لبنانيون في نار السويداء: تورّط فردي أم فتيل لفتنة إقليمية؟

منذ عام 2011، حينما تورّط “حزب الله” عسكريا في دعم بشار الأسد، لم يغب اللبنانيون عن خطوط النار السورية. تتجدد فصول هذه المأساة مع كل دم يسيل في الأراضي السورية، وكأن “وحدة المسار والمصير” التي سوق لها نظام البعث، بمثابة “لعنة” تلاحق اللبنانيين والسوريين معا، وتربط بين سوريا ولبنان بـ”واو كافرة”، بحسب قول شهير للكاتب اللبناني سعيد تقي الدين.
بصوت يصدح بالتحدي، ظهر الشاب اللبناني مصطفى مليحان في مقطع مصوّر، سلاحه يلمع في يده، معلناً مشاركته في المعارك الطاحنة التي شهدتها محافظة السويداء جنوب سوريا، بين مقاتلين من أبناء الطائفة الدرزية ومسلحين من العشائر العربية وقوات حكومية.
“شباب وادي خالد من السويداء… راجعين منتصرين بإذن الله”، هذه كانت كلماته قبل أن يعود بعد أيام جثة بكفن إلى بلدته الرامة في وادي خالد شمالي لبنان.
مصطفى، البالغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، الأب لثلاثة أطفال، لم يُخبر عائلته بنيته التوجه إلى السويداء. كان يقيم في حمص، حيث افتتح متجرا للمواد الغذائية. وحين التقى والده به قبل مقتله بيومين في عزاء بحمص، لم يعلم الوالد المكلوم أنها ستكون المرة الأخيرة:
“خسارة ابني لا تعوّضها الكرة الأرضية”، بعبارة واحدة يختصر الأب حزنه، وقد أثقل كاهله سؤال صعب: “ما الذي دفع ابني إلى الموت في سوريا؟”.
لم يكن مصطفى مليحان سوى قصة واحدة من قصص كثيرة تكشف عن تورّط لبناني متزايد في الصراع السوري.
تداول ناشطون مقاطع مصوّرة تظهر شباناً لبنانيين آخرين يقاتلون إلى جانب العشائر العربية في سوريا، خصوصاً بعد إعلان الأخيرة “النفير العام”، كما كانت هناك أخبار عن سقوط ضحايا مدنيين دروز لبنانيين كانوا في زيارة عائلية في السويداء.
هذا التورّط لم يأتِ من فراغ؛ فالروابط العشائرية والطائفية تتجاوز الحدود، لتضع الهوية الوطنية اللبنانية على المحك.
بلغت التوترات ذروتها في لبنان، حين دعا الشيخ نبيل رحيم، عضو “هيئة العلماء المسلمين” في طرابلس، شباب أهل السنة في لبنان إلى الاستعداد التام لتلبية نداء “القيادة في سوريا” في حال طلبت مدداً من الرجال، ودعا إلى “إسقاط الحدود”.
في المقابل، أعلن الوزير اللبناني السابق وئام وهاب، رئيس “حزب التوحيد العربي” المقرب سابقاً من نظام الأسد، عن تشكيل مجموعة مسلّحة باسم “جيش التوحيد” للدفاع عن الدروز.
في خضم هذه الدعوات المتضاربة، ينفي الحاج مليحان، والد مصطفى، ما تداولته بعض وسائل الإعلام حول امتلاك ابنه الجنسية السورية أو انتمائه إلى جهاز الأمن العام السوري.
وأكد أن “الادعاءات التي روّجت غير صحيحة”، وأن العائلة تنتمي إلى عشيرة الغنّام، ذات الجذور الممتدة تاريخياً بين لبنان وسوريا والأردن والعراق والسعودية.
وشدد على أن “الوقوف إلى جانب المظلوم واجب”، لكن عشائر سوريا لا تحتاج للدعم، إذ “يبلغ عددهم عشرة ملايين، وإن قاتل عشرة آلاف من كل مليون، فسيكون لديهم مئة ألف مقاتل”.
من جانبه، يؤكد أمين سر مجلس العشائر العربية في لبنان، أحمد الشيخ، أن مشاركة الشباب اللبنانيين في أحداث السويداء كانت ضمن “مبادرات فردية”.
ورغم المشاهد المؤلمة التي انتشرت من سوريا، والتي ولّدت تضامناً واسعاً، لم تُترجم إلى إعلان نفير أو دعوة لمشاركة عسكرية، بحسب الشيخ، الذي يشير إلى أن “من شاركوا هم من أبناء قرى وادي خالد الواقعة داخل الأراضي السورية، حيث تقيم عائلات لبنانية منذ عقود”.
كذلك يؤكد أمين عام ديوان العشائر العربية في لبنان، جهاد المانع، أن العشائر العربية “جزء من النسيج العربي الواسع، لكنها لم تعلن النفير”، وأن عشائر سوريا قادرة على الدفاع عن نفسها، وفي السويداء وحدها يوجد أكثر من 45 ألف مقاتل.
ويرفض المانع التدخل في الشؤون الداخلية السورية، أو أي تدخل سوري في شؤون لبنان، لكنه يلفت إلى أن “الروابط العائلية والاجتماعية بين البلدين قد تدفع بعض الأفراد إلى اتخاذ قرارات فردية خارج الإطار العشائري المنظم”.
وكان ديوان العشائر العربية قد أصدر في 19 يوليو بياناً نعى فيه مليحان، واصفًا إياه بـ”شهيد العشائر العربية” و”البطل المغوار”، وسبق ذلك بيان آخر صدر في 17 يوليو، أعرب فيه الديوان عن إدانته لما يتعرّض له أبناء عشائر العرب في سوريا، واصفاً ما يحدث بـ “الإبادة”.
على صعيد التوترات السياسية في لبنان، يوضح المانع أن “الخلاف ليس مع الطائفة الدرزية، فهم إخوتنا وشركاؤنا في الوطن”، بل “هو موجه ضد وئام وهاب الذي يدعو إلى تدخل إسرائيلي في دولة عربية”.
في المقابل، يصف المانع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، بـ “الرجل الحكيم الذي أنقذ لبنان من فتنة، وكان واعياً لخطورة تصرفات وهاب”.
وينفي مدير “مركز الديمقراطية للدراسات السياسية والاستراتيجية”، الدكتور غسان بو دياب، من جهته، توجه شبان لبنانيين من الطائفة الدرزية إلى محافظة السويداء.
“لم يتوجّه أحد من الدروز في لبنان إلى السويداء، وهم يلتزمون سيادة الدول وحدودها. من الطبيعي أن يتضامنوا ويدعوا لأهلهم هناك، لكن دون أي تجاوز قانوني أو جغرافي. حتى من حاولوا العبور من إسرائيل، عادوا أدراجهم ولم يصلوا إلى السويداء”، معتبراً أن المسألة لا تتعلق بتحركات أفراد فقط، بل تمسّ سيادة الدول.
وفي ما يتعلق بدعوة الوزير السابق وئام وهاب إلى تشكيل “جيش التوحيد”، يوضح بو دياب أن وهاب “أكد بنفسه أنه لم يدعُ إلى تشكيل هذا الجيش في لبنان، بل أشار إلى إمكانية إنشائه داخل الأراضي السورية، وتحديداً في محافظة السويداء”، ويتابع “لا أعلم إن كان أبناء الطائفة في سوريا يريدون مثل هذا التشكيل، لكن ما أعرفه يقيناً أن المرجعيات الدرزية في لبنان ترفض أي خرق للحدود الدولية”.
ويحذّر المحلل السياسي جورج العاقوري من خطورة تقديم الولاء للطائفة أو العشيرة أو العقيدة على حساب الولاء للوطن.
ويشدد على أن دفاع الدروز أو السنة في سوريا عن أنفسهم هو “مسؤولية سورية داخلية لا تعني اللبنانيين”. ويشير إلى أن “الدعوة إلى القتال أو التحريض عليه من لبنان باتجاه سوريا أمر مرفوض جملةً وتفصيلاً”.
ويقول غسان بو دياب إن “الدروز لم يكونوا يوماً دعاة حروب أو مشعلي فتن، بل كان موقفهم واضحاً دائماً: الدفاع عن الأرض والعِرض فقط. في السويداء، لم يسقط أي شهيد درزي من خارج حدود المحافظة، وأكثر من خمسين ألف درزي رفضوا الالتحاق بالخدمة في جيش النظام السوري السابق، لأنهم رفضوا قتل إخوتهم السوريين”.
من الناحية القانونية، تؤكد المحامية والناشطة الحقوقية ديالا شحادة لموقع “الحرة”، أن “مشاركة أي مواطن لبناني، مهما كانت خلفيته أو انتماؤه، في القتال خارج إطار القوات العسكرية النظامية اللبنانية، تعدّ شكلاً من أشكال الارتزاق، يعاقب عليه بموجب القانون الدولي، وتدرج ضمن الجرائم المعاقب عليها في القانون اللبناني، مثل الانتماء إلى عصابة مسلّحة”.
وتشير إلى أن القانون لا يميّز بين من يقاتل إلى جانب جيش نظامي أو ضده، طالما أن الشخص يشارك في نزاع مسلح خارج بلاده. كما يجرّم قانون العقوبات اللبناني، بحسب شحادة، “كل ما من شأنه تعكير صفو العلاقات مع دولة شقيقة، بما في ذلك التحريض عليها أو الدعوة إلى أعمال عدائية ضدها، سواء كانت ذات طابع أمني أو عسكري أو اقتصادي”.
وتختم شحادة بالإشارة إلى أن النصوص القانونية في هذا المجال “واضحة وصريحة، لكن الواقع في لبنان يكشف عن ازدواجية فاضحة في تطبيق القانون، إذ لم نشهد أي تحرّك قضائي لمحاسبة اللبنانيين الذين قاتلوا إلى جانب نظام الأسد، في حين جرت ملاحقة من قاتلوا ضده”.
اسرار شبارو – الحرة
🛈 تنويه: موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً أو مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.