سهام رزق الله: الاستقرار السياسي شرط أساسي لكنه غير كافٍ للاستقرار الاقتصادي
يئنّ لبنان تحت وطأة أزمة اقتصادية قد تكون الأسوأ في تاريخه، يزيدها قساوة انسداد سياسي وأزمات متتالية تدفع بالعملة الوطنية إلى مزيد من الانهيار والتضخم المفرط.
في هذا الإطار، التقت «الأنباء» الخبيرة الاقتصادية د.سهام رزق الله وهي أستاذة محاضرة في كلية العلوم الاقتصادية في جامعة القديس يوسف، وكانت دردشة حول الوضع المأزوم واحتمالات الحلول، بحيث طالبت رزق الله بمعالجة أساس الأزمة الاقتصادية التي يرزح تحتها لبنان منذ العام 2011، والتي انفجرت في أكتوبر 2019.
وكذلك اشارت إلى أن السعر الذي طرحته منصة «صيرفة» يشكل «محاولة تبني سعر السوق بلحظة زمنية معينة، إلا أن سوق القطع تخطاها وهو يتحرك بغضّ النظر عنها»، ورأت أن التوصل إلى سعر الصرف الفعلي، يحتاج أولا إلى قرار بالاستقرار السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي الشامل.
هل يريح رفع الدعم سوق النقد وسعر صرف الدولار رغم كونه مؤلما على المواطنين؟
٭ في الواقع تخطت المسألة اليوم تقييم السياسة المالية والنقدية التي تم اعتمادها في إطار ما سمي بـ«الدعم»، ذلك ان الأخير يكون من مالية الدولة إلى المواطنين، وليس مما تبقى من ودائع بعض المواطنين لشراء مواد غذائية ومحروقات وغيرها وفق سعر صرف لم يعد واقعيا، ويؤدي ذلك إلى الحصول على بضائع أصبحت تباع علنا في مختلف أسواق العالم بأسعار تتخطى تلك المعتمدة في الأسواق اللبنانية، من دون تحديد أي مسؤوليات عن التهريب العلني الذي يتم جراء ذلك. ان وقف عملية الشراء بأقل من صرف الدولار في السوق أصبح ضرورة، بفعل نفاد الاحتياطي بالدولار الأميركي الذي كان يستخدم لهذه الغاية من قبل مصرف لبنان بقرار من السلطات العامة.
أما الوقع على المواطنين فهو أيضا يحتاج إلى التمييز بين شرائح المواطنين، إذ إن ما كان يسمى بـ«الدعم» لم يكن يميز بين المواطنين ومردودهم وقدراتهم، وكذلك فإن رفع «الدعم» لا يميز بينهم. كما أن فرق العملة في أسعار البضائع في السوق أغلى لمن مدخوله بالعملة الوطنية وأرخص بالنسبة لمن مدخوله بالعملات الأجنبية. ما يريح الوضع النقدي وسوق القطع حاليا، يرتبط بمعالجة أساس الأزمة بالعودة إلى اندلاعها في 2011 تحديدا، لا قبل ولا بعد، وذلك مع انقلاب وضع ميزان المدفوعات رأسا على عقب وتدحرج كل المؤشرات الماكرو-اقتصادية معه، كما تثبت كل الأبحاث الاقتصادية العلمية.
السعر الجديد للدولار وفق منصة «صيرفة» البالغ 12 ألف ليرة، هل يكرس عتبة الحد الأدنى؟
٭ السعر الذي طرحته «صيرفة» هو محاولة تبني سعر السوق بلحظة زمنية معينة، إلا أن سوق القطع تخطاها وهو يتحرك بغض النظر عنها، على رغم أن السوق الموازية لا يفترض أن تمتلك هامش تأثير أقوى من المصرف المركزي والمصارف مجتمعة، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة. كل الاجراءات التي اعتمدت خلال الأزمة، سهلت نمو سوق موازية باتت تفرض سعرها على الجميع، حتى لو لم يكن السعر علميا ومترجما لواقع الاقتصاد العام الذي له أسسه في احتساب سعر الصرف الفعلي لكل اقتصاد. وبالتالي سعر 12 ألف ليرة لا يمكن اعتباره لا حدا أدنى ولا حدا أقصى، لأنه غير محسوب وفق الأسس العلمية الاقتصادية الصحيحة، بمعزل عن مختلف العناصر الأخرى غير الاقتصادية.
أما التوصل إلى سعر الصرف الفعلي، فيحتاج أولا إلى قرار بالاستقرار السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي الشامل، وهذه مسألة أكبر من أدوات نقدية تقنية تنفيذية. ومن بعدها يجب ان توضع قراءة شاملة للمؤشرات الاقتصادية الفعلية لمعرفة مستوى سعر الصرف وفق حاجة السوق من الدولار للتداول (وليس للتخزين والتهريب والمضاربة والضغط..)، ويتم التفاوض مع الدائنين بالعملات الأجنبية، وتوضع خطة عملية قابلة للتطبيق من خلال صندوق سيادي لمعرفة واردات الدولة وكيفية توجيهها نحو تحمل مسؤوليتها تجاه دائنيها، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي والهيئات الدولية التي من شأنها أن تساهم في تأمين مناخ الثقة المطلوب، ليس فقط لتأمين المساعدات، بل لاستعادة الاستثمارات الأجنبية واستقطاب الرساميل الخارجية التي تشكل دينامو الاقتصاد اللبناني، وقد عرف الأخير تدهورا منذ «جفافها» من البلد.
ما تداعيات منح المواطنين 400 دولار نقداً شهريا و400 دولار وفق سعر منصة صيرفة، وما انعكاس ذلك على الكتلة النقدية؟
٭ قرار المصرف المركزي لا «يمنح» 400 دولار للمواطنين، بل «يحرر» أموال المواطنين المحتجزة في حساباتهم منذ خريف 2019. وهذا أقل حقهم، وقد طالبنا بذلك كاقتصاديين منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة. وأعني هنا إقرار تنظيم السحوبات المالية بالعملات الأجنبية للمودعين من حساباتهم وفق «كابيتال كونترول»، كما هو حاصل في كل البلدان التي تشهد أزمات، كذلك لابد من الخروج من سياسة التأجيل والرهان على الوقت، والوقف الكلي لسحوبات «المودعين العاديين» كما حصل.
في حين كان مجموع الودائع بالعملات الأجنبية يتراجع وكذلك الاحتياطي من هذه العملات يستنزف في غير مكانه حتى وصلنا إلى الاحتياطي الإلزامي الذي لا يجوز المساس به، سوى لتحريره لأصحاب الودائع أنفسهم فقط لا غير.
وكان يفترض أن يساهم ذلك بتهدئة سوق القطع، إذا صرف المودعون الدولارات وزادوا من عرضها في السوق. إلا أن إلزام المودعين سحب 400 دولار على سعر صرف 12 ألف ليرة، يرجح ان يدفع بهم إلى استعمال ما سينالونه بالليرة اللبنانية وتخزين ما يسحبونه بالدولار أو وضع الـ 400 دولار في حساب خارجي للشراء من الخارج أو تحويل المال، أو التمكن من استخدام بطاقات حسابات «الأموال الطازجة» في السفر، بعد وقف العمل ببطاقات الائتمان الصادرة من المصارف اللبنانية.
وبالنسبة إلى الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية فكأننا «أوقفنا العد» بها. وقد تضاعفت ولاتزال ترتفع لأسباب عدة أكثر خطورة من سحب أموال الناس لتسديد الدين العام وفوائده بالليرة اللبنانية، أو خلق النقد (طباعة العملة الوطنية) لتغطية نفقات الدولة من رواتب وأجور ومصاريف مختلفة، مع تدن رهيب لمستوى إيراداتها، وعدم السعي إلى أي إصلاح من شأنه خفضها وترشيدها كما تقتضي به حالات أزمة مشابهة. المشكلة الأساسية هي أنه لا مناخ ثقة يدفع المواطن لصرف الـ 400 دولار نقدا، بل سيلجأ إلى «تخبئتها» و«التخلص» مما يحصل عليه بالليرة.
هل يستمر سوق العقار ضمانة لحماية أموال المودعين كبديل للنظام المصرفي؟
٭ من المؤكد أن سوق العقار شهد حركة استثنائية مطلع الأزمة، لاسيما مع سعي المطورين العقاريين إلى تغطية حساباتهم المدينة من خلال بيع الشقق مقابل شيكات مصرفية حتى لحسابات مجمدة، ولكن الوضع اختلف اليوم بعدما تمكن معظمهم من تحقيق هذه الغاية، ولم يبق من عرض عقاري سوى لمن يريد الحصول على السيولة وطبعا بالدولار النقدي أو الـ «الطازج» الذي يمكن التصرف به.
هل تعتقدين أن الرخاء السياسي كفيل بتحقيق انفراجة في الأزمة النقدية؟
٭ من المعروف علميا، وليس من معتقدي الخاص، أن الاستقرار السياسي هو شرط أساسي لكنه غير كاف للاستقرار الاقتصادي.
في 2016 ـ 2017 كانت «الهندسات المالية» بين وزارة المالية ومن مصرف لبنان والمصارف التجارية لتخفيض خدمة الدين العام (لأن الفوائد على اليوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية) ولجذب العملات الأجنبية والمحافظة على سياسة ربط العملة الوطنية بالدولار الأميركي، وأدت إلى تأجيل انفجار الأزمة.. ومن الواضح والمعروف أيضا أن وكالات التصنيف الدولية (فيتش، موديز، وستاندر آند بورز) تعتمد «الاستقرار السياسي» كأحد أبرز العوامل المؤثرة في «تثقيل» تصنيفها السيادي لسندات أي بلد، أي قدرته على الايفاء بتسديد التزاماته بالعملات الأجنبية، لأن تراجع الاستقرار مقدمة إلى افتقاد الثقة والمناخ الاستثماري، وبالتالي اضطرار البلد المعني إلى رفع معدلات الفوائد على سنداته لإقناع المستثمرين بالاستمرار بتمويله رغم ازدياد مخاطر التسديد.
الانباء ـ جويل رياشي
Comments are closed.