سليماني ليس الأول.. إيران “تحتل” أسماء الشوارع في بيروت

“الحكم لحزب الله لا للماروني”، من عاش في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، يذكر هذا الشعار جيدا. رفعه حزب الله بعد انطلاقته عام 1982 في كل شارع دخله وسيطر عليه خلال تلك المرحلة، وأعلن من خلاله نفوده وسيادته على المنطقة.
 
إلى جانبه، ارتفعت زخرفات إيرانية زرقاء تحيط بصور “الولي الفقيه”، وبرسم فني متقن وتكنولوجيا متقدمة في حينها، أسقطت صور الخميني والخامنئي على حيطان المدينة. 

يروي أحد أبناء الضاحية الجنوبية، كيف كان عناصر الحزب يعملون ليلا على رش الجداريات بعد تنظيفها في الشوارع التي كانوا يسيطرون عليها، “كانوا يستخدمون تقنية الإسقاط الضوئي على الجدار ويضعون صور وشعارات مزخرفة وكبيرة، من ثم ينقلونها بالألوان على الحائط”.

ويضيف أن “العملية كانت مبهرة للناس في حينها وغير مألوفة بالنسبة للشعارات والأعلام والصور التي كان يرفعها بقية الأحزاب والميليشيات في لبنان. كان الناس يستيقظون صباحا على تغييرات جذرية في مشهد الحي، صور لن تمحى قريبا، وإعلان سيطرة أدركنا في حينها أنه لن يزول سريعا.”
 
بعض تلك الجداريات لا يزال موجودا حتى اليوم في أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت، عمرها يقارب الـ40 عاما. 

باتت جزءا من الذاكرة الصورية للمنطقة، مثلها مثل أسماء أحياء وشوارع أطلقها حزب الله منذ تلك المرحلة، عكس عبرها خلفيته العقائدية وتبعيته السياسية وصبغ بها مناطق سيطرته حتى باتت هي الأمر الواقع والسائد حتى اليوم. 

شوارع رئيسية كـ “الشورى”، “القائم”، “سيد الشهداء”، “الكاظم” “المجمع الجديد، والقديم” وغيرها، اكتسبت أسماءها من مقرات ومجمعات أنشأها حزب الله في تلك الشوارع التي ما لبثت أن تسمت باسمها ولا تزال حتى اليوم، رغم انتفاء أسباب التسمية كما هو حال “الشورى” وهي المنطقة التي ضمت في المرحلة السابقة لحرب تموز مقر مجلس شورى حزب الله.
 
إطلاق بلدية الغبيري في الأيام الماضية اسم قاسم سليماني على أحد شوارعها الرئيسية، لم يأت من خارج السياق السابق. 

والجدل الكبير الذي دار بشأنه في لبنان، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي لم يكن لمجرد الاعتراض على الاسم المثير للجدل في لبنان، وإنما جاء من خلفية إدراك اللبنانيين لرمزية تسمية الشوارع بالنسبة إلى تاريخ البلاد.

 
“كل محتل يفرض أسماءه”

تختزل أسماء الشوارع والساحات العامة في لبنان، المراحل التاريخية التي مرت على لبنان، ولاسيما تلك التي شهدت احتلالا للبلاد وهيمنة فكرية وثقافية عليه. لذا فإن هذه الأسماء لطالما كانت نقطة خلاف ثقافي وسياسي بين المكونات اللبنانية الطائفية المتعددة الولاءات.
 
خلال الحقبة العثمانية أقرت السلطنة وحدها أسماء الشوارع والساحات في البلاد وطغت المسميات التركية عموما عليها.

وخلال الانتداب الفرنسي انتشرت أسماء القادة الفرنسيون في شوارع العاصمة اللبنانية، فيما انقسمت البلاد ومعها التسميات والولاءات خلال الحرب الأهلية، فكانت كل منطقة تطلق أسماء رموزها وقادتها على مناطقها لدلالة على هوية المنطقة والجهة المسيطرة عليها.
 
في منطقة بيروت الشرقية، هيمنت أسماء قادة الأحزاب والشخصيات والمسميات الدينية المسيحية وبقيت المسميات المعتمدة في عهد الانتداب الفرنسي.

المسميات الدينية حضرت أيضا في مناطق بيروت الغربية بالإضافة إلى الهوية العروبية التي طغت على المسميات خلال مرحلة المد الناصري وما بعده وسيطرة الأحزاب القومية والعروبية.

 
“حرب شوارع”

يذكر الباحث الاجتماعي نضال خالد، في حديثه مع موقع “الحرة” كيف اندلعت في شوارع بيروت حرب تسميات بعد دخول لبنان مرحلة الوصاية السورية، وكيف عمد السوريون في بعض الأحيان إلى تفجير مجسمات ونصب تذكارية ذات هوية “عروبية أو ناصرية” وحل مكانها تسميات ونصب تذكارية للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ونجليه باسل وبشار (الرئيس الحالي).
 
ويرى خالد أن التسمية عموما في لبنان، تعكس الانقسام الاجتماعي في البلاد، من أسماء الأفراد إلى أسماء المؤسسات والمستشفيات والمدارس والشوارع والمرافق الرسمية، وتحكي في الوقت نفسه القصة التاريخية للمدينة بكل هيمنة مرت عليها، وأسماء قبلها اللبنانيون بحكم الأمر الواقع، وبعضهم اختارها وروج لها في سياق إظهار الولاءات السياسية والخارجية.

” هو نوع من تقديم الولاء والطاعة للمحور الإقليمي والدولي الذي تناصره الطوائف”، يقول خالد، ويضيف: “30 سنة من الوجود السوري كثير من شوارع لبنان و قاعاته ومستشفياته سميت على اسم حافظ الأسد وانتقلت وتغيرت أسماءها بعد رحيل الجيش السوري عن لبنان وانقلاب التوازنات السياسية، ثم اتخذت أسماء نقيضة”.

ويتابع “بعضها عاد وسمي باسم الرئيس رفيق الحريري، وبالتالي فإن كل ذلك يتأتى من الصراع السياسي في البلاد، وتسمية شوارع بأسماء إيرانية تأتي في السياق نفسه وستذهب بعد أفول المشروع الإيراني في لبنان.”
 
آخر “حروب الشوارع” في بيروت كانت الأكثر دلالة على صراع الهيمنة الدائر، ودور تسمية الشوارع فيه، حينما قررت بلدية “الغبيري”، التي يسيطر عليها حزب الله، نفسها التي أطلقت حديثا اسم سليماني على أحد شوارعها، أن تسمي شارع يصل إلى مستشفى “رفيق الحريري” باسم القيادي في حزب الله “مصطفى بدر الدين” الذي قتل في سوريا والمتهم كمخطط ورأس هرم المجموعة المخططة والمنفذة لعملية اغتيال الحريري في حينها، وبتوقيت تزامن مع جلسات المرافعة الأخيرة للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الحريري.

 
سليماني ليس أول “الاحتلال”

في خضم الجدل الكبير الذي أثارته تسمية شارع “الفانتزي وورلد” باسم قاسم سليماني، برز تعليق لأحد مناصري حزب الله على موقع تويتر يقدم فيه إرشاد لمن لا يعرف أين يقع الشارع، يقول فيه: “وأنت قادم من مطار بيروت، تجد يافطة كبيرة تمر من تحتها جادة الإمام الخميني، تقترب قليلا يكون لديك خيارين إما سلوك أوتوستراد حافظ الأسد وإما جادة السيد موسى الصدر، وفي حال تابعت عبر طريق المطار القديم يجب أن تتخذ جادة الصدر الواقعة بعد مستشفى الرسول الأعظم بـ500 متر، فتكون أمام خيارين إما يمينا تسلك جادة الشهيد القائد الحاج عماد مغنية وصولا إلى أوتوستراد الشهيد السيد هادي نصرالله، وإما يسارا باتجاه شارع الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني الواصل إلى أوتوستراد الرئيس الراحل حافظ الأسد ومن ثم شارع القدس.”
 
يختصر هذا التعليق، واقع ما وصلت إليه شوارع الضاحية الجنوبية من تسميات، وبالتالي “هيمنة” بحسب ما يؤكد الباحث الاجتماعي نضال خالد، الذي يرى في هذه التسميات “تكريس للأمر الواقع ولمفهوم النفوذ والسيطرة سواء الحزبية أو الشعبية التي لا تأخذ بعين الاعتبار “الآخر” المختلف، تتم فرضا بالقوة عبر المكونات والجهات الحزبية اللبنانية التي تتعاطى مع بعضها البعض وفق مفهوم الكسر والفرض، وكما جرى في كل الحقبات، ما نراه اليوم ناتج عما يمكن تسميته “الحقبة الإيرانية” التي تحاول كسواها تغيير المشهد الاجتماعي والسياسي في البلاد.
 
شارع سليماني الذي سبق لحزب الله أن هاجم فيها محققي المحكمة الدولية قبل أعوام، واستولوا منهم على أجهزة كومبيوتر محمولة، ليس الشارع الأول المسمى باسم شخصية إيرانية، وفي فبراير 2019 علقت لافتة سير إرشادية تسمي طريق الخروج من مطار رفيق الحريري بالعاصمة اللبنانية بيروت بـ”جادة الإمام الخميني”، رفعها اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية. 

وقبلها في مدينة النبطية رعى السفير الإيراني في لبنان محمد فتح علي حفل افتتاح وتدشين طريق رئيس الهيئة الإيرانية للمساهمة في إعادة إعمار لبنان السابق ” الشهيد المهندس حسام خوش نويس”.

 
سكوت الدولة.. وعجزها

وفق المعلومات التي نقلها الإعلام المحلي في لبنان تعليقا على تسمية “شارع قاسم سليماني”، فإن وزير الداخلية والبلديات محمد فهمي لم يصدق القرار المتعلق بتسمية الشارع وفق ما يطلبه القانون من وزارة الداخلية أو اعتراضها على التسمية في مهلة أقل من سنة، وإنما لجأ إلى ثغرة قانونية عبر مهلة السنة ولم يبت الأمر ما جعل القرار بحكم المصدق ضمنا بعد سنة على تسجيله وفقا للمادة 63 من القانون.
 
هذا السلوك الذي اعتبر “سكوتا لإرضاء حزب الله” أعاد إلى الأذهان واقعة تسمية شارع مصطفى بدر الدين التي شهدت تجاذبا في حينها مع وزير الداخلية، نهاد المشنوق، الذي استخدم صلاحياته وحاول إلزام بلدية الغبيري بتغيير اسم الشارع ونفى توقيعه على قرار السماح، مطالبا بإزالة اللافتة.

لكن البلدية لم تلتزم بذلك وأدخلت القضية في نقاش قانوني جعل من الاسم أمرا واقعا، وهو ما اعتبر عملا فتنويا من قبل البلدية وتطويع البلدية كمؤسسة رسمية مدنية لصالح حزب الله المسيطر عليها.
 
وحاول موقع “الحرة” التواصل مع بلدية الغبيري بشخص رئيسها معن الخليل، الذي وافق في البداية على إجراء مقابلة صحفية، لكنه عاد وتراجع عن موافقته بعد الاطلاع على موضوع المقابلة وطلب الحصول على إذن خاص من البلدية بإجراء المقابلة، في حين أن هذا الإذن من المفترض أن يصدر عنه.

حسين طليس – الحرة

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.