ممثلتان تقفان على الأطلال: ماذا بقي من المسرح في بيروت؟
قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، حين كانت بيروت مقسومة إلى شطرين، شرقية وغربية، بدأت حنان الحاج علي ورندا أسمر، مسيرتهما على خشبة المسرح.
شاركت الممثلتان الرائدتان في عروض ينظر إليها اليوم، كمحطات مفصلية في تاريخ الحركة المسرحية اللبنانية. ولكن، وبسبب ظروف الحرب الأهلية حينها، كان اجتماعهما على خشبة واحدة، أمراً مستحيلاً.
انقضى زمن طويل على تلك المرحلة، وباتت بيروت المنقسمة تلك، شبحاً من الماضي، لا زال يرخي بظله على الحاضر.
الآن، وفيما يواجه لبنان حرباً من نوع آخر تنخر عملته ومعيشة الناس، وجدت الممثلتان الوقت مناسباً لتحقيق لقائهما الأول على المسرح، في عرض بعنوان “لعلّ وعسى” من كتابة وإخراج كريستال خضر.
منذ عام 2018، تعمل كريستال على النص بناءً على مواد أرشيفيةوجلسات ارتجال وتذكّر مع الممثلتين. تأجل عرض العمل أكثر من مرة، بسبب ظروف وباء كوفيد – 19 الذي سدد ضربة قاضية لصالات العرض المسرحية المتضررة أساساً من الانهيار الاقتصادي الأخير.
بين 28 و30 مايو/ أيار، عرض العمل على خشبة مسرح “دوار الشمس” في بيروت، ضمن عودة خجولة لبعض العروض الفنية والمسرحية تشهدها بيروت، بعد أشهر الحجر الصحي. ولم يعرض العمل الا لفترة محدودة، مراعاة للظروف الاقتصادية الراهنة في البلاد كما تخبرنا المخرجة.
لنحو ساعة ونصف، تتبادل الممثلتان البوح أمام الجمهور، وتوثقان محطات مسرحية مهمة، طواها الغياب، ولم تحفظ في أرشيف ولا دوّنت، ولم تبق إلا في ذاكرتهما.
تزامنت ذروة عطاء رندا أسمر وحنان الحاج علي مع الحرب الأهلية اللبنانية. إذ كانتا في طليعة جيل من المسرحيين يشكّل حلقة الوصل بين الآباء المؤسسين مثل لطيفة وأنطوان ملتقى ويعقوب الشدراوي وريمون جبارة وروجيه عساف وجلال خوري ومنير أبو دبس ونضال الأشقر ممن قادوا الحركة المسرحية في لبنان خلال أوجها في الستينيات والسبعينيات، وبين الجيل الأصغر سناً ممن ولدوا خلال الحرب، وخطوا مسيرتهم بعدها، ولم يرثوا من المسارح العريقة إلا خراباً.
ولدت مخرجة المسرحية كريستال خضر عام 1983، وحين بدأت مسيرتها الفنية، كانت المسارح التي لا تزال ناشطة في بيروت قليلة جداً. بعضها احترق، وبعضها تحول إلى مطاعم أو إلى مشاريع فنادق فخمة، وبعضها صنف ضمن المباني الأثرية وبقي مقفلاً، وما بقي انفضّ عنه الجمهور العريض.
تقول لخدمة بي بي سي نيوز عربي: “خلال السنوات الماضية، كنا إن قدمنا مسرحية لثلاث أو أربع عروض فقط، نشعر بالإنجاز. ولطالما كان لدي فضول لأعرف كيف كان جيل حنان ورندا يقدم أكثر من 300 عرض في العام، وكيف كانت طبيعة العلاقة بين الممثلين والجمهور، وكيف كان المسرح ينشط بكثافة خلال الحرب”.
رهان على الأمل
أرادت المخرجة من خلال كتابة مسرحية “لعل وعسى”، أن ترسم خطاً زمنياً للمسرح اللبناني في الثمانينيات، من خلال تجربتي الممثلتين، لعلها توثق لحقبة تكاد تندثر. بالنسبة لها، ذلك رهان على الأمل، وتأكيد على صمود المسرح رغم كل ما حلّ به وبالمدينة.
“ما نقوم به في هذه المسرحية فعل مقاومة للغياب”، تقول حنان الحاج علي في حديثها معنا بعد العرض، لافتة النظر إلى أن هذا التوثيق يتطلب جهود دولة وليس جهود أفراد.
“تخيلي مثلاً، أن رائدة في المسرح مثل الممثلة الكبيرة الراحلة رضا خوري، لم يبق من إرثها لا تسجيل ولا حتى مقتطف، مع أنها كانت علامة فارقة بالنسبة لبنات جيلي، وحاربت بتجربتها أهلي لأقنعهم بدراستي المسرح”، تخبرنا. تتوجه بالحديث أيضاً إلى عدد من طلاب المسرح في الجامعة اللبنانية الذين تحلقوا حولها بعد العرض، لطرح الأسئلة.
بعض تلاميذ رندا أسمر أتوا للقائها أيضاً، وسمعناهم يعرّفونها على أنفسهم وجهاً لوجه، لأن الدروس جرت خلال العام الماضي عبر الانترنت، ولم يسبق لهم أن التقوها. بدت سعيدة بهم. تقول: “أحب أن يعرفوا من أنا بعيداً عن دور الأستاذة التي يرونها خلال الصف، وتعطيهم من خبرتها وتجربتها”.
النبوءة المعكوسة
على مسرح خالٍ من أي ديكور، باستثناء كرسيين، وفي عرض عار من أي سينوغرافيا إلا الإضاءة الخافتة وأصوات خارجية من أرشيف المسرحيات القديمة، عرّفت الممثلتان أولئك الطلاب على نفسيهما. سردتا حياتهما من دون تجميل، بما أوتيتا من صلابة وهشاشة.
تشبهان على المسرح عرافات الأساطير الاغريقية اللواتي كن يتنبأن بالكوارث والمآسي، كما يوحي عنوان المسرحية بالفرنسية (أوغور). لكن النبوءة هنا معكوسة، فما حدث حدث، وما على الممثلتين إلا أن ترويا شهادتيهما، كأنهما تقفان على أطلال زمن انقضى.
تحكيان كيف عملتا لإثبات مكانتهما في وسط فنّي لا يعترف بالنساء إلا بنسبهنّ إلى تجربة المخرج والكاتب أو الزوج والصديق. تسألان عن جدوى المسرح في بلد يخرج من أزمة ليدخل في أزمة أكبر منها، ولم يعد للمسارح وجود حقيقي ضمن مساحاته العامة وحياة ناسه إلا في المناسبات.
تفاخر حنان بأنها باتت النموذج المضاد لـ”النجمة”، وتصارحنا رندا بأنها لم تعد ترى نفسها جميلة. تتذكران القصف والحواجز والملاجئ. تضحكان معاً من الشائعات التي سمعتاها عن بعضهما البعض.
لعبة المرآة وقتل الأب
العرض أشبه بسيرة ذاتية ودرس تاريخ وجلسة فضفضة. تتبادلان المزاح، تقارنان من منهما كانت أفضل، ومن حظيت بفرص أحسن. تؤديان ما يشبه لعبة المرآة، حيث كل واحدة منهما، انعكاس لزميلتها، وحين تراجع ذاتها، فمن خلال كشف مكامن التماهي والتضاد مع الأخرى.
- لبنان: السماح بعرض مسرحية بعد منعها بحجة الإخلال بالذوق العام
- بلا قيود: حوار مع الفنانة المسرحية نضال الأشقر
- روجيه عساف يفوز بالأسد الذهبي في فينيسيا المسرحي
في مدرسة الراهبات، تعرضت رندا للعقاب حين ضبطتها الراهبة “تشخّص”، أي تتمرن على دور مسرحي. درست الإدارة المكتبية، عملت سكرتيرة، وحين استقلت مادياً، حاولت بصعوبة إقناع والدها لكي يسمح لها بدراسة المسرح في الكلية المجاورة لبيتهما. رفض بشدة، وقدم نذراً للعذراء مريم راجياً منها أن ترسب ابنته، لكنها حلت في المركز الثاني. لاحقاً، وعوض استقبال العرسان في بيته، صار يستقبل المخرجين الآتين لطلب إذنه بمشاركة رندا في أعمالهم.
في الفترة نفسها تقريباً، كانت حنان تواجه صعوبة في إقناع والدها بدراسة المسرح. تقدمت لامتحان الدخول دون علمه. حين واجهت لجنة الأساتذة في معهد الفنون لأول مرة، لم تكن قد اختبرت التمثيل أبداً، ارتجلت مشهداً من تقاليد زراعة وتوضيب التبغ في عائلتها، وتحدثت بلهجة أهل الجنوب، الأمر الذي لم يكن شائعاً على المسرح حينها. نجحت في الامتحان، ولكنها بقيت تذهب إلى الكلية بالسرّ لأكثر من عامين.
بقي والد حنان رافضاً لفكرة عملها المسرحي، إلى أن شاهدها في مسرحية “أيام الخيام” (1982) مع فرقة “مسرح الحكواتي” بقيادة روجيه عساف، أستاذ حنان الذي سيصير زوجها لاحقاً. بفضل ذلك العرض الذي يوثق لتهجير أهل الجنوب اللبناني من بيوتهم بعد الاحتلال الإسرائيلي، اقتنع الوالد أن مكان حنان على المسرح، وصار يوصلها إلى العروض بنفسه.
أما والد رندا، فاكتشف من خلال مقابلة تلفزيونية معها أن ابنته تؤدي دور عاملة جنس، وتقف على المسرح صارخة “أنا العاهرة”، في مسرحية لريمون جبارة. هذا المخرج هو نفسه الذي حفز ممثليه العائدين بجائزة مسرحية من العراق عن “صانع الأحلام” (1985)، على رفع الأصبع الوسطى للصالة الفارغة في “كازينو لبنان”، لأن أحداً لم يأت لمشاهدتهم.
مقاومة وغياب والدرجة صفر من الحنين
لم تلتق رندا وحنان في الكلية، لأن الحرب قسمت معهد الفنون في الجامعة اللبنانية إلى فرعين، فرع أول للطلاب المسلمين في بيروت الغربية، وفرع ثان للطلاب المسيحيين في بيروت الشرقية. لكنهما سمعتا عن أعمال بعضهما خلال فترة الثمانينيات، حين كان العمل المسرحي بالنسبة لكليهما فعل حياة، وحين كانتا تجولان وتحصدان الجوائز.
تتذكر رندا كيف كانت تتنقل من بيتها الى المسرح تحت القذائف، وتسأل “كيف كنا عايشين؟”. تتذكر أستاذتها جورجيت جبارة التي خاطت أزياء الممثلين لمسرحية، وحملتها في كيس، وعبرت خط التماس، فأوقفها أحد المقاتلين، وفتش الكيس، ليجد بين محتوياته رأس قطة. كان ذلك زي رندا.
تقارن الممثلتان الظرف السياسي بين شطري بيروت. تحكي حنان كيف كان المسرح بالنسبة لليسار اللبناني في الثمانينيات، فعل نضال، ثورة صغيرة للبقاء على تواصل مع الناس، لحمل همومهم وآمالهم، وكيف واصلوا العمل حتى حين وصل الاجتياح الإسرائيلي الى قلب العاصمة بيروت.
تقول حنان الحاج علي: “يمكن للمقاومة أن تتخذ أشكالاً عدّة، هناك المقاومة في الشارع، وعلى الجبهة، بالمسرح وبالثقافة والدفاع عن الذاكرة لي عم تموت. ما قمنا به في هذا العرض لم يكن سهلاً، يتطلب جرأة أن تعري نفسك، وأن تبوحي”.
تعمل حنان حالياً على مشروع رقمي لتوثيق أرشيف المسرح اللبناني، وتراه مهمة جوهرية لأنّنا (أهل المسرح)، “محكومون بالغياب، ولا نبني تراكماً، من هنا أهمية مسرحيتنا هذه، لأنها تبني جسراً بيننا وبين الجيل الحالي، وبيننا وبين أنفسنا وذاكرتنا”.
وتقول رندا أسمر: “لم أعد أقدم أعمالاً مسرحية كثيرة، إلا إن كان الموضوع يهمني، وهذه المسرحية تهمني، لأنها تخص حياتنا. لم يسبق لي أن قمت بجردة مماثلة لحياتي، كنا نترك الأمور تأخذ مسارها المقدر، من دون تخطيط. لذلك كان مهماً لي المسار الذي رسمته المسرحية، جعلني أكتشف نفسي من جديد”.
لا تحنّ أسمر إلى المسرح، “ربما لو كنت في بلد آخر، وكانت الممارسة المسرحية مكثفة، لاختلف الأمر، الآن هي فعل مناسباتي، وليست ثابتة في حياتنا. تعوّدين نفسك ألا تشتاقي للمسرح، لأنه قد يزول من عالمنا”.
Comments are closed.