مراسل بي بي سي في السودان يعود إلى مدينته أم درمان بعد عامين من الحرب

غادرت منزلي مع أسرتي الصغيرة بعد أسابيع من بدء الحرب الدموية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل/ نيسان عام 2023، وبعدما تدهورت الأوضاع الأمنية في مدينة أم درمان، حيث وقعت اشتباكات مباشرة بين الطرفين أدت إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وتردٍ في الخدمات العامة، ونقص في المواد الغذائية.
“مشاعر متباينة”

أعود مرة أخرى إلى مدينتي التي وُلدت ونشأت فيها، وفي الطريق إلى منزلي هالني ما رأيت.
لم تكن مدينة أم درمان بهذا السوء من قبل مطلقًا. تعرّضت الأحياء القديمة في المدينة، مثل ود نوباوي وأبو روف، إلى دمار هائل.
بعض المنازل دُمّرت كليًا، وأخرى تضررت جزئيًا. فالمنطقة كانت مسرحًا لمواجهات مباشرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، استخدم فيها الطرفان معظم أنواع الأسلحة الثقيلة.
مررت بسوق أم درمان الكبير والقديم. أصبح الآن كومة من الدمار والخراب. تعرضت البنوك والمحلات التجارية، بما فيها محل والدي، للنهب والحرق.
كان السوق – الذي يُعتبر من بين الأكبر في عموم السودان – يضج بالحركة والحيوية منذ عشرات السنين، ولم تتوقف الحياة فيه، لكنه الآن تحوّل إلى أطلال وخراب، وأصبح موحشًا وقاسيًا.
وصلت إلى منزلي في منطقة الفتيحاب الواقعة في الأجزاء الجنوبية، وذلك بعد غياب دام عامين.
عندما دلفت إلى الداخل، انتابتني مشاعر متناقضة؛ سعيد لأنني عدت إلى منزلي بعد غياب قسري، وحزين لأنني لن أتمكن من العيش فيه مع أسرتي في ظل حالة عدم الاستقرار وعدم توفر الخدمات الأساسية مثل الكهرباء ومياه الشرب.
كنت محظوظًا بعض الشيء، لأن المنزل لم يتعرض للدمار على غرار ما حدث لجاري مثلا، الذي دُمر منزله بعد تعرضه للقصف. لكن نُهبت سيارتي ومعظم الأجهزة الكهربائية في بيتي، بما فيها مكيفات الهواء وبعض الأثاث.
عندما غادرت المنطقة قبل عامين، كانت السماء مغطاة بسحب الدخان الأسود بسبب الحرائق، وأصوات المدافع والمقذوفات كانت تتردد يوميًا في الأرجاء. في ذلك الوقت، كان السكان لا يزالون في بيوتهم، وكانت الشوارع تشهد حركة ملحوظة للسيارات.
“مدينة مهجورة”

توقفت حديثاً الاشتباكات المباشرة بعد أن تمكن الجيش من استعادة السيطرة على المنطقة.
يسود الهدوء المكان، باستثناء أصوات إطلاق نار متقطعة قادمة من منطقة الصالحة، التي تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات جنوبًا، حيث تتمركز قوات الدعم السريع.
غادر معظم السكان، ولم يبقَ سوى قلة تُعد على أصابع اليد. المنطقة أصبحت مهجورة، وهناك حالة من الصمت المخيف. الشوارع الرئيسية خالية تمامًا من السيارات، والمحالّ التجارية مغلقة، وثمة خنادق وسواتر ترابية كان يستخدمها الجيش خلال المعارك.
التقيت بعض الجيران القلائل الذين لم يتمكنوا من الخروج طوال العامين.
من بينهم زبيدة، 40 عامًا، التي ظلت مع أبنائها في المنطقة بعد أن فقدت زوجها في شهور الحرب الأولى.
صمدت في وجه الظروف القاهرة التي مرت بها، متنقلة بين المنازل بحثًا عن الأمان عند اشتداد المعارك.
تقول زبيدة: “كنا نضطر للخروج من المنزل والاحتماء في منزل آخر عندما يشتد القتال وتدوي أصوات المدافع والطائرات المسيّرة. كنا نعيش على الكفاف، وأحيانًا نظل جوعى لمدة يومين حتى نجد شيئًا نأكله. أصدقك القول، كنا نبحث عن أي طعام في المنازل الفارغة، وعندما نجد العدس، مثلًا، نطبخه لسد رمق الجوع.”
وتتابع زبيدة، وقد انطبعت على ملامحها آثار التعب: “عندما لم نجد فحما أو حطبا نطبخ عليه، لجأنا إلى كسر الأثاث الخشبي واستخدامه كبديل. تصدّق أننا لم نشرب الشاي أو القهوة طوال عام كامل؟ كان حلمًا لنا أن نحظى بكوب من الشاي!”.
صورة أخرى

الصورة تبدو مختلفة في مناطق سيطرة الجيش في الأجزاء الشمالية من مدينة أم درمان، والتي تُعد من أكبر المدن السودانية من حيث المساحة والتعداد السكاني.
في طريق عودتنا من المناطق الجنوبية إلى الشمالية، لاحظت أن الحياة بدأت تعود تدريجيًا إلى طبيعتها.
فعلى سبيل المثال، هناك أشخاص وعائلات ومحالّ تجارية مفتوحة جزئيًا في منطقة الفتيحاب الشمالية، وأحياء بانت، والعباسية، والموردة.
يقع مسجد أم درمان التاريخي والأثري وسط السوق، وقد تعرض لدمار جزئي واحترق المصلي الخارجي. ومع ذلك، رفع المسؤولون الأنقاض ونظفوه. وأقيمت فيه صلاة الجمعة لأول مرة بعد انقطاع دام نحو عامين.
مررت بشارع النيل بأم درمان. كان كئيبًا وموحشًا للغاية. بقايا المعارك لا تزال موجودة؛ سيارات محطمة لا تزال على قارعة الطريق، والخنادق والسواتر الترابية قائمة. لا أحد في شارع النيل، الشيء الوحيد المتحرك هو الأكياس البلاستيكية التي يعبث بها الهواء.
شيء لا يُصدَّق. لطالما كان هذا الشارع الشهير مكتظًا ومليئًا بالحياة والمرح.
كنا نرتاد ضفاف النيل برفقة عائلاتنا وأصدقائنا، كما يفعل باقي السكان لقضاء الأمسيات. وكان أبرز ما يميز هذا الشارع وجود بائعات الشاي، اللواتي شكلن مقاهي بديلة يجتمع الناس حولهن ويتبادلون الأحاديث في شتى المواضيع.
لا يزال الهاجس الأمني والقلق يسيطران على الجميع بسبب القصف المدفعي المتكرر الذي تتعرض له المدينة من قبل قوات الدعم السريع كما يقول الناس هنا والسلطات.
خلال وجودي، قُصفت المنطقة مرات عدة، لكن أشدها كان في الأسبوع الثاني من شهر رمضان، حين استهدفت بخمس قذائف دفعة واحدة، سقطت إحداها على مبنى سكني، ما أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص وجرح آخرين.
عندما سقطت القذائف، هرع الناس في الشوارع بلا هدى، إذ لا توجد ملاجئ مخصصة يمكن الاحتماء بها.
لكن بعد مرور نحو ساعة وهدوء الأوضاع، عادوا إلى ممارسة حياتهم وكأن شيئًا لم يكن.
توجهت إلى مستشفى النو الذي يعتبر المرفق الطبي الوحيد المهيأ لاستقبال الإصابات.
وصلت بعض الحالات بإسعافات متهالكة، وأخرى بسيارات خاصة، فيما يتولى عدد من الشباب المتطوعين استقبال المرضى ونقلهم إلى قسم الطوارئ.
من بين هؤلاء مؤمن وزينب الذان قالا إنهما يحاولان سد الفجوة في الكوادر الطبية: “كما ترى المستشفى يستقبل بشكل يومي حالات مختلفة من الإصابات والمرضى وعدد الكوادر الطبية قليل. نحن نحاول المساعدة”.
بعد لحظات امتلأت ساحة المستشفى بأهالي الضحايا الذين وصل بعضهم يصرخ في حالة من الصدمة والذهول والغضب.
“أشلاء ممزقة”
ويقول إبراهيم عبد الله وهو أحد العاملين في ثلاجة الموتى بالمستشفى إن عدد الضحايا وصل إلى 25 شخصا، من بينهم أطفال، خلال ثلاثة أيام نتيجة القصف.
عبدالله يتهم قوات الدعم السريع بعدم احترام حرمة شهر رمضان، ويقول إنهم يستهدفون المدنيين الأبرياء باستمرار.
تستقبل المستشفى جثامين القتلى من القصف بشكل متكرر منذ بدء الحرب.
في شهر فبراير الماضي، سقطت قذيفة في سوق صابرين المكتظ بالناس، وسقط العشرات ما بين قتلى وجرحى، ومع ذلك لا يزال السوق مزدحما بالناس.
سألت محمد أحمد، وهو أحد بائعي الخضار، لماذا يعرض نفسه للخطر ويأتي إلى السوق بالرغم من أنه عرضة للاستهداف في أي وقت؟ فأجاب ببساطة: “لدي زوجة وأبناء وأعمل على توفير لقمة العيش لهم. إذا لم أحضر إلى السوق سيموتون من الجوع أيضا. ليس لدي خيارات أخرى”.

سرقة وسطو مسلح

من الظواهر التي ظل يشكو منها السكان في مدينة أم درمان، ظاهرة السلب والنهب بالقوة داخل الأحياء السكنية.
إذ برزت في الآونة الأخيرة عصابات مسلحة في ظل انتشار السلاح.
مظاهر انتشار السلاح لا يمكن إغفالها. معظم الناس وخاصة الشباب يحملون بندقية من طراز الكلاشينكوف في الطرقات والأماكن العامة. بعضهم يرتدي زيا عسكريا وبعضهم زيا مدنيا. البعض منهم يحمل السلاح حتى أثناء استخدامه المواصلات العامة.
كان الأمر غريبا بالنسبة لي خاصة مع تصالح الناس مع هذه الظاهرة في مدينة لم تألف السلاح ولم تعرفه قبل ذلك.
كان الأمر مألوفا في مدن دارفور، غربي البلاد، التي شهدت حربا امتدت لعقود. لكن سكان مدينة أم درمان لم يعتادوا على رؤية الأسلحة النارية، إذ ظلت المدينة آمنة لعقود طويلة.
البعض يتهم أفرادا من الجيش السوداني بعمليات السرقة من المنازل وهي عملية أطلق عليها شعبيا اسم”الشفشفة”.
وفي هذا الصدد يقول عبد القادر إبراهيم (اسم مستعار) إن جنودا يرتدون زي الجيش ومدججين بالسلاح دخلوا إلى منزله ونهبوا الأجهزة الكهربائية وبعض الأثاث.
يقول بعض سكان المناطق التي استعادها الجيش إنهم أُجبروا على مغادرة منازلهم بحجة الحفاظ على سلامتهم، وتم نقلهم إلى مناطق أخرى. وعند عودتهم، اكتشفوا أن منازلهم تعرضت للنهب على يد عناصر من الجيش، حسب قولهم.
رّ الجيش عبر عدد من قادته بحدوث أعمال سرقة ونهب من قبل بعض أفراده، واصفًا إياها بأنها تصرفات فردية، وأكد أنه أحال المتورطين إلى محاكم عسكرية.
ومع زيادة ظاهرة السطو المسلح، قرر الجيش تدريب عدد من عناصره على مكافحة السطو والجريمة المنظمة في ظل عدم عودة قوات الشرطة للعمل بكامل طاقتها.
سُمح لنا بزيارة أحد أماكن هذه التدريبات، ورأينا كيف يتلقى الجنود التدريبات اللازمة لاقتحام المنازل والقبض على المجرمين.
يؤكد القائد الميداني، العقيد مصطفى محمد أحمد ساتي، لبي بي سي أن الأولوية بعد القضاء على ما وصفه بالتمرد، هي حماية المدنيين. ويشير إلى وجود خطة على أعلى مستوى لتأمينهم، مضيفًا أن المواطنين يمثلون “خطًا أحمر”، وأنهم سيعودون إلى مناطقهم بأمان.
في انتظار العودة

بعد عامين من الحرب، تمكن الجيش من تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة وملحوظة في العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث؛ الخرطوم وأم درمان وبحري، وغيرها من مدن البلاد. وتحول ميزان القوى العسكري لصالحه بعد أن كان لصالح قوات الدعم السريع في الشهور الأولى من الحرب.
ومن بين المكاسب التي حققها الجيش، استعادته للسيطرة على مقر القصر الجمهوري بوسط الخرطوم.
ومع ذلك، فإن قائده ورئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان يؤكد أنه لن يتفاوض مع الدعم السريع، وأن أي تفاوض سيكون حول شروط الاستسلام.
كما أن قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو أكد أيضا أنهم سيواصلون القتال بالرغم من الهزائم العسكرية التي تعرضت لها قواته في معظم محاور القتال.
مع دخول الحرب عامها الثالث، وفي ظل تمسك الطرفين بالحسم العسكري، يضطر سكان مدينتي أم درمان وغيرها من مدن البلاد، بالإضافة إلى ملايين النازحين واللاجئين في دول الجوار، إلى الانتظار لفترة أطول حتى تنتهي الحرب وتتيح لهم الفرصة للعودة إلى ديارهم واستئناف حياتهم الطبيعية من جديد.
- بي بي سي تكشف حجم الدمار في متحف السودان بعدما استعاده الجيش
- الخوف والأمل يجتمعان في قلب الخرطوم المدمّرة
- قصة “سراي الحكمدارية” الذي كان قصر الحكم في السودان لنحو 200 عام
- الخرطوم: قصة مدينة التسامح التي حولتها الحرب إلى “عاصمة للأشباح”
** مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.