“الاعتقال الرقمي”: عملية احتيال كبرى تطال الملايين من أموال الهنود، فما القصة؟

PAWAN KUMAR

تعرضت طبيبة أعصاب هندية تدعى روشيكا تاندون، في شهر أغسطس/آب، لعملية احتيال اتخذت شكل إجراءات تحقيق فيدرالية في ارتكاب جريمة خطيرة.

لم تكتشف الطبيبة أن ما يحدث لها هو عملية احتيال معقدة، مجرد شبكة خداع نسجها محتالون تلاعبوا بها واستنزفوا مدخرات حياتها ومدخرات أسرتها.

أجبر المحتالون الطبيبة تاندون، التي تبلغ من العمر 44 عاماً وتعمل في واحد من أكبر مستشفيات الهند، على طلب إجازة من العمل، وتقييد حرياتها اليومية، والخضوع للمراقبة المستمرة وتنفيذ تعليمات من غرباء على الهاتف، تحت ذريعة ما أطلقوا عليه اسم “الاعتقال الرقمي”، بعد أن أقنعوها بأنها قيد تحقيق بتهمة ارتكاب جريمة خطيرة.

شملت عملية احتيال “الاعتقال الرقمي” بعض المحتالين الذين انتحلوا صفة مسؤولي تطبيق القانون من خلال مكالمات الفيديو، وهددوا الضحايا بالاعتقال بتهم وهمية، والضغط عليهم لتحويل مبالغ طائلة من الأموال.

استطاع المحتالون، في قضية تاندون، سرقة نحو 25 مليون روبية (300 ألف دولار) منها ومن عائلتها، عن طريق حسابات مصرفية وصناديق استثمارية وصناديق معاشات تقاعدية وتأمين على الحياة، وضاعت مدخراتها طوال سنوات في كابوس مصطنع.

لم تكن الطبيبة وحدها هي التي تعرضت لعملية الاحتيال، إذ تشير بيانات رسمية إلى أن هنودا خسروا ما يزيد على 1,200 مليون روبية بسبب عملية احتيال “الاعتقال الرقمي” خلال الفترة بين يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان الماضيين.

وتعد هذه الأرقام الرسمية المعلنة مجرد عينة لا تمثل الواقع في ظل عدم إبلاغ العديد من الضحايا عن ارتكاب مثل هذه الجرائم، فضلا عن تحويل الأموال المسروقة إلى حسابات خارج البلاد أو محافظ عملات مشفرة.

ويقول مسؤولون إنهم تعقبوا ما يزيد على 40 في المئة من عمليات الاحتيال إلى ميانمار وكمبوديا ولاوس.

وتبدو الأمور سيئة للغاية لدرجة أن رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، تحدث عن عملية الاحتيال في حديثه الإذاعي الشهري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وقال: “إذا تلقيت مثل هذا الاتصال، لا تخف. واعلم جيدا أن أي جهة تحقيق لا تستجوب إطلاقا بهذه الطريقة من خلال اتصال هاتفي أو اتصال فيديو”.

وتعاني الهند من عدد من الجرائم الإلكترونية، تتنوع من الاستثمار والتداول المزيف إلى عمليات الاحتيال من خلال تطبيقات المواعدة، بيد أن عملية احتيال “الاعتقال الرقمي” تبرز على السطح بشكل خاص نظرا لطبيعتها المعقدة والخبيثة، فهي مخططة بدقة عالية، وتتدخل في كل تفاصيل حياة الضحية.

وقد يكشف المحتالون عن أنفسهم، أحيانا، أثناء اتصالات الفيديو، وفي أحيان أخرى يفضلون عدم الظهور، ويعتمدون فقط على الصوت، وقد تكون الحبكة مقتبسة مباشرة من أحد أفلام بوليوود المثيرة، إلا أنها مخططة بعناية فائقة.

كان محتالون قد اتصلوا، في ذلك اليوم المشؤوم، بالطبيبة تاندون، التي تعيش في لكناو، وتظاهروا بأنهم مسؤولون من هيئة تنظيم الاتصالات في الهند، وزعموا أن رقمها سيجري قطع الاتصال عنه بسبب “22 شكوى” من رسائل تحرش أُرسلت منه.

وبعد لحظات، تولى الأمر رجل ادعي أنه ضابط شرطة كبير، واتهمها باستخدام حساب مصرفي مشترك مع والدتها في عمليات غسيل أموال بهدف الاتجار بالنساء والأطفال.

وترددت في الخلفية مجموعة أصوات مزعجة تقول: “اعتقلوها، اعتقلوها”.

وحذرها الرجل قائلا: “ستأتي الشرطة في غضون خمس دقائق لاعتقالك، وجميع أقسام الشرطة أُبلغت بذلك”.

وتتذكر تاندون: “كنت غاضبة ومحبطة، ظللت أقول إن هذا لا يمكن أن يكون حقيقيا”.

ثم بدا الضابط وكأنه قد خفف من حدة غضبه، ولكن بحذر، وقال إن جهاز الشرطة الفيدرالي الهندي، المكتب المركزي للتحقيقات، سيتولى الأمر لأنها “قضية تتعلق بأسرار الدولة”.

وأكد أنه سيسعى إلى “التحدث وإقناعهم بعدم وضعك في حجز فعلي، بل في الحجز الرقمي”.

وعندما كانت الطبيبة تنهار مرارا أمام الكاميرا، كان المحتالون يقولون لها: “خذي نفسا عميقا واسترخي. أنت غير متورطة في ارتكاب جريمة قتل، بل فقط في غسيل أموال”.

وفي محاولة يائسة للحصول على حريتها، حوّلت كل مدخراتها من ستة حسابات مصرفية مختلفة إلى حسابات خاصة بالمحتالين، معتقدة أنها ستسترد أموالها بعد “التحقيق الحكومي”، ولكن بدلا من ذلك، فقدت كل شيء، وقطع المتصلون الاتصال بمجرد انتهاء عملية التحويل.

وبعد أسبوع من عودتها إلى العمل، دفعها الإرهاق إلى البحث على الإنترنت عن مصطلحات مثل “الاحتجاز الرقمي” و”أساليب التحقيق الجديدة لمكتب التحقيقات المركزي”.

وأظهرت عمليات البحث مقالات صحفية تناولت عمليات احتيال مماثلة تحت مسمى “الاعتقال الرقمي” في شتى أرجاء البلاد، وعلى الرغم من ذلك، رفضت تاندون قبول فكرة أنها كانت ضحية لاحتيال متقنة، وهرعت إلى مركز الشرطة، على أمل أن “يكون مركز الشرطة والضباط حقيقيين”.

وقالت تاندون إنها اقتربت من مركز الشرطة وهي تشعر بقلق.

وبدأت تشرح: “كنت أتلقى اتصالات غريبة منذ أيام”.

قاطعتها ضابطة، قبل أن تكمل قصتها، وقالت لها بحدة: “هل حولت أي أموال؟”

وفي مركز شرطة آخر، تتذكر تاندون: “في اللحظة التي سمعوا فيها قصتي، بدأوا يضحكون”.

وقال أحد رجال الشرطة: “هذا أمر شائع جدا الآن”.

وفي واقعة أخرى، على بعد أكثر من 500 كيلومتر في دلهي، نجا الكاتب والصحفي نيلانجان موخوبادياي بأعجوبة من عملية احتيال في يوليو/تموز الماضي.

كان قد تحمل 28 ساعة تحت مسمى “الاعتقال الرقمي”، وزعم المحتالون أن حسابه المصرفي المعطل استُخدم في عملية غسيل أموال، وأثار الأمر شكوك موخوبادياي عندما سأله أحد المتصلين لماذا لم يسترد أموال صناديق الاستثمار المشتركة الخاصة به، وهو سؤال لا يطرحه عادة ضابط شرطة على الهاتف.

تحرك موخوبادياي بعيدا عن مكتبه، حيث كان المحتالون يراقبونه، وتحدث لفترة وجيزة مع زوجته، وسرعان ما طلب منها الأصدقاء، الذين انتبهوا إلى رسالته، فصل جهاز المودم الخاص به، مما حرره من قبضتهم.

ويقول موخوبادياي: “كنت أسيرا رقميا حتى كشف أصدقائي عملية الاحتيال، كنت قد حوّلت أموالي إلى حسابي، استعدادا لتحويلها إليهم جميعا، وشعرت عندما انتهى الأمر أنني أحمق”.

ولا يزال التقدم المحرز من أجل القبض على هؤلاء المحتالين غير واضح، حيث يشعر العديد من الضحايا بالإحباط بسبب بطء إجراءات التحقيق.

وعلى الرغم من ذلك حققت تاندون بعض النجاح، إذ استطاعت الشرطة القبض على 18 مشتبها بهم، من بينهم امرأة، من جميع أنحاء الهند، واسترداد نحو ثُلث الأموال المسروقة نقدا ومصادرتها في حسابات مصرفية مختلفة، ولم تسترد سوى 1.2 مليون روبية من أصل 25 مليون روبية من أموالها المنهوبة حتى الآن، وهذا هو المبلغ النقدي المسترد.

وقال ضابط التحقيق، ديباك كومار سينغ، إن المحتالين كانوا يديرون عملية احتيال معقدة.

وأضاف سينغ، وهو مسؤول بارز في الشرطة، لبي بي سي: “المحتالون رجال ونساء متعلمون، يجيدون اللغة الإنجليزية واللهجات الهندية المختلفة، ومن بينهم خريجو كليات الهندسة وخبراء في الأمن الإلكتروني ومتخصصون في الخدمات المصرفية. ويعمل معظمهم من خلال قنوات تليغرام”.

ويعتقد المحققون أن المحتالين كانوا أذكياء، واستخدموا معلومات معينة من وسائل التواصل الاجتماعي لضحاياهم.

ويقول سينغ: “إنهم يتتبعونك ويجمعون معلومات شخصية ويحددون نقاط ضعفك. ثم يضربون بسرعة، باستخدام نهج الضرب والهروب مع الضحايا المحتملين”.

كان المحتالون يعرفون أن موخوبادياي صحفي وكاتب، مؤلف سيرة ذاتية لرئيس الوزراء مودي، وكانوا يعرفون أن تاندون طبيبة وحضرت مؤتمرا في غوا، وكانوا على علم بأرقام الهوية الوطنية “البيومترية” الخاصة بالضحايا.

وعندما سألهم موخوبادياي عما إذا كانوا على علم بأنه كان من بين الصحفيين الذين داهمت شرطة دلهي منزلهم في أكتوبر/تشرين الأول عام 2023 في إطار تحقيق يجري بشأن مصادر تمويل مؤسسة “نيوز كليلك” الإعلامية، استنكروا هذه الخطوة باعتبارها اعتداء على حرية الصحافة، وهي تهمة نفتها الحكومة.

كما ارتكب المحتالون أخطاء، من بينها أن متصل بموخوبادياي لم يكن على علم بالمدة التي تستغرقها عملية استرداد الأموال، مما أثار شكوكه، وكان القاضي الوهمي الذي، رأته تاندون، ويطلق على نفسه اسم القاضي دانانجاي، يضع شارة مزيفة عليها صورة رئيس القضاة المتقاعد مؤخرا دانانجاي تشاندراشود، وعلى الرغم من ذلك، لم تنتبه وأخطأت في إدراك حقيقة الأمر.

وقالت تاندون إنها لا تزال تعيش في حيرة، وتبذل قصارى جهودها لفصل الواقع عن الكابوس الذي اجتاح حياتها، إلى درجة أنها عندما أبلغت الشرطة، تساءلت: “هل كان قسم الشرطة مزيفا أيضا؟”

أصبح كل اتصال هاتفي يثير قلقا جديدا بالنسبة لها.

وأضافت: “في عملي، أشعر أحيانا بعدم تركيز، كما أشعر بالخوف. الأمور أفضل في النهار، ولكن بعد الغسق، يصبح الأمر صعبا، وأعاني من كوابيس”.

Powered by WPeMatico

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.