الساحل السوري: أزمة عابرة أم مرض مزمن؟

لم تكد تمر ساعات قليلة على المعارك التي جرت في الساحل السوري ولم يكد يعلم أحد عمقها ولا أعداد من شاركوا فيها، ولم تتكشف بعد مدى عمق الأزمة إلا ونحن في الطريق من دمشق متجهين للساحل.
وبالرغم من الاتصالات لتأمين الفريق في رحلته إلى هناك إلا أن الطريق ما زال يحمل خطورة.
وصلنا إلى حمص ومنها إلى طرطوس لم تظهر آثار المعارك جلية بعد؛ ربما بعض السيارات المحترقة وعدد معتبر من نقاط التفتيش.

وصلنا إلى طرطوس منتصف نهار الأحد بعد يومين على الشرارة الأولى لما حدث في الساحل يوم السادس من مارس آذار.
هدوء حذر يلف أرجاء المدينة؛ المتاجر مغلقة، والناس في الشارع قليلون، وحالة من الترقب والاستغراب كلما مررنا بأحد ما. عمليات التمشيط كانت ما تزال جارية من قبل عناصر الأمن السوري.
بينما كنا أمام مبنى المحافظة، محاطين بعدد كبير من مسلحي وزارة الدفاع بملابسهم المتنوعة، ننتظر الإذن بالعمل، أخبرنا أحدهم أن “أبو علي”— مشيراً إلى جندي يرتدي زياً أسود— تمكن، بمهارته في التفاوض، من تحرير 14 عنصراً من الأمن السوري من قبضة “الفلول”.
ما إن اتجهت عيني للكاميرا لأكون على الهواء مع التلفزيون، إلا وبدأ ثلاثة منهم بتسجيل ما أقول على كاميرات المحمول الخاصة بهم.

انتهينا من البث المباشر على الهواء، واستقبلنا رئيس الدائرة السياسية هناك استقبالاً جيداً، ورتب لنا لقاءً مع محافظ طرطوس مع السماح بجولة سريعة بالمدينة بصحبة الأمن.
قال لنا أحمد الشامي محافظ طرطوس إن الإدارة الجديدة من البداية حرصت على تهدئة الأمور وعدم إثارة النعرات، لكن هجوم من أطلق عليهم اسم “الفلول” قلب الموازين.
ولأول مرة نعرف من المحافظ أن من سقطوا في أول ضربة من قبل مؤيدي النظام السابق كانوا بالعشرات.
الرجل كان منطلقاً في الكلام معنا سواء في التسجيل أو قبله مباشرة، وحينما سألناه عن الانتهاكات، رمى المسؤولية على عاتق فرق غير نظامية لا تنتمي لوزارة الدفاع، جاءت مندفعة من إدلب وحلب وحمص وهم من ارتكبوا انتهاكات!

خيوط النهار بدأت تذهب، ورأينا أنه من الأفضل المبيت في طرطوس قبل الانطلاق إلى اللاذقية في اليوم التالي لكن الأمن رفض وجودنا في المدينة، وأصر على اصطحابنا إلى خارج طرطوس باتجاه حمص مرة أخرى.
في اليوم التالي صباح الاثنين 10 مارس آذار، كنا على الطريق من حمص إلى اللاذقية.
على مدى أكثر من ثمانين كيلو متراً -المسافة بين طرطوس واللاذقية- كانت سيارة فريق بي بي سي عربي هي الوحيدة تقريباً التي تسير في طريق كلما أوغلت فيه كلما زادت حدة مشاهد المعارك التي دارت قبل قدومنا بأقل من يوم.
على جانبي الطريق عدد هائل في مناطق كثيرة من فوارغ الطلقات.
عندما بدأ البحر يظهر على يسارنا هادئا منساباً وكأنه لم يكن شاهداً على عمليات القتل التي حدثت في الساحل، بدأنا نعرف أننا مقبلون على بانياس.
وبدأت الإجراءات الأمنية تزداد شدة ونقاط الأمن يزداد عددها بعيد مدينة بانياس التي شهدت كراً وفراً بين عناصر الأمن ومسلحين مؤيدين للنظام السابق.

مشاهد صادمة
في الطريق شاهدنا عدداً كبيراً من السيارات المحترقة، منها على جانب الطريق، وأخرى في نهره وتم استهدافها بمن فيها.
كم السيارات يؤشر على أن ما حدث في الساحل السوري في السادس من مارس آذار، كان كبيراً.
على جانب الطريق قبل مدينة “جبله” شاهدنا سيارة بيضاء اللون تبدوا مدنية اخترقها عدة طلقات نارية.

وفجأة “صاح السائق يا ساتر، جثث جثث في الشارع” عدنا أدراجنا لنتفقد هذه الجثث لم نستطع أن نعرف إن كان بينهم نساء! فقط أربع جثث ملقاة على قارعة الطريق ليست عن سيارة تم استهدافها ربما منذ يومين على الأقل.
ربما هؤلاء كانوا ظاهرين للعيان على قارعة الطريق وما زال في الداخل بين الأحراش عدد غير معروف من القتلى من الجانبين.
كلما اقتربنا من جبله ومشارف القرداحة تزداد على الطريق المنازل والمحال والأبنية والأضرحة المحترقة على جانبي الطريق بشكل واضح رصدنا دخاناً يخرج من منازل قيل لنا أنها في قرية حريصون.
دخلنا اللاذقية وقد انتصف النهار. بدت لنا المدينة هادئة لكن مع انتشار أمني مكثف من عناصر مختلفة من الأمن، ومن الشرطة العسكرية، ومن عناصر الأمن الجنائي، ووازرة الدفاع، ونقاط تفتيش منتشرة على كافة الميادين في المدينة، لكن الحركة فيها كانت شبه عادية.
الناس كانوا في سياراتهم كانوا يلقون علينا التحية وبعضهم عرض علينا الاستضافة.
أثناء تحضيري للانضمام للبث الحي على الهواء لتلفزيون بي بي سي، في دوار الزراعة في قلب اللاذقية اقتربت فتاة في أواخر العشرينات من عمرها تستفسر عن اسم القناة، وبعد دردشة صغيره قالت الفتاة، إنها من سكان أحد الأحياء العلوية في اللاذقية، ولم يحدث أي قتال في الحي، “ولكن فقط بين الفينة والأخرى كنا نسمع أصوات إطلاق الرصاص فيصيبنا الخوف خاصة بعد القصص المروعة التي حكاها لنا أقاربنا في ريف اللاذقية” بحسب الفتاة.
بعد أن وقفنا قليلاً في دوار الزراعة، التقينا شاباً قال إنه يعمل محامياً وأضاف “أصابنا الخوف والرعب مما يحدث، لكن عناصر الدولة فرضوا حمايتهم علينا. لقد تعودنا على أن نعيش مع بعضنا بعضاً. ليس لدينا طائفية مطلقاً” قالها وابتسم مغادراً.
حي علوي وشهادات أقرب للصراخ
طلبنا من الأمن الدخول إلى حي الدعتور ذي الأغلبية العلوية في الشمال الشرقي للمدينة، الذي كان مسرحاً لاشتباكات بين ممن يطلق عليهم “فلول النظام” وبين عناصر الأمن السوري، لكن الأمن رفض دخولنا إلى الحي أو حتى الاقتراب منه.
أشار أحد المواطنين لنا أن هناك أحياء أخرى ذات أكثرية علوية من الممكن أن تزوروها، لم يحدث لهم شيء.
ذهبنا إلى أحد تلك الأحياء التي أشاروا لنا أنه حي يكسنه علويون.
الحي من الخارج يبدو منظماً، وحين تدلف إليه تجد المباني طابقاً أو طابقين ويبدو عليه البساطة وبه أماكن غير منتظمة.
حينما دلفنا إلى مكان واسع، نزلت من السيارة لأجد الأهالي كلهم مشدوهين خائفين وجلين من أي سيارة غريبة تدخل إلى حيهم.
سريعاً عرفت نفسي وفريقي لثلاثة من الجالسين أمام منزلهم وكانت أعمارهم تتراوح ما بين الخمسين والستين عاماً، بعد نظرات ترقب وسماع لهجتي المصرية، ومعي زميلي العراقي والسوري بدأ الاطمئنان يدخل إلى قلوبهم وبدأوا يتحدثون إلينا، مؤكدين أن حيهم لم يتعرض لقتال “لكننا في انتظار أن يحدث شيء” قال أحدهم بلكنة حادة هي أقرب للصراخ منها للشكوى.
صاح رجل آخر نزح من مناطق الريف، بعينين زائغتين حائرتين بين الكلام والسكوت. رجوته أن نسجل معه على أن نخفي وجهه وصوته قال لا أرجوك “سوف يذبحوننا” فقلت متسائلاً لكن أنتم لم يحدث معكم شيء هنا في الحي قال “ومن يدرينا”.
صرخ أحدهم “إحنا أربع أيام بلا مياه أو كهرباء لدينا مولدات كهرباء لشحن المحمول” فسألت مستفسراً المحمول؟ قال محدثي وكان رجلاً في الأربعين من عمره: “حتى نستطيع أن نسجل بالفيديو لو أن أحداً جاء ليذبحنا!”
وقال آخر موجهاً كلامه لي: لدي عائلة في الريف نصفهم قتل والنصف الاخر في الأحراش يبيتون ليلهم في برد الشتاء، ولا يجرؤون على النزول إلى البيوت، فقلت له رغم دعوات الأمان من الأمن؟ قال: بالرغم من ذلك.
صاحت سيدة من وراء الناس الواقفين أمامنا “العلوية بالنسبة لهم كلهم فلول “نحنا ما استفدنا شي من النظام السابق كما ترى الحال وشربنا قتل من الحالي” بحسب قولها.
وحينما تعالت الأصوات وكبر حجم الناس حولنا انسحبنا من المكان بعد أن زاد صراخ الناس “مين ينقذنا؟ انتوا قادرين تحمونا؟” فضلنا ترك المكان قبل أن يتحول الأمر إلى تهديد لسلامة الفريق.
من فوق تلة من تلال البحر تبدوا مدينة اللاذقية جميلة بمبانيها ذات اللون الأبيض الذي ينعكس من ضوء الشمس التي تغرب على مياه البحر المتوسط.
الناس تستعد للإفطار وأصوات الآذان تعلوا من هنا وهناك. هذه مدينة رائعة رائقة حري بها أن تكون قبلة للسائحين وليس قبلة للمتقاتلين.
وأنا أتأمل جمال البلدة هاجمني السؤال التالي.
هل هي بذور حرب طائفية؟

صاح المسؤول عن الأمن في المشفى الوطني في اللاذقية: “تم الهجوم علينا مساء الجمعة والأحد من هذا المبنى”، وأشار إلى مبنى تحت الإنشاء، “لكننا تعاملنا معهم قبل أن يهربوا”.
أشار الرجل الذي أتى لإجراء المقابلة إلى أن المنطقة التي يظن أن مؤيدي الرئيس السابق يأتون منها قائلاً “هذه المنطقة كلها يسكنها فلول النظام، قبل أن يتراجع ويقول من الطائفة العلوية”.
زلة اللسان الخاصة بالمسؤول عن الأمن بالمشفى قد تشير إلى العقلية التي تتحرك على الأرض من بعض العناصر والفصائل، فهناك معادلة خاطئة أشار إليها أحمد الشامي محافظ طرطوس وهي ربط كل الطائفة العلوية بالنظام السابق واعتبارهم “فلول”.
وأضاف الشامي أن الإدارة الجديدة حاولت منذ البداية أن ترسخ بأن ما فات قد فات ولنبدأ من جديد، لكن ما حدث من الفلول كان حالة من “الغدر” بحسب تعبيره.
“الغدر” هذا التعبير سمعناه كثيراً في مقاطع مصورة بثها مسلحون أثناء ارتكاب انتهاكات ضد العلويين في الساحل.
وبحسب شهود العيان في حي من أحياء اللاذقية فإن بعضاً من الانتهاكات كانت تجري ضد الطائف العلوية قبل قيام عناصر مواليه للرئيس السابق بالضربة الأولى في معركة الساحل التي أدت إلى انتهاكات موثقة بالصور والمقاطع المصورة ضد الطائفة العلوية، وذلك حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
الدولة قامت بعمل لجنة تحقيق حول الانتهاكات، ولكن هل تستطيع اللجنة نزع فتيل أزمة طائفية في سوريا؟
Powered by WPeMatico
** مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.
Comments are closed.