لبنان “هدية” لترمب مقابل ضم الضفة
ليس سراً أن غالبية الدول العربية فضلت عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض لأسباب متفاوتة كانت تختصر حتى في الولايات المتحدة نفسها بصعوبة الاختيار بين السيئ والأسوأ. وأصبح معلوماً أن معظم المسلمين والعرب الأمريكيين صوتوا له، لكن من غير المؤكد أنه سيأخذ طموحاتهم أو حتى مشاعرهم في الاعتبار، إذ إن جميع من عينهم أو رشحهم حتى الآن ليكونوا في إدارته هم من المهووسين «إيديولوجياً» بتأييد إسرائيل، ويستسهلون الكلام عن ضم الأراضي الفلسطينية، أو رفض إقامة دولة فلسطينية في إطار «حل الدولتين». وفي ذلك ما يشير إلى أن ترمب الذي قيل إنه «مختلف» هذه المرة، لم يتخلَ عن «صفقة القرن» ولم ينقح أهدافها لتكون أقل استعمارية، بل إن الإسرائيليين يكثفون الاتصالات مع صهره جاريد كوشنر على رغم إعلان أنه لن يكون له دور أو صفة في الإدارة المقبلة.
خلال رئاسته الأولى حقق ترمب لإسرائيل بعضاً كثيراً من «أحلامها» فكانت الرابح الأكبر والوحيد إذ تعامل باحتقار شديد مع الشعب الفلسطيني وحقوقه. لكن، في المقابل، حصلت حكومات عربية عدة آنذاك على مكاسب ومصالح تعزز استقرارها وطموحاتها، والأهم أنه شكل بالنسبة إليها قطعاً مع سياسات باراك أوباما الذي ذهب بعيداً في ممالأة إيران وتمكينها من توسيع نفوذها الإقليمي على حساب العرب لقاء توقيعها على اتفاق يقيد برنامجها النووي، علماً بأنه حافظ في الوقت نفسه على مصالح إسرائيل. ومع أن ترمب انسحب من الاتفاق النووي ولم يغير شيئاً في خريطة نفوذ إيران، إلا أن سياسة «الضغوط القصوى» عبر العقوبات أسهمت في إضعافها اقتصادياً. وعندما انتخب جو بايدن استعاد سريعاً التوجه الأوبامي فخفف من ضغوط العقوبات وسعى إلى إحياء الاتفاق، إلا أن إيران أفشلت توقعاته كما سبق وفعلت مع أوباما نفسه، فما كان منه إلا أن أصبح في نهاية ولايته مهندساً للضربات الإسرائيلية في الأراضي الإيرانية. وقد أسس هذا التراشق الصاروخي لمرحلة جديدة لن تكون «الحرب الإقليمية» مستبعدة فيها.
في الوقت الذي تقدم إسرائيل استعدادها لوقف إطلاق النار والانسحاب من لبنان كـ«هدية» لترمب (بحسب «الواشنطن بوست») فإنها لم توقف أو تخفف ميدانياً استعراضات التلغيم والتدمير في الجنوب والضاحية والبقاع، بل تخصصها للضغط على البيئة الشعبية لـ«حزب إيران/ حزب الله» لكن هذه البيئة، كما تلك في غزة، ليست الجهة المعنية بإعلان «الهزيمة» أو «الاستسلام» الذي يبحث عنه الإسرائيليون. «الحزب» و«حماس» لا يستسلمان، ولا يعترفان بهزيمة، طالما أن الولي الفقيه يوصي بـ«استمرار المقاومة» ولا يولي اعتباراً لعذابات الفلسطينيين واللبنانيين وخساراتهم. قرار الاستسلام يمكن أن يوجد له إخراج بشرط أن يأتي الأمر من إيران.
لكن طهران تبدو هذه الأيام أكثر انشغالاً بإيجاد مخارج لنفسها ولا تريد أن تتعرض ثانية لعقوبات «الضغوط القصوى»، بل إنها- مع ترمب وفريقه- لم تعد تأمل فب المساومات التي كانت تجريها مع إدارة بايدن. فمن لقاء «إزالة الغموض والشكوك» بين الرئيس مسعود بزشكيان ومدير وكالة الطاقة الذرية رافايل غروسي إلى لقاء «تهدئة التوترات» بين السفير أمير سعيد إيرواني ورجل الأعمال إيلون ماسك، من الواضح أن إيران تخوض مراجعة عميقة لمرحلة من سياساتها أكسبتها عداوات تريد الآن إصلاحها في محيطها كما أكسبتها أوراقاً وأذرعاً كثيرة استخدمتها في التلاعب بأمن المنطقة العربية وشعوبها لكن هذه الأوراق انكشفت وتساقطت ولم تعد مؤهلة لوظيفة إبعاد الخطر عن إيران نفسها.
تسعى إسرائيل إلى «إهداء» ترمب وقفاً موقتاً لإطلاق النار في لبنان، لكن أي «هدية» من إسرائيل لا يمكن أن تعبر عن أريحية أو أخلاق كريمة بل لا بد أن تكون ملغومة أو مسمومة. إذ إن وقف النار المقترح مكبل بشروط مصممة لتحقيق أهداف الحرب حتى بعد وقفها، ولا تمانع إدارة بايدن أو إدارة ترمب القضاء على القدرات العسكرية «حزب إيران/ حزب الله» حتى لو أدى ذلك إلى حرب أهلية أو فتنة داخلية مكلفة للبنان واللبنانيين فوق أكلاف الحرب. أما الوجه الآخر لهذه «الهدية» فهو تأجيل البحث في إنهاء حرب غزة لأنه أصبح بالغ التعقيد، حتى مع الأطراف العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل، ذاك أن بنيامين نتنياهو وزمرة المتطرفين يريدون من إدارة ترمب أن تدعم استمرار احتلال قطاع غزة مع ضم الضفة الغربية و«إعلان السيادة» الإسرائيلية عليها. العقلية الترمبية التي صاغت «صفقة القرن» عام 2020 ومنحت إسرائيل إمكان التصرف الاستعماري بفلسطين والفلسطينيين ليس مؤكداً أنها تغيرت.
عبد الوهاب بدرخان – الوطن السعودية
Comments are closed.