مهرجان لندن السينمائي: محاكمة ناشطين سود في بريطانيا تهيمن على الافتتاح

مخرج الفيلم وبعض كادره على السجادة الحمراء قبل الافتتاح

PA Media

مخرج الفيلم وبعض كادره على السجادة الحمراء قبل الافتتاح

بعد عامين من افتتاحه مهرجان لندن السينمائي بفيلمه “أرامل”، يعود المخرج البريطاني ستيف ماكوين ليكون نجم حفل افتتاح المهرجان هذا العام، الذي افتتح اليوم بفيلمه الجديد “مانغروف”، الذي ينطلق من مناخ حركة الاحتجاجات “حياة السود مهمة” التي انطلقت في الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه ينقله مكانيا وزمانيا ليصور لنا كفاح السود ضد التمييز ومن أجل حقوقهم المدنية ولكن في بريطانيا السبعينيات من القرن الماضي هذه المرة.

ويندرج الفيلم ضمن سلسلة من خمسة أفلام أخرجها ماكوين وانتجتها بي بي سي وستبدأ عرضها تلفزيونيا في الشهر المقبل، كما تتولى أمازون برايم عرضها وتوزيعها في الولايات المتحدة.

تحمل السلسلة، التي تضم خمسة أفلام بقصص وشخصيات منفصلة ويحرص ماكوين أن يصفها بأنها مختارات (أنثولوجيا) عن العنصرية ومقاومتها، عنوان ” الفأس الصغيرة” (ليتل آكس)، وهو عنوان مستعار من أغنية عملاق موسيقى الريغي بوب مارلي، التي استعارها بدوره من مثل من غرب أفريقيا، يخاطب فيها العبد السيد كما في الأغنية “إذا كنت الشجرة الكبيرة، نحن الفأس الصغيرة، التي شحذت لقطعك والجاهزة لقطعك”.

كما سيعرض المهرجان فيلما آخر من السلسلة نفسها هو “صخرة العشاق”، وكان من المقرر عرض الفيلمين معا في مهرجان كان الأخير، لكن إلغائه جراء تفشي فيروس كورنا، جعلهما من حصة مهرجان لندن السينمائي الذي افتتح بفيلم “مانغروف” ومهرجان نيويورك السينمائي الذي افتتح بالفيلم الثاني.

تحدي الوباء

وعلى الرغم من أثر تفشي الوباء في عام 2020 على صناعة السينما في العالم وتعطيل إنتاج العديد من المخرجين، ظل ماكوين يسابق الزمن لإنجاز أفلامه الخمسة في هذا العام الذي بات أكثر أعوامه غزارة من الناجية الإنتاجية.

لقد أراد مهرجان لندن تحية هذا التحدي في الإنتاج على الرغم من ظروف تفشي الفيروس، وهو التحدي ذاته الذي رفعه القائمون على المهرجان في عقد دورته الحالية في وقت عطل الكثير من المهرجانات فعاليته. وقد فرض ذلك عليهم تغيير الكثير من تقاليد عرض المهرجان ومنصات عرض فعالياته، فأصبحت الأولوية فيه للعروض على الإنترنت مع عدد محدود من العروض في صالات تراعي اجراءات التباعد الاجتماعي.

وقد يرى البعض أن اختيار فيلم الافتتاح الذي هو جزء من مسلسل سيعرض على شاشات التلفزيون في النهاية ومنصات العرض المستمر على الإنترنت، ليس سوى جزء من هذه التغييرات في تقاليد المهرجان وكسر لحدود تعريف العرض السينمائي بالعرض في صالات السينما.

وقد ترافق ذلك أيضا مع تخصيص المهرجان لواحدة من تظاهراته لأول مرة في تاريخه لأفلام “الواقع الافتراضي” والأفلام التفاعلية المنتجه بهذه الطريقة، أوما يعرف بـ (XR) الكروس ريالتي، أي الواقع المختلط الناجم عن مزج بيئات واقعية مع أخرى افتراضية ويتفاعل المشاهد مع ما يراه عبر مزج ما هو واقعي مع ما هو رقمي الذي توفره التكنولوجيا الحديثة.

ولم تبعد قيود وباء كوفيد-19 مهرجان لندن عن سمته المميزة في عكس التعددية الثقافية التي تميز المدينة التي تستضيفه والدعوة للمساواة للنساء والحقوق المدنية للأقليات المهمشة، التي حرص على تأكيدها في كل دوراته السابقة، فجاء فيلم مانغروف لينقل نبض الشارع في المظاهرات المتواصلة في الطرف الثاني من المحيط الأطلسي إلى قلب صالات السينما المغلقة وسط لندن، ويمد المراجعة الناجمة عنها لتاريخ العنصرية والتمييز، ليعود إلى مرحلة زمنية في ماضي بريطانيا، يرى أنها شكلت الأساس للمجتمع المتعدد الثقافات الذي يميز حاضرة لندن في عصرنا الراهن.

يقول ماكوين، المولود غرب لندن من أبوين مهاجرين من غرينادا وبات هو نفسه يمثل قصة نجاح رجل أسود بات في مقدمة نخبة مبدعي بريطانيا وتوج بأرفع أوسمتها وبلقب سير: “إنها قصة عن لماذا نحن هنا. إنها ليست مجرد قصة عن الماضي، بل عن الحاضر أيضا … نحن ننظر إلى الماضي لننظر إلى المستقبل، ولنحكم أيضا على: كم قطعنا (من المسار)”.

قصة نجاح

يهدي ماكوين فيلمه هذا ومجمل أفلام هذه السلسلة إلى جورج فلويد الذي تسببت وفاته أثناء عملية اعتقال الشرطة الأمريكية له في مايو/أيار الماضي، وإلى كل السود الذين قتلوا في الولايات المتحدة وبريطانيا وفي أي مكان من العالم بسبب كونهم سودا.

ستيف ماكوينBBC

توج فيلم المخرج ستيف ماكوين “12 عاما من العبودية” بالأوسكار

وتتنقل أحداث السلسلة حول شخصيات مختلفة من مجتمع الذين يتحدرون من إصول من جزر الهند الغربية في لندن في الفترة من 1968 إلى 1985، بيد أن الشخصية الرئيسية في فيلم “مانغروف” هي المكان نفسه، وهو مطعم في منطقة نوتنغ هيل غربي لندن، وبات صورة مصغرة لعموم مجتمع السود الذين ترجع أصولهم إلى جزر الهند الغربية ولكفاحهم من أجل تمكين مجتمعهم المحلي ضمن مجتمعهم الأكبر الجديد.

فالمطعم الذي يملكه شخص من أصول كاريبية يدعى فرانك كريتشلو (أدى دوره بنجاح الممثل شون باركس)، وهو مقامر سابق يحاول أن يقطع مع ماضيه ويعيش حياة ملتزمة وباستقامة في مطعمه، الذي يصبح مكاناً لتجمع ذوي الأصول الكاريبية ولأفراحهم ونشاطاتهم الاجتماعية، لكن المكان يصبح عرضة لعمليات دهم شرطة المنطقة التي يديرها ضابط ذو ميول عنصرية ضد السود يدعى فرانك بولي (الممثل سام سبرول)، الذي يحاول إغلاق المكان ومضايقة زواره في حوادث مختلفة.

  • “أرامل” ستيف ماكوين يفتتحنَّ مهرجان لندن السينمائي
  • مهرجان لندن السينمائي: “قرود” المخرج الكولومبي إليخاندرو لاندز تقطف الجائزة الرئيسية
  • مهرجان لندن السينمائي يركز على التعددية

وفي هذا السياق يركز ماكوين على قمع ومضايقات الشرطة، ولكنه يهمل أن هذا المطعم الحقيقي كان في بعض مراحله ملتقى لعدد من المشاهير من أمثال: ديانا روس وفانيسيا ردغريف وسامي ديفز وآخرين، وأن صاحبه نفسه كان أحد الشخصيات الأساسية وراء تنظيم كرنفال نوتنغ هيل الذي بات اليوم من معالم لندن السياحية؛ فهي تفاصيل لا تخدم حبكة قصته، لكنه ركز على دخول زعيمة حركة الفهود السود في بريطانيا أُلثيا جونز لوكوانت (الممثلة لَتيشا رايت) والناشط داركوس هاو (الممثل ملاكاي كيربي) (وأصل كليهما من ترينيداد) إلى المطعم، ودورهما في جعل قضية الدفاع عن مشروع كريتشلو هي قضية الدفاع عن مجتمع السود في المنطقة.

ويقود هذا التحشيد الى خروج نحو 150 شخصا في مظاهرة ضد شرطة المنطقة، تحاصرها الشرطة بكثافة ثم تصطدم مع المتظاهرين وتنتهي باعتقال عدد منهم وتقدمهم إلى المحاكمة.

“عنصرية مزدوجة”

في النصف الثاني من الفيلم الذي تدور جل أحداثه داخل قاعة المحكمة، يضيف ماكوين إلى سجله الفني قدرته على الإدارة الناجحة لفيلم من (جنرة) أفلام المحاكمات التي تجري في مكان مغلق عادة، حيث يبرز التركيز على الحجاج (تبادل الحجج الدفاعية) وخلق التنوع في أداء الممثلين في تقديمها.

وانتقل السيناريو الذي كتبه إلى جانب ماكوين المخرج والسينارست أليستر سيدونز، من الأفعال في نصفه الأول إلى التركيز على الحجج الحوارية داخل قاعة المحكمة، وهي المحكمة الجنائية المركزية لإنجلترا وويلز، المعروفة باسم “أولد بيلي”.

ولم تبخل كاميرا مدير التصوير شابير كريشنر في تقديم تمهيد فخم لها في استعراض عمارة المبنى الفخم الذي يبدو أشبه بكاتدرائية بسقوفه المرتفعة المزينة باللوحات وفضاءاته الفسيحة التي تبدو الشخصيات الرئيسية ضئيلة وضائعة وسطها، وحرص على أن يصور دخولها إليها عبر كاميرا طائرة مسيرة (درون) من الأعلى عكست ضآلة الشخصيات أمام ضخامة المبنى.

وهنا يتوزع الحوار على تسع شخصيات، في المركز منها القاضي إدوارد كلارك (الممثل أليكس جَنينغز)، بكل رصانته الارستقراطية وتمسكه بالتقاليد ومقابله محامي الدفاع الشاب والمتحمس إيان ماكدونالد (الممثل جاك لودن) الذي أصبح لاحقا أحد الشخصيات الرئيسية الدافعة لتشريع القوانين البريطانية ضد التمييز؛ والذي ينجح في خلخلة مسار الاجراءات القضائية التقليدية التي كانت ستجعل من القضية مجرد قضية جنائية وجعلها تدور حول الانحيازات العنصرية، عبر جعل بعض المتهمين يتقدمون للدفاع عن أنفسهم.

والمتهمان هنا هما : لوكوانت وهاو. (وقد حرص ماكوين على أن يجعل الممثلين رايت وكيربي ينطقان بلكنة واضحة وبنبرة صوت واهنة تعكس ضعفا انسانيا واضحا في حوار امتاز بحجج منطقية قوية)، اللذان ينجحان في كسب تعاطف لجنة المحكمين وإحراج الشهود من الشرطة بحجج منطقية كشفت تحيزهم المسبق، وتلفيقهم لبعض الوقائع.

العناية بالتفاصيل الهامشية

مديرة المهرجان تريشا تاتلPA Media

حرصت مديرة المهرجان تريشا تاتل على انعقاد هذه الدورة في موعدها رغم أزمة فيروس كورونا

على الرغم مما بدا في البداية انحيازا من ماكوين لإبطاله من السود إلا أنه تجنب تقديم صورة كاريكاتيرية للقاضي الممثل للطبقة العليا المتمسك بالتقاليد، وباتت كلمته في النهاية هي الفصل والخلاصة الموضوعية عندما أشار إلى أن “ثمة دليل على وجود كراهية عنصرية لدى كلا الجانبين”، والتي ترافقت مع تبرئة لجنة المحلفين للمتهمين، في المحاكمة التي استمرت 11 أسبوعا وشكلت لحظة فاصلة ومهمة في تاريخ مجتمع السود في بريطانيا.

لقد نجح ماكوين في تقديم جماليات صورية مميزة نقلتها كاميرا مدير التصوير شابير الذي برع في التركيز على التفاصيل الصغيرة والهامشية في المكان ودفعها إلى مركز الرؤية، لاسيما في تصويره للمشاهد اتي تدور في أماكن مغلقة.

كما برع في المشاهد الخارجية، في النصف الأول من الفيلم، التي كان ينتقل فيها من مشاهد الحي المغلقة البائسة، والأطفال الذين يلعبون على بقايا الأثاث المرمية في الشارع (عبر كاميرا طائرة مسيرة) لينفتح على فضاء لندن الواسع، أو في مشهد آخر على سقالات البناء في عمارات مجاورة والجسور الجديدة قيد البناء التي بدت لها وظيفة استعارية في سرد الفيلم.

كما نجح في استثمار الغنى الموسيقي الذي يتمتع به مجتمع الكاريبي عبر الموسيقى التي وضعتها المغنية والمؤلفة الموسيقية البريطانية ميكا ليفي (المعروفة أيضا باسم ميكاتشو) التي استثمرت إيقاعات موسيقى البوب والريغي وقدمت خليطا من استعارات من أغنيات ومقاطع موسيقية معروفة في خلفية الاحداث. وقد حرص ماكوين على أن يجعل من الموسيقى جزءا أساسيا في سرده الفيلمي وليست مرافقة للأحداث حسب، فكان يمزج الموسيقى والأغاني مع صور متواترة كوسيلة للانتقال الزمني واختصار مراحل زمنية من سرده الفيلمي.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.