حب يتخطى الحواجز: نساء يتحدين وصمة الإعاقة والتمييز

صورة رمزية لفتاة تخفي نصف وجهها بشعرها بسبب حالة نفسية

Getty Images

غالباً ما تسود في بعض المجتمعات، وخاصة الشرق أوسطية والآسيوية والإفريقية، تصورات ثقافية وصور نمطية تقليدية للسيدات اللواتي يعانين من إعاقات جسدية، تصفهن بأنهن غير جديرات بخوض علاقات عاطفية، كما لا يُنظر إليهن في كثير من الأحيان كزوجات محتملات، ما يقلل من فرصهن في المشاركة الاجتماعية ويزيد من عزلتهن في مجتمعاتهن.

تنبع هذه الوصمة من مفاهيم سائدة تربط بين قدرة المرأة البدنية وجاذبيتها وجدارتها في العلاقات العاطفية والحميمية.

ورغم التحديات والعقبات التي تواجهها هؤلاء النساء، أثبت كثيرات أن الجدارة لا تُقاس بالمظهر أو القدرة الجسدية، وأن الإيمان بالذات والمهارات التي يتعلمنها وإصرارهن على تحقيق الذات قادرة على كسر الصور النمطية وفتح آفاق جديدة.

قصص النساء اللواتي شاركن تجاربهن مع بي بي سي عربي، تكشف أن خبراتهن ليست مجرد دليل على قوة الشخصية، بل أيضا دعوة لإعادة النظر في المفاهيم الخطأ والاعتراف بأن قيمة الإنسان تتجاوز أي قيود جسدية أو شكلية.

“وصفني بالمعاقة وهو نفسه يمشي على عكازتين”

ياسمينة أسعد (39 عاماً) سيدة سورية متزوجة ولديها طفلان، تعيش في ألمانيا منذ 10 سنوات وتصف نفسها بأنها “إيجابية جداً”.

وُلدت ياسمينة بخلع الورك الولادي (خلل التنسج الوركي) وباءت ثلاث عمليات جراحية أجريت لها في صغرها بالفشل، وبسبب ذلك، “أصبحت تمشي بخطى مائلة تُظهر عرجاً واضحاً في إحدى ساقيها” على حد تعبيرها.

وتقول ياسمينة: “منذ أن كنت طفلة، كانت العبارات التي تتردد على مسامعي تدور حول ما إذا كان سيقبل أحدهم بي كزوجة، وهل سأحظى ببناء أسرة أم سأصبح عبئاً وعالة على إخوتي، وعبارات من قبيل: يا ليتها كانت صبياً لكان الأمر أسهل، وما إلى هنالك من تعابير الشفقة”.

لكن ياسمينة لم تستسلم لتلك النظرة المجتمعية السلبية، بل “قررت أن تثبت لنفسها وللآخرين أن الإعاقة الجسدية ليست عائقاً أمام تحقيق أحلامها، وأنه رغم التحديات النفسية والاجتماعية التي واجهتها منذ طفولتها، استطاعت إكمال دراستها في معهد المدرسين وحرصت على استقلاليتها وكسر الصورة النمطية”.

تتابع ياسمينة حديثها قائلة: “لم أشعر يوما بأن لديّ مشكلة تعيقني عن تحقيق أحلامي. كنت أستغرب من نظرات الشفقة التي كنت أتلقاها من الأقارب بسبب عرج إحدى ساقيّ، رغم أنني كنت أؤدي جميع واجباتي، وأحيانا بكفاءة تفوق كثيرين ممن يتمتعون بصحة جسدية جيدة. لا أنسى قول إحدى النساء لوالدتي: ما فائدة دراستها وهي تعرج في مشيتها؟ فالناس يهتمون بجسم المرأة السليم قبل أي شيء”.

“ورغم أن الطريق لم يكن سهلاً، تعلمتُ إتقان فن التجاهل، والتركيز على أهدافي، لأثبت لنفسي أولاً وللجميع ثانياً، أنه متى وُجدت الإرادة تلاشت المستحيلات.”

وتقول: “عندما تقدم أحدهم لخطبتي عبر بعض الأقارب المشتركين، غير رأيه فوراً بمجرد أن رآني أعرج على إحدى ساقي”.

وتقول ياسمينة باستغراب: “أخبرنا أقاربنا في اليوم التالي، أن الشاب تفاجأ بعرج ابنتكم قائلاً: لم أكن أعلم بأنها معاقة!”.

“تفاجأتُ من سبب انسحابه بل ووصفي بالمعاقة وهو نفسه يعاني من شلل الأطفال ويعتمد على عكازتين في المشي”.

“الجمال الحقيقي لا يُرى دائماً بالعين المجردة”

صورة تعبيرية لزوجين مع أطفالهما وهم يتنزهون

Getty Images

وجدت ياسمينة في ألمانيا بيئة أكثر تقبلاً وتفهماً لخصوصية الأشخاص من ذوي الإعاقة، ما عزز ثقتها بنفسها. وتقول: قبل خمس سنوات، تقدم أحدهم لخطبتي هناك، وكان سعيداً بارتباطنا، لكنه تراجع بعد بضعة أشهر امتثالاً لرغبة والدته، التي ما إن وصلت إلى ألمانيا حتى خيرته بيني وبينها، مبررة رفضها بأن زوجة مثلي ستكون عبئاً بدلاً من أن تكون سنداً. إضافة إلى ذلك، كانت والدته تبحث له عن زوجة تستطيع الاعتناء بها أيضاً، لأنها كانت تعاني من مشكلات صحية هي الأخرى”.

وتقول أمل رضون، خبيرة العلاقات الأسرية وأستاذة علم الاجتماع لبي بي سي عربي، إن سبب معاناة النساء اللواتي لديهن مشكلة جسدية وخاصة في المجتمعات الشرقية، هو العادات والتقاليد والموروثات الخاطئة، كما أن مهمة الرعاية تقع على عاتق النساء فقط.

“تواجه النساء ذوات الإعاقات العديد من المفاهيم التقليدية الخاطئة، خاصةً عندما يتعلق الأمر بقدرتهن على الحب والزواج. ويعود ذلك إلى التمييز والوصمة المجتمعية، إضافةً إلى الصورة النمطية التي تصنفهن كنساء غير قادرات على أداء الواجبات الزوجية أو العيش كشريكات مستقلات. كما يسود اعتقاد خاطئ بأنهن غير قادرات على الإنجاب، أو أنهن قد ينجبن أطفالا بإعاقات جسدية، ما يقلل فرصهن في الحب وتكوين أسرة.”

وتقول ياسمينة إنه رغم العراقيل والتحديات المجتمعية، “تزوجت قبل ثلاث سنوات من شاب أحبني لصفاتي بالدرجة الأولى، لقوة إرادتي وتعاطفي مع محن الآخرين ومساعدتهم، رأى في وجودي بجانبه السند الحقيقي لبقية حياته”.

وتضيف ياسمينة: “عندما سألته عمّا إذا كانت عائلته ستعترض إذا علمت بمشكلة ساقي، كان رده: آن الأوان ليدرك المجتمع أن الجمال الحقيقي لا يرى دائماً بالعين المجردة، وأن قلبي اختارك أنت لتكوني رفيقة حياتي وليست حياتهم، سأثبت لهم كم أنا محظوظ بك”.

“اغتمني الفرص وشاركي تجاربك”

شاني داندا (37 عاماً) مؤلفة وناشطة ورائدة أعمال بريطانية في مجال حقوق ذوي الإعاقة، وكانت ضمن قائمة بي بي سي لأكثر 100 امرأة مؤثرة حول العالم لعام 2020. تم تشخيصها بمرض “تكون العظم الناقص” أو “العظم الزجاجي”(Osteogenesis Imperfecta) في عمر السنتين، ما أدى إلى كسر ساقيها 14 مرة مع بلوغها سن 16 عاماً.

تقول داندا لبي بي سي عربي: “غالباً ما يفترض الناس أنني لا أستطيع القيام بأمور معينة حتى قبل أن تتاح لي فرصة المحاولة. رأيت كيف يمكن للتوقعات المتدنية أن تعيق النساء ذوات الإعاقة، ليس لعدم قدرتهن بل لعدم حصولهن على الفرص المتساوية في كثير من الأحيان”.

وتضيف: “لكن ذلك لم يوقفني، وبنيتُ مسيرتي في مجال الأعمال والإعلام لأنني كنت أعلم أن لدي ما أقدمه. تعلمتُ على مر السنين أنه إذا انتظرتَ الآخرين ليأخذوك على محمل الجد، فقد تنتظر طويلاً، لذلك أقول للمرأة ذات الإعاقة، استمري في التقدم واغتنمي الفرص عندما تأتيك وثقي بأنك كافية كما أنت، فصوتك وتجاربك مهمة، ومن خلال الظهور على حقيقتك، تساهمين في إحداث التغيير للآخرين أيضاً”.

“اكتشفتُ أنني كنت أظلم نفسي بتقليل تقديري لذاتي”

مريم علي (28 عاماً)، شابة عراقية تعيش في باريس منذ سبع سنوات، وتدير صالون تصفيف شعر نسائي.

تعاني مريم من فقدان البصر في عينها اليسرى منذ طفولتها، واعتادت أن تخفيه بخصلات من شعرها المنسدل على جزء من وجهها.

تقول مريم لبي بي سي عربي: “لم يخطر ببالي يوما أنني سأتزوج من شاب يتمتع بحياة اجتماعية مستقرة ولا يعاني من أي مشكلة جسدية أو نفسية، بسبب النظرة الدونية والتعليقات السلبية التي كنت أسمعها، سواء بقصد أو من دون قصد. فقد كان بعضهم يتوقع أن يكون زوجي المستقبلي أرملًا لديه أطفال بحاجة إلى الرعاية، أو مسنا يبحث عمن يخدمه، أو شخصاً يعاني من مرض ما.”

لكن حياتها أخذت منحى مختلفاً بعد انتقالها مع أخيها إلى باريس. فبعد أن أتقنت اللغة الفرنسية، التحقت بدورات تدريبية في تصفيف شعر النساء. وبالتدريج، أسست صالونها الخاص، الذي أصبح مصدر دخل ثابت يمنحها استقلالا ماليا كاملا، كما تقول. ومع توسّع دائرة معارفها لتشمل أصدقاء من جنسيات وخلفيات اجتماعية وثقافية متنوعة، واطلاعها على قصص نساء ملهمات شاركن تجاربهن عبر منصات التواصل الاجتماعي حول تقبّل الجسد وتقدير الذات بعيداً عن معايير الكمال، بدأت مريم تتصالح مع عينها غير المبصرة، وأصبحت أكثر ثقة بنفسها على حد تعبيرها.

وتضيف: “توصلت إلى قناعة بأن السعادة الحقيقية ليست فيما يظنه الناس بنا أو ما يرونه مناسباً لنا، بل في مدى شعورنا بالرضا والاكتفاء الذاتي. إنه شعور كنت أتمنى لو عرفته قبل عقد من الزمان.”

وللمفارقة، عندما توقفت مريم عن الاهتمام بآراء الآخرين، وبدأت تشعر بالرضا والسعادة لنجاحها واستقلالها، وتخلّت عن فكرة فارس الأحلام، طرق الحب بابها دون استئذان.

قبل شهرين، تزوجت مريم من شاب تعرّفت عليه عبر الإنترنت، كان يعيش على بعد مئات الأميال من باريس، لكنه تخلى عن كل شي هناك، ليتزوج من مريم، التي تقول إنه يصفها بأنها “شقيقة الروح ونصفي الآخر”.

وتضيف مريم: “تعلمتُ من تجربتي المتواضعة في الحياة أن الأشياء الجميلة تحدث لنا عندما نتوقف عن اللهاث خلفها، فتأتينا من حيث لا ندري. لذلك، أوجه رسالتي لكل فتاة تمرّ بمرحلة المراهقة وتعاني من مشكلة ما في شكلها أو جسدها: لا تخسري نفسك وعيشي أفضل أيامك واعملي على اكتساب مهارات تمنحك الاستقلال المالي في المستقبل، وما عدا ذلك لا معنى له، لأن الله يدبر لنا ما هو أجمل مما نتخيل أو نتوقع.”

وتضيف: “لو أنني استمعت إلى آراء الناس السلبية ونأيت بنفسي عن الأصدقاء والمجتمع، ولولا أنني تعلمت مهنة وحصلت على استقلاليتي المالية، لما كنت بهذه الإيجابية والنجاح والسعادة الآن. لذلك أقول للفتيات وخاصة لمن لديهن إعاقة ما في جسدها أو مظهرها، لا تستسلمن أبداً، فلكل واحدة منا قدرات لا يمتلكها شخص آخر، ابحثي عنها في نفسك وطوريها”.

وتقول شاني داندا: “أريد أن أوجه رسالة لكل امرأة: ثقي بنفسك، حتى عندما يشكّك الآخرون في قدراتك. أنت قادرة على تحقيق أكثر مما يتوقعه الناس. النجاح ليس له شكل واحد. ستواجهين التحديات، لكن قوتك وإبداعك ومهاراتك كفيلة بتجاوزها. أحيطي نفسك بأشخاص يقدّرون قيمتك، وتذكري دائماً أن إعاقتك ليست ضعفاً، بل هي جزء من هويتك التي تمنحك منظوراً فريداً يحتاجه العالم.”

وترى الدكتورة وأستاذة علم الاجتماع، أمل رضوان، أنه يجب زيادة الوعي بأهمية حقوق المرأة ذات الإعاقة، كما أنه لا بد من تضافر جميع الجهود لتصحيح الذهنية السلبية حول هؤلاء النساء.

وتضيف: “الأمر يبدأ من التربية وتوجيه الأبناء لتقبل الآخر والتعامل برفق ورحمة مع المختلف، ثم يأتي دور المدرسة فى ترسيخ معاني التعاطف وتقبل الآخر فضلاً عن دور المؤسسات الدينية والدراما والإعلام الذي يجب أن يسلط الضوء على نجاحات النساء ذات الإعاقة، لإلهام الأخريات في تحدي الصعاب”.

وفي النهاية، رغم الصور النمطية والمفاهيم التقليدية التي تُقيّد النساء من ذوات الإعاقة، تثبت تجارب كثيرات أن القوة الحقيقية لا تُقاس بكمال الجسد، بل بصلابة الإرادة وقوة الإيمان بالنفس. فهل آن الأوان لأن يُدرك المجتمع أن الجمال الحقيقي يكمن في العزيمة والروح الإنسانية، وأن منح الجميع فرصاً متساوية لا يثري الحياة فحسب، بل يجعلها أكثر عدلاً وإنسانية؟

قد يكون التغيير بطيئاً، لكن كل صوت يُسمع وكل قصة تُروى، هي خطوة نحو كسر الحواجز وإعادة رسم ملامح الواقع، وإلهام كل امرأة بأن قيمتها لا يحددها جسدها، بل ما تحمله من قوة وما تتركه من أثر.

Powered by WPeMatico

** مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.