نازحون جدد.. عشرات آلاف اللبنانيين ينضمون إلى المهجرين
يعيش نازحون حديثا من مدينتي بعلبك (شرق) وصور (جنوب) حالة من التخبّط بسبب امتلاء مراكز الإيواء في معظم المناطق اللبنانية بالنازحين من الجنوب ومن الضاحية الجنوبية ومحافظة البقاع خلال موجات النزوح الأولى.
تتكرّر موجات النزوح في لبنان مع استمرار التصعيد العسكري الإسرائيلي، وتكثيف الغارات على مدينة صور (جنوب) ومحافظة بعلبك– الهرمل (البقاع الشمالي)، وتحديداً مدينة بعلبك، لتتشتت العائلات اللبنانية وتُهجّر قسراً من منازلها وأراضيها، تاركة خلفها ذكرياتٍ بالمنازل، وقصصا في الأزقة والشوارع، وتتفاقم المأساة خلال عملية البحث عن مأوى بعد أن صار البقاء في القرى والمدن المستهدفة مخاطرة حقيقية.
يعتصر ألم الفراق الصيدلي بشار وهبة الذي اضطر إلى ترك أهله ومدينته بعلبك، ويقول لـ”العربي الجديد”: “اضطررت بداية إلى إغلاق صيدليتي في الضاحية الجنوبية لبيروت، بعد الغارات العنيفة على المنطقة، ومع اشتداد القصف على مدينة بعلبك، اضطررت إلى النزوح مجدّداً، وهذه المرة رفقة أهلي، إذ قصدنا منزل أحد الأصدقاء في بلدة المريجات (البقاع الأوسط)، قضينا ليلة في ضيافتهم، ومن ثم توزعنا في مناطق آمنة نسبيّاً، بين منطقة فرن الشباك (بيروت)، ومنطقة دوحة الحص (جبل لبنان)، في حين رفض والدي مغادرة بعلبك، خشية تعرّض المنزل للسرقة”.
يتحسر وهبة على أحوال عائلته المعروفة بعدم انتمائها إلى أي حزب أو حركة، ويؤكد: “نلهث فقط خلف العِلم والثقافة وتحقيق النجاح في مسيرتنا المهنية. والدتي مديرة ثانوية رسمية في مدينة بعلبك، ووالدي عسكري متقاعد، وأحد إخوتي يتابع دراسة الدكتوراه في إيطاليا، والآخر طالب جامعي يدرس بين فرنسا ولبنان، وشقيقي الصغير في سنته الثانوية الأولى، ولا وجود لأي شيء حزبي أو مسلح إلى جانب منزلنا أو في الجوار. تشتتنا منذ اندلاع الحرب، ولم نعد نرى بعضنا سوى مرة كل أسبوع أو أسبوعين، وحُرمنا من لقاء الأقارب والأصحاب. أحاول زيارة بعلبك بين الحين والآخر لتفقد من بقوا هناك، رغم المخاطر المحدقة”.
أصبحت مدينة بعلبك شبه خالية بعد التهديدات الإسرائيلية الأخيرة
ويسرد تفاصيل معاناة ابتعاد المرء قسراً عن منزله وأرضه، وأن تتراكم عليه مصاريف وأعباء الحياة، والإيجارات المرتفعة بينما لا يحصل على أي مدخول من جراء توقف عمله. ويقول إنه “إحساس صعب أن نترك المكان الذي ننتمي إليه، لكننا مرغمون على الاحتياط من عدو يستهدف الجميع، حتى لو كنا لا ننتمي إلى أي جهة حزبية، فالقوة لا تعني البقاء في منطقة مهددة”.
بدوره، عاد جاد البيطار من إحدى الدول الأفريقية خلال الصيف الماضي، ودفعه تدهور الأوضاع الأمنية وتوسع رقعة الاشتباكات إلى البقاء بجوار أهله في بلدة علي النهري شرق مدينة زحلة في البقاع الأوسط. يقول لـ”العربي الجديد”: “فضّلت عدم السفر خشية أن يُصاب أهلي بمكروه، ثم طاولت الحرب منطقتنا، وعشنا هول القصف العنيف الذي أصاب ثلاثة منازل قريبة. حينها لم نكن نعرف أين تقع القذائف والصواريخ، لكن أصواتها كانت قريبة، وكان العدو الإسرائيلي يضرب كل ربع ساعة ضربة قوية، ونسمع أصوات الطائرات الحربية والصواريخ”.
ضيف: “في بداية الحرب، كان قرارنا عدم ترك المنزل مهما حصل، لكن بعد فترة اضطررنا إلى النزوح بعد أن قضينا ليلة واحدة في ملجأ بلدتنا. فور شروق الشمس غادرنا باتجاه منطقة بعبدا (جبل لبنان) حيث تسكن شقيقتي وزوجها، وصرنا حاليّاً ثلاث عائلات في منزل واحد، نتشارك مساحته الصغيرة، ولا أسرّة كافية، ولا غرف نوم للجميع. وجربت العودة إلى المنزل لجلب ما تيسّر من ثياب وأغراض على وقع أصوات الطيران الحربي والمسيّرات”. يتابع البيطار: “يبدو أن الحرب ستطول، وليس أمامنا سوى انتظار الفرج، والأمل بالوصول إلى حل يحقق عودتنا إلى بلدتنا ومنزلنا. الوضع صعب في ظل النزوح، إذ لا يقتصر الأمر على ترك المنزل، فقد تركنا خلفنا أحلامنا وطموحاتنا وذكرياتنا، وقطعة من أنفسنا، والأصعب أننا لا نعرف إن كنا سنعود ونجدها، أو سنجد المنزل والبلدة تعرضا للدمار، فجيش الاحتلال يدمّر أحياء بأكملها”.
ويوضح رئيس اتحاد بلديات بعلبك، شفيق شحادة، لـ”العربي الجديد”، أنه “منذ بدء أزمة النزوح في 23 سبتمبر/أيلول، استقبلت مراكز الإيواء الرسمية أكثر من 13 ألف نازح من محافظة بعلبك- الهرمل، ويتوزع هؤلاء اليوم على نحو 60 مركز إيواء، غير أن العدد الأكبر من النازحين، والذي يتخطى 70% من عدد سكان المناطق المستهدفة، نزحوا إلى منازل ضمن المناطق الآمنة، سواء داخل المحافظة أو إلى قرى محافظة البقاع أو نحو محافظات جبل لبنان وبيروت والشمال. عدد النازحين يقدر بـ 110 آلاف نسمة من أصل نحو 160 ألفاً هم عدد سكان هذه البلدات”.
بدوره، يكشف رئيس بلدية بعلبك، مصطفى الشل، لـ”العربي الجديد”، أن “نحو 50% من سكان المدينة نزحوا، ونقدر أنهم أكثر من ستين ألف نازح، لكن بعد التهديدات الإسرائيلية الأخيرة، نزح أخرون، وأصبحت مدينة بعلبك شبه خالية”.
نزح حسن عسّاف رفقة أهله من بلدة الهرمل (البقاع الشمالي)، إلى منزل أحد الأصدقاء في بلدة ديرقوبل (جبل لبنان)، ويقول لـ”العربي الجديد”: “يرهقنا الشعور بترك المنزل، وفقدان حياتنا وروتيننا اليومي. والدي ووالدتي وشقيقتي يدرّسون في مدارس مدينة الهرمل، وكنت أعمل في بيروت، وأسكن في الضاحية الجنوبية. لا نريد سوى العودة إلى أرضنا ومنزلنا، وأن ترحم الناس بعضها بعضاً، فمعاناة النزوح يفاقمها الغلاء الفاحش”.
بدوره، صمد المهندس المدني أحمد الدر في مدينة صور جنوباً، منذ بدء الحرب الإسرائيلية حتى صارت المدينة شبه مقطوعة عن العالم، لا إنترنت ولا شبكة هواتف. ويقول لـ”العربي الجديد”: “كنت أتوقع توسع رقعة الحرب، لكننا ارتأينا التريّث وعدم مغادرة المنزل، باعتبار أن صور مدينة مسجلة ضمن التراث العالمي، ومن المحتمل أن يتم تحييدها. هذا الإحساس كان مجرد تمنيات لأنني لم أكن أرغب بترك المنزل. كانت مقومات الحياة موجودة، من التيار الكهربائي والاشتراك بالمولدات الكهربائية وخدمات الإنترنت، وكانت المحال لا تزال مفتوحة، أي كان هناك شبه حياة، كما أن والدة زوجتي مريضة تلازم الفراش، وكان من الصعب نزوحها”.
يضيف: “قرّرت أنا وزوجتي البقاء في صور، وبقيتْ معنا شقيقتي. لكن مع تزايد حدّة القصف اليومي وتكرار كسر جدار الصوت وأصوات المسيّرات فوق رؤوسنا طوال الوقت، ناهيك عن أصوات القصف الرهيبة على قلب مدينة صور، بدأت المدينة تفرغ من سكانها تدريجيّاً، وبقينا وحدنا في البناية، ثم في الشارع الذي كان يضمّ أكثر من 400 شخص”.
يتابع الدر: “عشنا صراعاً بين الرغبة بالبقاء وبين الرعب اليومي كون المدينة لم تعد آمنة، ما دفعني لتأمين منزل في منطقة بكفيا (جبل لبنان) عبر أحد الأصدقاء، كي لا نتعرض للبهدلة في الشوارع أو داخل مراكز الإيواء. أرسلت زوجتي ووالدتها وخالتها وزوج خالتها وشقيقتي إلى ذلك المنزل الذي قُدّم لنا مجاناً، وبقيتُ في مدينة صور بمفردي. لكن لاحقاً، ومع تواصل القصف العنيف، شعرتُ بالوحدة الممزوجة بالرعب بعد أن أقفلت المحال أبوابها واختفى السكان، ولم تبقَ سوى أصوات الطيران والقذائف والصواريخ. حينها لم يعد الوضع مشجعاً على البقاء، ولم تكن تتوقف الاتصالات من عائلتي كي أترك المدينة، فلحقت بهم إلى بلدة بكفيا”.
يضيف: “بعد بضعة أيام لم أستطع تحمّل الابتعاد عن بيتي، فعدتُ إلى صور بعد أربعة أيام من دون إبلاغ عائلتي. شربت الشاي، وتناولت الخبز مع حبيبات الزيتون، ثم عدتُ أدراجي إلى بكفيا. الذلّ الحقيقي يكمن في العامل النفسي، فقد تركنا منازلنا ومدننا مُكرهين، وابتعدنا عن ذكرياتنا وكل تفاصيل حياتنا. أفتقد المقهى الذي كنت أقصده في صور، حيث كنت ألتقي بمجموعة من الأصدقاء، ولا تنتهي دردشاتنا وأحاديثنا”.
ويوضح: “سبق أن عشت آلام الحروب الإسرائيلية والتهجير خلال أعوام 1978 و1982 و2006، وتتكرر اليوم تجربة التهجير، وأملي أن يكون التهجير الأخير”. ويأسف كيف أن إخوته صاروا يتوزعون بين محافظتَي بيروت والبقاع ومنطقة الكورة (شمالاً) وبلدة بيصور (جبل لبنان). ويقول: “يتابع نجلي دراسة شهادة الدكتوراه في ألمانيا، وابنتي الصغرى مهندسة ميكانيكية، وابنتي الكبرى حازت على شهادة دكتوراه، وكانت تعمل في روسيا، غير أنها عادت إلى لبنان قبل بدء الحرب، وواصلت عملها لصالح الشركة الروسية (أونلاين)، وقد نزحت بدورها رفقة أهل زوجها إلى بيروت. ينتابنا شعور بالغضب والقهر، فبعد أن تراجعت أعمالنا وأشغالنا منذ بدء طوفان الأقصى في غزة، وبدء جبهة الإسناد في لبنان، وصلنا إلى التهجير والدمار والمعاناة، ولا نعرف ماذا ينتظرنا في المستقبل”.
ووفق أحدث تقرير للجنة إدارة الكوارث والأزمات في محافظة الجنوب، بلغ عدد النازحين 66,546 منذ 23 سبتمبر، وامتلأت مراكز الإيواء في المناطق الآمنة نسبيّاً في المحافظة، ولم تعد قادرة على استقبال المزيد من النازحين الذين تتزايد أعدادهم بشكل يومي، ويتم توجيههم نحو محافظة الشمال.
Comments are closed.