النحات أناشار بصبوص يؤسس عالمه الخاص متحررا من آبائه الفنانين
كتبت ميموزا العراوي في صحيفة العرب: النشوء في عائلة فنية ومواصلة العمل في الفن أمر قد يبدو للبعض يسيرا ومتاحا، ولكنه أكثر صعوبة مما نتخيل، فالفن بصمة خاصة، ومن الصعب التحرر من الآباء، خاصة إن كانوا من العائلة، وتأسيس روح ومذهب خاص، وهو ما نجح فيه بشكل لافت النحات اللبناني أناشار بصبوص.
“بعد عامين من البناء كشف أناشار بصبوص النقاب عن “محترف أناشار بصبوص”، وهو موقع متجذر الآن في راشانا، قضاء البترون في شمال لبنان. هكذا بدأ البيان الصحافي المرافق لافتتاح المحترف بتقديم الحدث والفنان/ النحات ابن النحات الرائد ميشال بصبوص.
لم يدع البيان الصحافي أي جانب دون أن يضيء عليه، سواء إن كان ذلك من ناحية التركيز على أعمال الفنان أو من ناحية وصف المحترف، أو من ناحية الإضاءة على الخلفية الفنية العريقة التي جاء منها الفنان.
حلم يتحقق
اللافت في أعمال النحات أنها خارجة من منطق استحوذ عليه لفترة طويلة وهو العلاقة ما بين الكون والإنسان
سهّل البيان الصحافي للكثير من الصحافيين مهمة الكتابة عن الحدث، ولكنه من ناحية ثانية أضعف من احتمالات القراءات الفردية المتباينة لأعماله، فجاءت النصوص المكتوبة عنه متشابهة إلى حد كبير.
مما ورد في البيان أن المحترف يضم “أكثر من خمسين قطعة استخدم النحات في صنعها فولاذ كورتن، والفولاذ المقاوم للصدأ، والرخام، والخشب، والألومينيوم، والبازلت، والأسمنت. وتعود هذه المجموعة المتنوعة إلى الفترة الممتدة بين العامين 2017 و2022. وقد ابتاع النحات قطعة أرض أمام منزله في راشانا، مواجهة للبحر وتتميز بعنصرين يطبعان القرى في منطقته: الأول، أنها مساحة مسطحة تُعرف باسم البيدر حيث كان يُجمع القمح استعدادا لطحنه.. أما العنصر الثاني المميز فيسمى رجمة وهي تلة ضخمة صُنعت عبر رصّ القرويين الحجارة الصغيرة”.
عراقة الفنان ونشأته وسط عائلة فنية رائدة في مجال النحت المعاصر ستجعل من الصعب تلقف نتاجه في بضع كلمات. وأيضا، سيكون من النافل إعادة سرد ما كتب عن عمله، لذلك قد يبدو النص التالي شخصيا بعض الشيء وقد يضيء على جانب إضافي من عمل الفنان وشخصيته.
أول وآخر مرة التقيت فيها بالنحات أناشار بصبوص كان منذ أكثر من 8 سنوات وكنت بصدد إعداد تقرير تلفزيوني عنه. كان ذلك في الفترة الأخيرة التي سبقت تردي أوضاع التلفزيون الذي كنت أعمل لصالحه. يومها كانت للفنان منحوتة وضعها في منطقة قريبة من وسط بيروت أحاطت بها مساحة مفتوحة للريح البحرية تحيط بها مجاري مياه صافية ضيقة ذات تصميم حديث.
يومها كل ما يمكن أن يتصوره المرء من مشاكل تقنية حدث بسبب الأجهزة التي لم تتلق الصيانة الكافية. أذكر جيدا كم كان الفنان هادئا ولطيفا أمام مجموعة من “الأكاذيب” التي اضطررت إلى تأليفها وفريق العمل، حتى لا ينكشف مدى الإفلاس المعنوي والتقني الذي وصلنا إليه في تلك المرحلة من الزمن. كما أذكر جيدا كيف انتظر وأعاد حديثه معنا أكثر من ثلاث مرات من دون أي كلل أو ملل. كم كنت سعيدة يومها عندما انتهيت من المقابلة وتمنيت أن ينسى أناشار هذا اللقاء وماذا جرى خلاله، لأنه جاء عكس ما سعيت له دوما في تقديم مساهمة دسمة في الحقل الفني.
أعمال أناشار بعيدة عن هيئات النصب التذكارية وعن المقامات المصنوعة من الحجر
في نهاية المقابلة قال لي وتعقيبا على آخر ما سألته عنه حول إمكانية إنشاء متحف لأعماله ولأعمال ألفريد وجوزيف وميشال بصبوص “إلى اللقاء، ربما حين يتحقق الحلم”. لا أدري إن كان الفنان يتذكر اليوم “ظروف” تنفيذ ذلك التقرير التلفزيوني (وأتمنى ألا يتذكر)، ولكننا كنا على موعد مع تحقيق هذا الحلم يوم السادس والعشرين من سبتمبر المنقضي.
جاء التصميم الهندسي للمحترف معاصرا جدا وفيه نفحة من روح أناشار الذي حرص بشكل إرادي وغير إرادي على الحفاظ على أهمية ما قدمته عائلته وما صنعه هو انطلاقا من هذا الإرث. وبدلا من أن يقع بالكامل تحت تأثير أسلوب الأخوة بصبوص بدا في أعماله مشبعا بروح عائلته الفنية العاشقة للأرض والطبيعة، ولفكرة السلام ونبوغ الإنسان وسط سطوة الطبيعة أولا وضد الحرب التي عرفها لبنان لاحقا، ولكن بأسلوب مختلف تماما.
لا أدري لماذا أجد في أعمال أناشار نفحة لاذعة مما قدمه يوما ما، ربما في الثمانينات من القرن الفائت ألفريد وميشال بصبوص من أعمال نحتية خامتها شظايا القنابل والصواريخ والرصاص المنفجر أو عبواته الفارغة. شيء ما يتشظى ويتماسك فيتحول بين يدي الفنان أناشار إلى وثبة خارج الألم ونحو الفضاء الرحب، حيث الإيقاع كوني لا يعرف المرارة.
الإفلات من السابقين
أعمال الأخوة بصبوص زخم النواة المنكمشة على ذاتها أما أعمال أناشار فهي تفلت المادة من قبضة الريح
اللافت في أعمال النحات أنها خارجة من منطق استحوذ على الفنان لفترة طويلة، وهو منطق العلاقة ما بين الكون والإنسان وما تضمن ذلك من أفكار فلسفية جسدتها المواد التي استخدمها في قطع هندسية الأشكال مفككة ومتصلة بتماس أدنى في الكثير من الأحيان، ومتصاعدة عموديا حينا وأفقيا حينا آخر في ديناميكية آسرة تذكر بحركة الكواكب في الفضاء ومسارات الطاقة التي تعم الفضاء الخارجي.
يذكر البيان الصحافي “إلى يمين المدخل الرئيسي للمحترف، مساحة لها فتحة زجاجية في السقف، تعانق السماء وتسمح بفيض من الضوء العلوي. ووضعت فيها منحوتة برونزية، تعود إلى العام 1954 من صنع ميشال بصبوص، الذي تزيّن صورته بالأبيض والأسود وهو برفقة زوجته تيريز الجدار”، وقول الفنان عن هذا المكان “تكريما لوالدي أناشار، تعرض كتبهما على الطاولة والرف في القسم الذي يحمل اسميهما. وبفضل تدفق ذاك الضوء الطبيعي من الأعلى، فإن الجو هنا يعكس إحساسا مقدسا.. كائنان وهباني كل شيء، صنعاني، والأهم من ذلك، أحباني بشكل رهيب”.
إن كانت أعمال الأخوة بصبوص وحسب ما أذكر، تغلبها الضخامة وتشبه النصب التي تقف توثيقا لموقف ما لا يريد أن يزول، فأعمال أناشار بعيدة عن هيئات النصب التذكارية وعن المقامات المصنوعة من الحجر. أعماله تتنفس تحت الشمس وانكفاء أشعتها في حنايا الظلال التي تنسكب على أجزاء منها وذلك حسب موقع الشمس. وبعضها يبدو وكأنه يرتج تحت وسع السماء الليلية وكأن ثمة طاقة كونية ما تسكنها.
أذكر عندما كنت صغيرة أن أهلي أخذونا أنا وإخوتي في رحلة إلى راشانا. وكان الجوّ باردا ورماديا. هناك تعرفت على ما أذكر إلى الفنانين ألفريد وجوزيف بصبوص. لم يكن ميشال بصبوص معهما. الحقيقة أن النصب النحتية التي كانت على الجهتين المتعاكستين من الطريق مخيفة بالنسبة إلي. وكانت أشبه بـ”الطواطم” أو المسلات المرتفعة في رمادية الجو. وعندما اقترب الفنانان منا وجدتهما أيضا مخيفين. على الأغلب لأنهما كانا طويلين ونحيفين.
قال لي والدي يومها إنهما أصحاب المنحوتات “الطويلة” تلك. يومها وجدتهما متشابهين كثيرا. وقد تبرعت والدتي بالتأكيد على هذا الشبه حين قالت لي “عندما تفتحي كتابا تظهر لك صفحتان متقابلتان: انهما الأخوة بصبوص”.
وكي تعلق ذكرى هذا المشوار الأسطوري صدف أن في سيارة العودة كانت أغنية فيروز تصدح “يا أنا، يا أنا وياك، صرنا القصص القديمة”. لحظتها خطر ببالي أن تكون فيروز تقصد الأخوين بصبوص. من تلك الذكريات البعيدة وصولا إلى أعمال أناشار بصبوص يمكنني أن أجزم بأن أعمال الأخوة بصبوص هي زخم النواة المنكمشة على ذاتها. أما أعمال أناشار فهي تفلت المادة من قبضة الريح أو خروجها من تلك النواة.
Comments are closed.