الوشم في حياة نساء عربيات: من طقوس قديمة إلى لغة حديثة للحرية
عندما قررت رنا، فور تخرجها من الجامعة، أن تترك بلدتها الصغيرة في إحدى محافظات دلتا النيل وتنتقل إلى القاهرة بحثاً عن فرصة عمل، واجهت عاصفة من الرفض. والدها، تحديداً، رأى في خطوتها تحدياً مباشراً، ليس فقط للتقاليد التي نشأت فيها العائلة، بل له هو شخصياً، كأب ورب للأسرة.
وبعد عام واحد، كانت رنا قد بدأت حياتها الجديدة في العاصمة، واستقلت مادياً ومعنوياً. لم تخبر أحداً حين توجهت إلى أحد استوديوهات الوشم في وسط البلد. اختارت كلمة واحدة فقط، نُقشت بخط عربي دقيق على معصمها الأيسر: “حرية”.
جذور تاريخية عميقة
لكن رنا لم تكن الوحيدة التي خطّت على جسدها كلمات تؤكد هويتها وما يمثل ذاتها، فللوشم جذور عميقة في الهوية العربية.
مأثور الشعر والكلام منقوش على الأجساد
“كلما نظرتُ إلى المرآة، أتذكر جدتي”، بهذه الكلمات تصف فاطمة، وهي سيدة أمازيغية من جبال الأطلس، العلاقة العاطفية التي تربطها بالوشم الذي يزيّن ذقنها منذ طفولتها.
قالت لنا “هذا الوشم نقشته لي قريبة لنا، وكانت جدتي هي من اختارته. كانت تقول لي إنه يحميني من العين، ويزين وجهي كما تفعل الأقراط.”
لطالما شكّل الوشم في مجتمعات الأمازيغ والبدو وسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء، وطقس عبور اجتماعياً وجسدياَ.
وتشير الباحثة خديجة زيني في دراسة نشرتها في دورية دراسات شمال أفريقيا إلى أن “الوشم لم يكن مجرد زينة، بل جزءاً من نظام رمزي يُظهر موقع المرأة داخل الجماعة… كما كانت العلامات والرموز المستخدمة في الوشم أداة لحفظ الذاكرة، والتعبير عن المعتقدات، والدفاع عن الجسد من قوى الشر.”

وفي المجتمعات البدوية في سيناء، مثلاً كانت النساء يشمن الشفة والخدود وأطراف الأيدي، في ممارسات تتجاوز الزينة إلى ما يُشبه العلامات الطقسية.
ووفقاً لما دوّنه عدد من الرحالة والباحثين الأوروبيين في أواخر القرن التاسع عشر، من بينهم جورج شتايندورف، فإن “نساء سيناء كن مغرمات بالوشم، يشمن الشفة والخدود وظهر اليدين حتى المرفق، في ممارسات تجمع بين الزينة والرمز الطقسي.”
لكن هذه التقاليد لم تسلم من التحول. إذ ساهمت النظرة الدينية الرافضة للوشم، المستندة إلى تفسيرات فقهية تعتمد تفسيرات لحديث “لعن الله الواشمة والمستوشمة”، في تراجعه داخل هذه المجتمعات. وبمرور الوقت، خفتت مظاهره، خاصةً مع التوسع الحضري وتصاعد الخطاب الديني المحافظ.
عودة بصيغة جديدة
واليوم، تعود الممارسات المرتبطة بالوشم في شكل جديد، لا كتعبير جماعي قبلي، بل كفعل فردي خاص. وشمٌ لا يختار له المجتمع مكانه ولا رمزه، بل تختاره المرأة لتعلن عبره عن حريتها، ذاكرتها، أو حتى جرحها الذي اختارت أن يُرى.
تقول علياء فضالي، وهي فنانة وشم مصرية، لبي بي سي: “الناس بحاجة إلى أن تفهم أن الوشم ليس مجرد رسمة على الجسم… لكنه طاقة تشجع وتداوي”.
بدأت علياء رحلتها مع الوشم وهي في سن المراهقة، برسم تجريبي على يديها وعلى جلد ثمار الموز. ومع الوقت، تحوّلت هوايتها إلى استوديو محترف.
أما نانسي قمح، وهي فنانة وشم لبنانية، فتقول لبي بي سي إنها وجدت نفسها في هذا الفن: “كنت أحب الرسم، وأحب التصميم والإبداع… شعرت إن الوشم هو أكثر شيء يعبر عني.”
بدأت نانسي مسيرتها داخل صالون نسائي صغير تتعدد فيه الأنشطة التجميلية للنساء. بدأت عملها في الخارج، ثم عادت إلى بلدها لبنان، حيث قررت أن يكون الوشم هو عملها الوحيد، وأصرت على أن تكرس وقتها وجهدها للتميز فيه
وتقول نانسي إنها واجهت في البداية تشكيكاً في قدراتها لمجرد كونها امرأة. وقالت “الناس يعتقدون أن الرجل لمجرد أنه رجل سيكون أكثر دقة عند العمل في تنفيذ وشم يبقى على الجسم طوال العمر”.
غير أن ذلك لم يحبطها أو يثنيها عن عزمها، بل أنها الآن أصبحت ترسم الرشوم على أجساد الرجال والنساء على حد سواء.
الحبر والندبة: الوشم بوصفه فعلاً علاجياً
تتعدد دوافع النساء للحصول على وشم، لكن دوافع التشافي تتكرر بكثافة. تقول دينا، وهي فنانة وشم لبنانية، تخصص جهودها لوشم النساء فقط، لبي بي سي: “أنا لا أشعر أنني أرسم لهن وشماً فقط. أثناء جلسة الوشم أسعر أنني في جلسة علاج لمن أدق لها الوشم.”
وتضيف أن ألم الوشم الخفيف غالباً ما يكون دافعًا للبوح: “تشعر المرأة أنها ترتاح مع وخزات الوشم الخفيفة، تشعر أن الشيء السلبي المؤلم يخرج من جسمها ويحل محله شيء جميل.”
وتقول علياء: “الكثير من الناس تدق الوشم لتغطية آثار عمليات جراحية أو حوادث. الوشم يجعلهم يستعيدوا الثقة في أجسامهم ويرتدوا ما يرتاحون له من الثياب”.
وتروي علياء عن سيدة كانت تخفي ذراعها بسبب آثار حريق، لكنها بعد الوشم استطاعت أن تكشف عن ذراعيها دون خجل.
دينا أيضاً تؤكد هذا البعد العلاجي، وتستحضر حالات نساء متعافيات من السرطان، قمن بوشم مناطق في الجسد غيّرتها الجراحة أو المرض.
ومن أبرز القصص التي تمثل هذه الحالة، قصة عفاف، وهي امرأة اختارت أن تضع على جسدها عبارة واحدة: “أنا بطلة حياتي”.
قالت عفاف لبي بي سي عن وشمها الذي رسمته نانسي قمح: “هل تعلمين عند مشاهدة فيلم، كثيرا ما نشاهد بطلاً ينقذ الموقف والآخرين. أنا أشعر أنني هذه البطلة، أنا أنقذت نفسي. أنا تصالحت مع ذاتي وأنقذتها، وأحقق لها أحلامها”.
رموز القوة: من الفينيق إلى اللوتس
بين السر والعلن
تختلف علاقة النساء بوشومهن؛ فبعضهن يحتفظ بها سراً، والبعض الآخر يفخر بها علناً. تقول نانسي إن النساء المحجبات كنّ من أوائل زبوناتها، لأنهن يبحثن عن فنانة وشم تفهم خصوصيتهن. تقول “أحياناً لا ترغب الفتاة المحجبة خاصة أن تعرف أسرتها أنها رسمت وشماً. أنا أحترم رغبتها ونختار موضعاً للوشم بعيد عن الأنظار”.
أما علياء، فتقول إن النساء أصبحن اليوم أكثر رغبة في إظهار وشومهن، لا إخفائها. وتضيف: “الآن أصبحت أرى الناس، سواء كانوا رجالاً أو نساء، خاصة النساء، يفخرون بإبداء الوشم ويتباهون به.”
قصص تترك أثراً
ما بعد الحبر
تقول علياء: “الوشوم هدية مني لنفسي… كل وشم على جسمي يقويني ويذكرني برسالة مني لنفسي.”
وتضيف أن الوشم” ليس مجرد رسم على الجسد للزينة. الوشم طاقة تمنحك القوة، طاقة تقول لك إنك قادر على النهوض والمواصلة. الوشم رسالة لا تعرف كيف توصلها للناس، وتستخدم ما خُط ورُسم على جسدك لإيصالها.”
وفي المجمل، يبدو أن الوشم أصبح لدى قطاع من النساء العربيات أداة لبناء علاقة جديدة مع الجسد، علاقة فيها تصالح مع الألم والندوب، وفيها تأكيد على الحضور والاختيار.
لا تزال بعض المجتمعات تنظر للوشم بريبة أو رفض، لكن الأصوات التي تسعى لإعادة تعريفه كفعل فردي، جمالي، وعلاجي، باتت أعلى وأكثر تأثيراً.
- “ربما رآني بعضهم غريبا بالوشم، لكني لا أكترث”
- ما هي معاني الوشوم على أجساد لاعبي الكرة؟
- جسد بيكهام شاشة لإظهار فظاعة العنف ضد الأطفال
🛈 تنويه: موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً أو مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.