مئوية الفن اللبناني.. 100 عام على ميلاد عاصي الرحباني


يحتفل لبنان والوطن العربى أجمع، فى 4 مايو القادم، بمرور مائة عام على ميلاد الموسيقار الكبير ومؤسس وعميد عائلة الرحبانية وملهمها الأول عاصى الرحبانى.

وربما يكون الاحتفال بمئوية ميلاد عاصى هى فى حد ذاتها مئوية للفن اللبنانى، لأسباب كثيرة أهمها، أن هذا الفنان استطاع أن يضع الموسيقى العربية على اعتاب العالمية، باعتماده على التوزيع الموسيقى كعنصر أساسى فى موسيقانا الشرقية، كما يحسب له أنه أول من كوّن أوركسترا ضخما لمصاحبة الأعمال الغنائية سواء كانت تصاحب صوتا مثل فيروز، أو عملا غنائيا مسرحيا أو أوبريتات، عاصى الرحبانى غيّر وجهة نظر الموسيقيين العرب نحو موسيقاهم، هو من لفت الانظار إلى أن الثراء الموسيقى العربى لا يستحق أن يتوقف عند اللحن الموضوع من الملحن فقط، بل يستحق أن يوضع فى إطار من الخطوط الموسيقية المتعددة بواسطة الموزع الموسيقى.

نعم هو نقلنا من مرحلة الاستغراق فى فردية اللحن إلى براح أكبر وأوسع من كونه جملة موسيقية يرددها المطرب ومن خلفه الفرقة، أدخل خطوطا لحنية، كشأن الموسيقى الكلاسيكية حيث تجد أن كل عائلة من الآلات الموسيقية وقد كتب لها خطا موسيقيا خاصا بها، مستفيدا من ثقافته الغربية الموسيقية، واستطاع أن يطوع بعض من جملها الموسيقية داخل الاطار اللحنى العربى.

عاصى الرحبانى هو أول من وضع لبنان على الخريطة الموسيقية العربية، نعم قبله كانت هناك محاولات وتجارب لا تنكر، لكنه استطاع ان يكون رمز الموسيقى اللبنانية الأول، والجميل فيه أنه عندما كون الرحبانية لم تكن تعرف من الذى يكتب أو يلحن أو يوزع، دابت داخل كلمة الرحبانية كل الفوارق، وانتصرت لمة العائلة. كان يمكنه ان ينسب كل شىء لنفسه عدا الغناء ونجمته الاولى فيروز، لكنه رفض. برحيله نشبت بعض المعارك داخل اسرة الرحبانية، خاصة بين ابناء الشقيق منصور وبين ابناء عاصى، ودخلت على الخط السيدة فيروز، وللآن مازالت الشروخ موجودة داخل جدران الاسرة. هناك جملة قالها عاصى لشقيقه منصور تبرز شخصيته: «الإنسان يبدع من العشرين إلى الخامسة والعشرين، ويقضى كل عمره فى شرح أفكاره وتعميقها ». تلك خلاصة تجاربه مع الحياة الفنية.

نذهب إلى السيرة الذاتية إلى هذا الفنان الكبير، وُلدَ عاصِى فى 4 مايو عام 1923 فى قرية أنطلياس شمال بيروت، لأبوين هما: حنا الياس الرحبانى وسعدى صعب.

وأَمضى عاصى قسطا هاما من طفولته فى مقهى الفوار ثم المنيبيع فى الجبل الَذى كان يملكه والده، وبالتأكيد كان هناك تأثير فى شخصيته من جراء تواجده شبه الدائم مع والده، وحفظ عاصِى عن جدته التى عاشت معهم قصصا وأشعارا مِن الموروث اللُبنانى الشعبى القديم.

تتلمذ على يد الأَب بولس لمدة ست سنوات تعلم خلالها مبادئ النَظريات الموسيقية والألحان الشَرقِية والكنسيّة، ثمَ تابع تعلم التألِيف الموسيقى الغربى وعلومه على يد الأُستاذ برتران روبيار.

اضطر عاصى بعد رحيل والده للالتحاق بوظيفة فى البلدية نهارا والعمل كعازف كمان ليلا، ولحقه أخوه منصور فعمل فى الشرطة القضائية. وفى نهاية الأربعينيات، دخل عاصى الإذاعة ليعمل بصفته عازفا وملحّنا، وكانت شقيقته الكبرى سلوى، والتى عرفت باسم المطربة نجوى، تؤدى أولى الأعمال الغنائية مثل: يا ساحر العينين، يولا، وسمراء مها.. والتى أُعيد تسجيلها بصوت فيروز فانتشرت بشكل أكبر.

تفرّغ عاصى فيما بعد إلى فنه، ولحقه فى تقديم الاستقالة من الشرطة القضائية أخوه منصور سنة 1953، وحينها بدأ اسم الاخوين رحبانى بالظهور فى برامج الإذاعة ولفت الأنظار.

آلته الموسيقية الأولى كانت الكمان ثم البيانو، تلاهما البزق الذى كان هو المحطة الأولى لألحان عاصى، التى تنتقل فيما بعد من أوتار البزق وأنامل عاصى، إلى أوتار صوت فيروز وروحها المتماهية مع كل لحظات ومراحل الخلق الجمالى الخاصة.

كانت بداياته الفنية ضمن النطاق المحلى لقريته، أنطلياس، تارة على شكل منشورات أو مجلة الحرشاية التى كانت تحتوى شعرا وقصصا يكتبها عاصى وحده ثم يوقعها بمجموعة من الأسماء الوهمية، وتارة على شكل تمثيليات غير تقليدية وجريئة فى مجتمع لا يزال بكرا مثل (عذارى الغدير، عرس فى ضوء القمر، تاجر حرب) ، بدأت العروض فى القرية، ثم مسرح الوست هول، الجامعة الأمريكية فى بيروت، وفى الجونيور كولدج آنذاك التى أصبحت جامعة بيروت.

عن تشكيله الفنى والامور التى أثرت فى شخصيته قال فى احد الحوارات: «طبيعة لبنان هى اللى بتغذينا بكل ما نكتب ونلحن، احنا نحب كل شىء بلبنان، نحب التلال الصخرية، نحب الشجر، نحب الأرض والفلاح اللى بيزرع، نحب الشتا والعاصفة ونحب الرّياح…كل شى بلبنان نحبّه وغنّيناه ووصفناه،» شوفى هالتلال قدامنا.. هيدى بيطلع من وراها القمر وبيبقى قريب كتير علينا.. وهيك، نحنا والقمر جيران».

تأثر عاصى بالمفردات اللبنانية الريفية وقصص التراث وألحانه وعادات ناسه، وحولها إلى موسيقى عالميّة، لم يسلخها عن جذورها ولكنه أيضا يستسلم لفلكها المحلى، وكان لريادته فى هذا المجال دور فى بناء الشخصية الغنائية اللبنانية.

كما أنه لم ينس استاذه الأول الأب الأنطونى قائلا عنه: « لقد آمن بعبقرية وحرفة اللغة العربية فى التلحين؛ يمتد اللحن مع الأحرف الطويلة، ويقف مع الأحرف القصيرة، ويختلس مواقع النبرات، وانعكس ذلك على توصيل المعنى الشعرى واللحنى بكل سلاسة ووضوح دون الابتعاد عن الجوهر الجمالى، ودون الانقياد للأداء الخالى من الاحساس، ولكن بينهما بمهنية وصدق وإخلاص وبلا تكلّف..

واختصر عاصى تجربته بمقولة «النغمة أخت الكلمة، هيدى هيّى حقيقة الغنيّة». ومن حيث الكلمات فقد تمتَّعت الأغانى والقصائد التى كتبها عاصى بشخصيّةٍ تميّزت بالبساطة فى شكلها وفكرتها، والأعماق الوجدانية فى معانيها ودلالاتها، والأناقة فى أسلوب التعبير اللفظى، كما أنها تميزت بتكريس رومانسية المكان وتشخيصه ومخاطبته وأحيانا استنطاقه، أى إن للمكان دورا كبيرا فى خلق الصورة الغنائية والتعبير عنها موسيقيا. ويظهر ذلك فى القصائد التى لحنها عاصى لشعراء آخرين معاصرين، أو الموشحات التى اختيرت من الشعر العربى القديم، وبالمناسبة هو من اوائل من لفت الانظار إلى الشعر العربى القديم، من اختيار اشعار تدور فى فلك الطقوس الجمالية البسيطة. لقد آمن بأن هناك فرقا بسيطا بين الأغنية البسيطة والسخيفة، ولم يحدث أن غاب هذا التوازن يوما ما فى عملٍ من أعماله، فحتّى فى بعض المشاهد المسرحية أو التمثيلية التى تستوجب أن يكون الكلام فيها يعبّر عن فكرة عادية، كان اللحن يعطى بُعدا جماليا، يجبر المتلقى على إعادة ترديد الكلمات.

تأثر عاصى بمعلّمه الأب بولس الأنطونى المتعلقة بالتوزيع الموسيقى والغناء المتعدد الأصوات، فابتكر عاصى أسلوبه الخاص فى التوزيع الموسيقى وهو تحديد أدوار الآلات الموسيقية فى تأدية اللحن، كما عمل على تطويره ليتناسب مع الوعى السمعى للجمهور الذى لم يكن يعرف آنذاك سوى الشكل التقليدى للغناء المحصور بألحان الصوت الواحد (المونوفونية). واستطاع عاصى بعد محاولات ومواجهات ضارية ضد التيار المنحاز للغناء القديم، أن يخرج بالاغنية المحلية والعربية إلى مساحاتٍ صوتية جديدة ظهرت فيها توزيعاته الموسيقية الحديثة (الآلية والغنائية) إلى جانب اللهجة المحلية واللغة العربية الفصحى، إلى جانب الألحان والقوالب الموسيقية الشرقية التقليدية.

كان عاصى يؤمن بأن الآلات الموسيقية تتمتع بإمكانيات أدائية لا نهائية مثل الحرف والكلمة، فلم تقتصر النقلة النوعية التى أحدثها فى مجال الصوت الموسيقى على إدخال عناصر جديدة إلى اللحن والتوزيع وحسب، بل شملت أيضا تطوير تقنيات الأداء، على سبيل المثال، تميزت الجمل اللحنية التى تؤديها الكمنجات فى ألحان عاصى بالتجانس، الذى يظهر فيه طابع الأداء الجماعى للآلات الوترية بانسجامٍ وصوتٍ موحد، وليس طابع العزف المنفرد لكل عازف فى المجموعة، ومرد ذلك لاهتمام عاصى بحركة الأقواس للآلات الوترية صعودا وهبوطا كما فى الأوركسترا السيمفونى، وهو الامر الذى لم يكن سائدا فى الفرق الموسيقية العربية التى لا يتقيّد فيها عازفو الآلات الوترية بحركة أقواس موحدة.

ايضا صوت الكورال عند عاصى له شخصية مستقلة، كأنه أداء فردى، واستمرّت رؤيته الخاصة حتى فى الكورال الذى رافق فيروز فى حفلاتها أو أداء التراتيل السنوية.

وفى عالم الدراما المسرحية كان عاصى يهتم بالانسان وتفاصيله مشاكله وهمومه، وكان يجيد التعبير بالموسيقى والغناء عن تلك الهموم.

• فيروز تدخل حياته

لقاء عاصى بفيروز لأول مرّة كان فى كواليس الإذاعة اللبنانية عام 1950، لقاء فنى بدأ بأول الأعمال التى ذاع صيتها، مثل «حبذا يا غروب» من شعر قبلان مكرزل، و«بلمح ظلال الحب بعيونو» من أسطوانات بيضافون، و«رد يا أسمر لمحاتك»، وغيرها من الأغنيات العاطفية تحولت إلى قصّة حبٍ حقيقية تكتب نفسَها مع الألحان والأشعار بين عاصى وفيروز الآنسة نهاد حداد، واستمر الحب والتعاون فى اعمال عتاب، وقّف يا أسمر، يابا لالا (والتى اشتهرت فى مصر قبل أن يعرف المصريون فيروز والأخوين رحبانى)، مين دلّك؟، غيرة، راجعة، وحياة عينو.

قصة الحب التى بدأت مع هذا الإبداع كانت ولابد ان تنتقل إلى مرحلة جديدة، الزواج بين عاصى وفيروز فى 23 ينايرعام 1955، ورزقا بزياد وهلى وليال وريما، وقضى العروسان شهر عسلهما فى القاهرة، ولكنه لم يكن شهر عسل تقليديا، فقد سجلا خلاله أعمالا فنية كثيرة هامّة فى إذاعة صوت العرب بالقاهرة، وبعضها كان جديدا مثل: اسكتش راجعون واسكتش غرباء (عن النكبة الفلسطينية)، احكيلى حكاية طويلة، بيتنا فى الجزيرة، يا دار بتلوح، اسكتش الرّبع الأخضر، توزيع لحن «زورونى كل سنة مرة» لسيد درويش.

لم يبتعد عاصى كثيرا فى أعماله المسرحية عن إطار الحياة فى الريف، إلا أنه تناول صراع الخير والشر فى القرية، وتدرج إلى المدينة واكتشاف الكذبة فى مسرحية «هالة والملك» التى لعبت فيروز فيها دور البطولة. وفى المسرح السياسى خاض عاصى معارك عن القانون والحكم والانتخابات والثورة، وشهد له بذلك الناقد الفرنسى كلود روستان حين قال: «لقد أصبح للشرق، وللمرّة الأولى فى تاريخه، أوبريت صالح للعرض على مسارح باريس وفيينّا وأمريكا.

ومن أبرز الوجوه التى شاركت فى هذه الأعمال إلى جانب نصرى شمس الدّين: جوزيف ناصيف، جوزيف عازار، إيلى شويرى، خليل ثابت، وليام حسوانى، غيتا داية، سميرة بعقلينى، إلهام الرحبانى، خانم جلايينى، سهام شمّاس، هدى حداد، محمد مرعى، نوال الكك، جورجيت صايغ، ملحم بركات، أنطوان محفوظ، وهم جميعا من نجوم الفرقة الشعبية اللبنانية، للغناء والرقص والتمثيل، التى تأسست عام 1960. أما الإخراج المسرحى كان لصبرى شريف حتى صيف عام 1972، ثم بعد ذلك تولى برج فازليان، باستثناء مسرحية بترا كانت من إخراج عاصى الرّحبانى.

أيضا ظهرت خلال الاسكتشات التى قدمها مجموعة من كبار الفنانين: فيلمون وهبى، نصرى شمس الدّين، واشترك فى بعضها وديع الصافى وسعاد هاشم.

الحرب اللبنانية فى أعماله

تناول عاصى الحرب اللبنانية فى بعض أعماله ابرزها المؤامرة مستمرة: قُدّمَتْ فى صالة السفراء (كازينو لبنان) 1980. بطولة جماعية: جوزف عازار، رونزا، يوسف شامل، فادية طنب.

الربيع السابع عن شخصيات وتأثرها أيضا بالحرب اللبنانية: قُدِّمَتْ على مسرح جورج الخامس، أدونيس، لبنان 1981. بطولة جماعية: ملحم بركات، رونزا، ميريام، فايق حميصى.

فى السينما تعاون مع اثنين من اكبر مخرجى العالم العربى حيث قدم ثلاثة افلام بطولة فيروز، قصة سيناريو وحوار وموسيقى الأخوين رحبانى: الاول بيّاع الخواتم 1965 إخراج يوسف شاهين: فيلم عن المسرحية مع تعديلات بالفقرات وتوزيع موسيقى عام ومستجدّ.

والثانى سفربرلك «المنفى» 1967 من إخراج هنرى بركات وخلال أحداث الفيلم قدم أغنية «زهرة المدائن».

الثالث هو بنت الحارس 1968 إخراج هنرى بركات: «بيدفعوا ثمن الخوفْ وما بيدفعوا ثمن السّعادة»: ظهر فيه عاصى دور رئيس البلدية.

• المرض والرحيل

فى 26 سبتمبر 1972 أصيب عاصى وبشكل مفاجئٍ بنزيف فى المخ، وقال الأطباء أن هذا النزيف نتيجة عوامل وراثية أو التدخين المفرط أو العمل دون راحة. بعد أقل من شهرين خرج من المستشفى يمشى بعد جراحة دقيقة.

وبعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على أزمته الصحيّة الخطيرة، وبحضور فيروز ومنصور وبعض الأصدقاء، أمسك عاصى بالبزق مقدما لحن لفيروز «ليالى الشمال الحزينة»، وبدا اللحن حزينا.
فى أوائل الثمانينيّات دخِل عاصى إلى المستشفى لمرات عديدة كانت آخرها فى عام 1986، حيث دخل فى حالة غيبوبة دامت ستة شهور. حيث رحل فى 21 يونية من نفس العام مرددا «الموت هو تاج الحياة».

• ماذا قال عنه الكبار؟

**فيروز: «عاصى كان ديكتاتوريا فى الفن دائما. هناك قرار يجب أن يأخذه أحد. وهذا الأحد كان دائما عاصى. دائما كان هناك الكلمة الأخيرة فى النص الغنائى والموسيقى والمسرحى والإخراجى. هذه الكلمة الأخيرة كانت له.

كان عاصى الحائط بالنسبة لأصحابه وأفراد عائلته، وهكذا كان يُسمى نفسه. الجميع استند إليه. والجميع احتمى به. والجميع استراح إليه. أعطى حبه للجميع. اسمه للجميع، وأكثر من يعرف ذلك هو منصور. ضحكت مع منصور أكثر مما ضحكت مع عاصى. كنا معا تحت سلطان ذلك الفنان العظيم الذى اسمه عاصى رحبانى.

عاصى فيه القليل من الأذى ومنصور فيه الكثير من الدهاء. منصور يتقن إخفاء ضعفه وعاصى يعلن ضعفه.

** منصر الرحبانى كان يرى شيئا مختلفا فى شقيقه: كنا نسميه «أبو زياد المنطقى». «لم يكن عاصى يؤمن أن الكاتب «ينزل عليه الوحى». النبوغ والتقنية هما الأساس فى نظره. ويكفى الكاتب الجو الهادئ ليكتب، وفى أى مكان. كان عاصى أحيانا يقفل مكتبه ثلاثة أو أربعة أيام ويكتب مسرحية كاملة. مسرحية تحتاج طبعا إلى تنقيح وتعديل. «لم يتأثر عاصى بأحد، غير أنه اختزن الفولكلور، والموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، والموسيقى الشرقية، والبيزنطية، والسريانية المارونية، والتواشيح. لكنه لم يكن ينبع إلا من ذاته، فأعطى الفن المميّز». وأيضا فى تناوله محور المسرح الرحبانى، قال منصور: «الإنسان هو الأهم فى المسرح الرحبانى عند عاصى. هذا الكائن البشرى، المقهور والمعذّب فى الوجود، كان كل همّه».

عاصى والكلام مازال لمنصور: كان انسانا متمردا، وفيه تكمن قيمته الإنسانية، كان يعى أن الإنسان مسحوق، منذ الأزل فثار على الوجود والأوضاع، برغم حزنه الدفين فى نفسه وهب الفرح والسعادة. كان عاصى متعلقا بفيروز وبعائلته، كان بيتوتيا.

**زياد الرحبانى قال: من الأمور التى تعلمتها فى تلك الفترة، هى إبراز الهوية الشرقية الوطنية للموسيقى فى تأليفاتى، والتأكيد على هويتى الثقافية أينما وجدت فى العالم. من خلال التركيز على المقامات الموسيقية الشرقية، الوالد كان صعبا ولا يتقبل أى تهاون فى الموسيقى، ولا يحبذ الخلط العشوائى بين الثقافتين الشرقية والغربية، ولكنه كان يعجب بالكثير من موسيقاى التى كنت قد بدأت أُكوِن شخصيتى الموسيقية من خلالها.

**ريما الرحبانى: «علاقتى ب بيّى كانت كتير خاصة انا الوحيدة اللى بقيت بالبيت. نحن عيلة الكل بيعرف إنّو تفرّقنا كتير واجتمعنا كتير، وانا الوحيدة اللى عشت معو كل المراحل رافقتو بكل اللى مرق فيه وكنّا كتير صحاب. كنت الصديقة اللى بيحكيلا وبيشكيلا كوننا بقينا فترة من الزمن انا وإيّاه لحالنا.

**ام كلثوم عندما غنت فى جلسة خاصة أغنية «عتاب»، التى غنتها فيروز من ألحان عاصى نظرت إلى الحاضرين وقالت: «إيه ده عاصى الرحبانى إنس أم جن؟… إيه الملحن العظيم ده».

• علاقة عبدالوهاب وعاصى

علاقة عبدالوهاب والاخوين رحبانى علاقة صلبة أشبه بالعلاقات العائلية حيث كانا يتبادلان الزيارات فى منازل بعضهما البعض.

وكان لعبدالوهاب رأى فى عاصى بقوله: الاخوان عاصى ومنصور كلاهما شاعر وفنان، لكن عاصى كان له لسعة، وبريق كلمة الاخوين ظلمت عاصى، فهو صاحب لمحات فنية تعادل جرأته اللحنية.

وفى كتاب «الأخوين رحبانى ــ طريق النحل» للشاعر اللبنانى هنرى زغيب استعرض الكاتب تعاون الرحبانية مع الموسيقار محمد عبدالوهاب.

ففى أحد فصول الكتاب يبدى «منصور الرحبانى» رأيا دقيقا عن تعاونهما مع عبدالوهاب، وعن قيمته الفنية فى الموسيقى العربية، حيث يقول: «كانت جلساتنا معه غنية بالمتعة والخبرة وكان ذا شخصية قوية، متأنقا جدا ومتألقا جدا وناضجا جدا وله تجارب عظيمة وهو الوحيد ذو الفضل الأكبر على الغناء والموسيقى فى الشرق»..

غير أن العلاقة بين محمد عبدالوهاب من جهة والأخوين رحبانى وفيروز من جهة ثانية، لم تبدأ فقط بعد الاشتهار الفنى للأخوين رحبانى وفيروز، حيث يروى الفنان منصور فى مذكراته انه عندما كان وشقيقه عاصى لا يزالان فى سن الطفولة كان والدهما حنا الرحبانى يمتلك مقهى فيه فونوغراف تدار عليه اسطوانات عبدالوهاب وأم كلثوم، ويقول منصور إن من أكثر ما كان يشده وشقيقه عاصى من أغنيات عبدالوهاب القديمة قصيدة « يا جارة الوادى» التى ظهرت فى عام 1927، وكانا يذهبان أحيانا إلى مقهى يبعد عن بيتهما نصف كيلو متر للاستماع إلى «يا جارة الوادى» ويذهبان أحيانا إلى منزل بعيد لأصدقائهما للاستماع إلى الراديو وهو يذيع أغنيات عبدالوهاب القديمة مثل «الجندول».

لذلك لم يكن غريبا أن يبدأ التعامل بين ألحان عبدالوهاب من جهة وبين الأخوين رحبانى وحنجرة فيروز من جهة ثانية، بقصيدة «يا جارة الوادى» التى أعاد الأخوان رحبانى توزيعها لأوركسترا أكبر من التخت الموسيقى الذى رافق عبدالوهاب فى التسجيل القديم بعد أن أضافا إلى ما غناه عبدالوهاب بيتا من القصيدة الطويلة، التى نظمها أمير الشعراء تغزلا بمدينة زحلة اللبنانية.

وقد تم التسجيل فى استديوهات الإذاعة اللبنانية مع اوركسترا الإذاعة ويبدو أن نجاح هذه التجربة أغرى كل الأطراف بإعادة الكرة، فاختار الرحبانية من أغنيات عبدالوهاب القديمة «خايف أقول اللى فى قلبى»، فأعادا توزيعها وأعادت فيروز غناءها بمرافقة الكورس.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.