كلّ مجرم وسارق ومخالف للقانون كائناً مَن كان، لكن ما جرى مع المطران موسى الحاج غير مقبول ويُنذر بوجود نهج جديد في التعامل الأمنيّ والقضائيّ يؤدّي إلى تداعيات خطيرة على مستوى الوطن، وهذا أمر خطير ومرفوض ونأمل عدم تكراره».

وقال في عظة الأحد: «إذا كان توقيف المطران الحاج رسالة إلى الكنيسة مِن أجل إسكات صوتها، فإنّها لا تخضع للترهيب والكيديّة ولا تخاف إلّا ربّها ولا تُنفّذ إلّا تعاليمه ولا تسمع إلّا صوت الضمير والواجب، وواجبُها احترام الإنسان ومحبّته والحفاظ على كرامته والدفاع عن حريّته».

الراي – من وسام أبو حرفوش وليندا عازار

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
مواضيع تهمك

Comments are closed.