عيد القوزلي: ما هو وكيف يُحتفل به في قرى الساحل السوري؟
يحتفل أهالي بعض القرى والبلدات في الساحل السوري بعيد رأس السنة الشرقي في 14 يناير/ كانون الثاني من كل عام، ويطلق على هذا الاحتفال اسم عيد القوزلي، ويرتبط بطقوس اجتماعية مميزة وممارسات فريدة، فما هو هذا العيد؟
يحتفل بعيد القوزلي في 14 من يناير/ كانون الثاني كونه يصادف الأول من يناير/ كانون الثاني وفقا للتقويم اليولياني (نسبة إلى يوليوس قيصر)، الذي كان معمولا به منذ عام 45 قبل الميلاد، إلى أن تم تعديله من قبل البابا غريغوريس الثالث عشر رأس الكنيسة الكاثوليكية حينها، والذي بات التقويم المعتمد منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا.
وقد ظل يحتفل بهذا العيد وفقا للتقويم اليولياني بسبب قدمه وارتباطه في الوعي الجمعي الشعبي بطقس مغرق في القدم، وقد ورد ذكر العيد في كتاب “آثار الحقب في لاذقية العرب” الذي يعود للقرن التاسع عشر، للعلامة الياس صالح اللاذقي.
وبطبيعة الحال، فقد اختلفت طريقة الاحتفال بهذا العيد عبر الزمن، إذ بات اليوم يقتصر على زيارات يتبادلها الأصحاب والأقارب، مقرونة بتناول طعام العيد.
لكن على الرغم من ذلك، يقول الكاتب والباحث السوري جورج كدر “إن استمرار احتفال أهالي قرى وبلدات الساحل السوري بهذا العيد، حتى وإن لم يكن بطريقة مماثلة لما كان عليه الاحتفال في الماضي من حيث الممارسات والطقوس، له قيمة كبيرة وأهمية بالغة في دراسة الأعياد في الموروث الثقافي الشعبي”.
جذور التسمية
يقول بعض الباحثين إن كلمة قوزلي مشتقة من الكلمة الآرامية قوزلة التي تعني البداية، وهو تأويل يتناسب مع الاحتفال الذي يصادف بداية السنة الجديدة وفقا للتقويم اليولياني.
كما ورد في موسوعة العامية السورية أن كلمة قوزلا كلمة آشورية تعني عيد البداية.
لكن الباحث جورج كدر يرى أن للكلمة جذورا في حضارات مختلفة كالأكادية والآشورية والسريانية: “لكلمة غوزلة أو قوزلة أو قوزلتا أو قوزلتو في المعجم السرياني عدة معاني، فمعناها الشهب والنار والجمر وكذلك اللهب، وربما هذا ما يفسر أن أحد أبرز الطقوس المرتبطة بهذا العيد هو إضرام النار والقفز فوقها”.
ويضيف كدر أن لهذا العيد على ما يبدو جذورا في حضارات أخرى: “لفت نظري الصديق الآشوري نيسان لازار إلى ورود الكلمة في ملحمة جلجامش السومرية، وتعني كلمة غوزالو أو قوزالو المبشر، والنذير والمنادي والمعلن والرسول، وقد كانت صفة ملكية، ونظرا للقرب بين ميلاد المسيح والاحتفال بعيد رأس السنة، فإن المعنى السومري لهذه الكلمة يعطي بعدا آخر لهذا العيد كون المسيح كان الرسول والمبشر والمعلن عن الدين المسيحي، إن أردنا ربط هذا العيد بالتقويم الميلادي”.
العيد بين الماضي والحاضر
وقد كانت لعيد القوزلي طقوس مميزة وممارسات فريدة، لكنه في الحاضر اختُزل بصورة محزنة إلى يوم واحد تزور فيه العائلات بعضها، مع الحفاظ على الأطعمة التي تميزه.
السيدة ثمرة دوير ولدت عام 1942 في قرية بلوران الجميلة، وتأخذنا معها في رحلة العودة بذكرياتها لأيام الصبا، وتتحدث عن عيد القوزلي كما عهدته: “منذ كنا أطفالا صغارا كنا ننتظر قدوم هذا العيد بفارغ الصبر مع كل ما يحمله من احتفالات ورقص وطعام شهي، ولكن حين يبلغ المرء مرحلة الصبا، يصبح للعيد طعم آخر”.
وتشرح: “يبدأ التحضير للعيد في 13 يناير/ كانون الثاني، وهو يوم الذبيحة، اليوم الذي تحضر فيه الأضاحي وتذبح لتحضير الأكل، ويتسم العيد بأكلات معينة لا يمكن أن تخلو موائده منها، ولمنتجات القمح مثل الحنطة والبرغل والطحين الحضور الأكبر، فمائدة القوزلي تزين عادة بأطباق الكبة بأنواعها والبرغل والفطائر المشوية في التنور والمصنوعة من طحين القمح وزيت الزيتون إضافة إلى الكعك المحلى المزين بحبات اليانسون والشمر والحبة السوداء، ومعجنات مقلية ومحشوة تسمى زلابيا، وغيرها الكثير مما لذ وطاب”.
وتمضي السيدة ثمرة لتحدثنا عن يوم 14 يناير/ كانون الثاني أول أيام العيد: “كل البيوت تكون قد بدأت بإعداد موائد الطعام الشهي ويبدأ العيد باختيار أحد البيوت الواسعة ليستطيع استضافة كافة شبان وشابات القرية، نذهب في الصباح الباكر، نحتسي القهوة، ومن ثم تضرم النار في الفناء وتطبخ الحنطة واللحم، وتعقد حلقات الدبكة على وقع ضربات الطبل، وعزف المزمار، ويستمر الرقص والدبكة والغناء حتى المساء، يتخللها بالطبع تناول أصناف الطعام الشهي، ويتكرر هذا المشهد لستة أيام، كل يوم في بيت جديد، يبدأ منذ الصباح الباكر ويستمر حتى المساء”.
“من القوزلي إلى القداس”
إذا فالعيد بصورته الأصلية كان يمتد لستة أيام كما تقول السيدة ثمرة “من القوزلي إلى القداس”، واليوم السادس وهو يوم القداس، يتميز بطقوس فريدة: “في الساعة الرابعة فجرا من اليوم السادس للاحتفال الذي هو يوم القداس يذهب الشبان إلى نهر أو نبع، بينما تختار الفتيات نهرا أو نبعا آخر، حين أتذكر ذلك الطقس أكاد لا أصدق أننا كنا نمارسه، إذ كنا نغتسل بمياه النهر أو النبع شديدة البرودة في أكثر أشهر السنة برودة، لكننا لم نكن نشعر بالبرد مطلقا، ربما لأنه طقس روحاني، إذ كانت تنتابنا مشاعر غريبة بالرضا والدفء الداخلي”.
وتشرح السيدة ثمرة كيف كانت تستمتع بكل ما يحمله يوم القداس: “بعد ذلك تكون الفتيات قد جلبن باقات من الميرمية وأغصان الزيتون والريحان، يغطسنها في الماء في ذلك اليوم المقدس ويحملنها إلى منازلهن، كانت تلك الباقات تبقى سنة كاملة إلى أن نستبدلها بباقة جديدة في العيد التالي، كنا نعتقد أن تلك الباقات تحصن البيوت من الشرور، وتمنحها نوعا من البركة”.
وبالطبع الطقس الأهم في ذلك اليوم هو السبب المباشر في تسميته، إذ يزور الناس فيه أضرحة القديسين ومقامات الأولياء الصالحين، يدعون ويتضرعون لله، ويقدمون الأضاحي والقرابين.
النار والماء والرقص وطقوس التطهير
كما في كثير من الاحتفالات التي تحمل بصورة أو بأخرى بعدا دينيا أو ربما روحانيا، لا بد من طقوس التطهير التي ترتبط غالبا بالماء والنار.
يقول الباحث جورج كدر: “عادة ما يكون لإضرام النار بعد تطهيري، فهي تُضرم، وفي بعض الأحيان يقفز الأشخاص فوقها، كممارسة رمزية لطرد الأرواح الشريرة”.
ويضيف: “أما الماء فهو دائما وأبدا رمز للتطهر، وطقس الاستحمام بمياه الطبيعة ما هو إلا كناية عن غسل الذنوب وتخليص الإنسان من الخطايا”.
ويخلص كدر للقول: “رغم أن المرء قد لا يدرك أهمية الرقص والدبكة التي هي من طقوس عيد القوزلي، إلا أنه في الأعياد الشعبية المستمرة من مئات وآلاف السنين ينطوي أيضا على بعد تطهري. فالرقص وهز الجسد حالة ينفض فيها الانسان عن كاهله الشرور والذنوب، إضافة إلى ما يحمله من تعاضد وتكافل اجتماعي من خلال شبك الأيادي وتلاصق الأكتاف”.
ورغم أن عيد القوزلي ربما لم يعد يحمل نفس القدر من الدفء الاجتماعي والتواصل، إلا أن استمراره حتى اليوم في حد ذاته أمر مبشر، في ظل تحول حياة معظم البشر إلى الحالة الافتراضية نتيجة الثورة التقنية التي يشهدها العالم.
Comments are closed.