“الرجال لا يبكون”: كيف تؤثر التوقّعات الاجتماعية على الصحة النفسيّة؟

في كثير من الأسر، لا يُشجَّع الصبيان على التعبير عن مشاعرهم، وغالباً ما يكبرون على قناعة بأن الغضب هو الشعور الوحيد “المسموح” للرجال بإظهاره، خصوصاً حين يُكرّسه الآباء كمثال يُحتذى. هذا النمط من التربية يترك أثراً طويل الأمد على الصحة النفسية والعلاقات.
في مرحلة البلوغ، يُتوقّع من الرجال أن يكونوا متماسكين وألّا يُظهروا الانفعال أو الضعف. ورغم أن بعضهم بدأ يتخطى هذه الصورة، إلا أن كثيرين ما زالوا يكبتون مشاعرهم، ما يزيد من مستويات التوتر، ويؤثّر على صحتهم النفسية والجسدية.
تشير مراجعة نشرت في مجلة Psychology of Men & Masculinity إلى أن التمسّك بالمعايير التقليدية للرجولة، مثل الاعتماد على الذات وتجنّب إظهار الضعف، يرتبط بارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق لدى الرجال، ويقلّل من احتمالية طلبهم للمساعدة النفسية.
في المقابل، لا تزال الصور النمطية حول المشاعر تتكرّر يومياً، سواء في الحياة اليومية أو عبر وسائل التواصل، ما يدفع كثيرين إلى التماهي معها خوفاً من الحكم أو الرفض، حتى على حساب توازنهم النفسي.
كيف يغيّر العلاج النفسي نظرة الإنسان؟
عندما تقهرنا أفكارنا: ما الذي لا نفهمه عن الوسواس القهري؟
“الرجال بلا مشاعر”: أسطورة راسخة
إحدى أكثر المغالطات شيوعاً هي الاعتقاد بأن الرجل بطبيعته أقل عاطفية أو غير قادر على الإحساس العميق. تعامل هذه الفكرة في الثقافة السائدة كأنها حقيقة بيولوجية، مدعمة بتنميطات جندرية موروثة، وكأن الرجال لا يشعرون كما تشعر النساء، والعكس صحيح أيضاً، بمعنى أن النساء تحرّكهنّ عواطفهنّ حصراً.
يقول المعالج النفسي هادي أبي المنى في حديث إلى بي بي سي عربي: “واحدة من أبرز الصور النمطية المغلوطة في مجتمعاتنا هي الاعتقاد بأنّ التعبير عن المشاعر سلوكٌ أنثويّ، وكأنّ المشاعر بطبيعتها ترتبط بالأنوثة. في المقابل، ينظر إلى كتمان المشاعر أو تحمّل الألم بصمتٍ على أنه دليل على الرجولة”.
ويضيف: “يقال كثيراً إنّ الرجال غير عاطفيّين أو غير قادرين على التعبير، كأنّ هذا أمر فطريّ. لكن الحقيقة أنّ جميع البشر، رجالًا ونساءً، يتساوون في القدرة على الشعور والتأثّر. ما يحصل هو أن الرجل يتعلّم منذ صغره ألّا يعبّر عن مشاعره بالكلام. لا تختفي هذه المشاعر، بل تتحوّل إلى صمت، أو غضب، أو انغماس في العمل”.
ويوضح أنّ هذا التجنّب يمنح أحياناً راحة مؤقتة. “استبدال الشعور الأساسي بأفعالٍ أخرى يمنع الفرد من إدراك مشاعره، والتعامل معها، مما يؤدي إلى تفاقم المشكلة لاحقًا”، يقول أبي المنى.

“الحديث لا يجدي نفعاً”
يستقبل أبي المنى عشرات الحالات، ويخبرنا وفق تجربته، أن الأخصائيين النفسيين يلمسون تردّداً من الرجال في اللجوء إلى العلاج. يقول أبي المنى: “من أكثر العبارات التي أسمعها من الرجال هي أنّ الحديث لا يفيد ولا يغيّر شيئاً”. لكنه يشدّد على أنّ الحديث هو جوهر العملية العلاجية.
“حين يسمّي الشخص مشكلته، يبدأ باستعادة بعض السيطرة عليها”، يقول. فالفهم والتنظيم العاطفي يساعدان في تهدئة التوتّر وتخفيف الضغط، حتى من دون حلول فورية.
توافقه الرأي المعالجة النفسية جيزيل صليبا، وتضيف أنّ هذا التردّد متجذّر في صورة نمطيّة ترسّخت في الطفولة. “الرجال الذين يلجأون إلى العلاج غالباً ما يخفون الأمر، لأنهم تربّوا على عبارات مثل: أنت رجل، عليك أن تحل مشاكلك وحدك”، تقول صليبا. “التعبير عن التوتر أو الخوف أو البكاء، كان يُقدّم لهم كعيب لا يليق بالذكور”.
واحدة من أكثر العبارات المتداولة في ثقافتنا: “الوقت كفيل بحلّ كل شيء”. لكنها، وفق ما يؤكد أبي المنى، مغالطة خطيرة.
“تجنّب المشكلة لا يحلّها، بل يجعلها أكثر تعقيداً”، يقول. ويقارن ذلك بصحّة الأسنان: “لا ننتظر تسوّسها لنبدأ بتنظيفها، بل نفعل ذلك كي لا تتفاقم المشكلة. كذلك الأمر مع المشكلات النفسيّة”.
التدخّل المبكر، برأيه، يقلّل من حدّة الأعراض، ويمنع امتدادها إلى مجالات أخرى من حياة الفرد.

الاستقلالية القاتلة
يرى أبي المنى أنّ الرجال لا يطلبون المساعدة لأنّهم لم يتعلّموا أنّ هذا أمر طبيعي. ويشرح: “الرجل الذي يطلب الدعم يُحمَّل بالعار، ويُعتبر ضعيفًا، لأنّ الرجولة مرتبطة مجتمعيّاً بالاستقلالية المطلقة”.
ويضيف: “الرجل القوي هو من لا يحتاج إلى أحد. هذه الصورة ما زالت مترسّخة في أذهاننا، وتمنع كثيرين من الاعتراف بآلامهم”.
النجاح، وفق أبي المنى، لا يُقاس بالتماسك الظاهري، بل بقدرة الشخص على فهم ذاته ومشاعره والتعامل معها.
وتوضح صليبا أنّ بعض الأشخاص يعتقدون أنّ عليهم أن يكونوا “عقلانيين دائماً”، وأن يتجاهلوا الجانب الوجداني. وتقول: “يرون أنّ المشاعر تضعفهم، وأن التعبير عنها يناقض مفهوم النجاح أو الصلابة”.

“أنت رجل… لا تبكِ”
يجمع الباحثون في مجال الصحة النفسية على أن تطوّر الاضطرابات النفسية لا يحدث نتيجة عامل واحد فقط، بل نتيجة تفاعل معقّد بين ثلاثة عناصر رئيسية: الاستعداد البيولوجي، والخلفية النفسية الفردية، والعوامل الاجتماعية المحيطة، بما في ذلك التوقعات الجندرية.
وفي هذا السياق، تشير المعالجة النفسية جيزيل صليبا إلى أن الضغوط الاجتماعية التي تحث الرجال على كبت مشاعرهم أو إنكارها، تزيد من خطر الإصابة باضطرابات نفسية متعدّدة، وتؤثّر أيضاً على طريقة ظهور الأعراض لديهم.
وتشرح صليبا أن الاكتئاب لدى الرجال قد لا يتجلّى بالحزن أو البكاء، كما هو شائع، بل قد يظهر في صورة نوبات غضب، أو انسحاب اجتماعي، أو حتى سلوكيات متهوّرة، وهي أنماط موثقة في العديد من الدراسات.
وتلفت إلى أن نسب الانتحار لدى الرجال لا تزال أعلى بكثير من النساء على مستوى العالم، وهو ما تؤكده بيانات منظمة الصحة العالمية. ففي تقاريرها المتكررة، تشير المنظمة إلى أن الرجال أكثر عرضة للوفاة بالانتحار، رغم أن النساء غالباً ما يُظهرن معدلات أعلى من محاولات الانتحار.
كذلك، ترتفع نسب الإدمان على الكحول والمواد المخدّرة بين الرجال مقارنة بالنساء، وهو ما ترجعه صليبا جزئياً إلى غياب قنوات صحّية للتفريغ العاطفي، بحيث يصبح الإدمان، في بعض الحالات، وسيلة للهروب من الألم أو تخفيفه مؤقتاً. وقد أظهرت دراسات متعددة، من بينها دراسة أجراها باحثون نمساويون، عن جود علاقة مباشرة بين كبت المشاعر، وعدم طلب الدعم، وزيادة احتمال الاعتماد على المواد المؤثّرة نفسياً.
الألم النفسي لا يبقى في العقل فقط. يقول أبي المنى: “التوتّر والكبت ينعكسان جسديًا. كثير من الأمراض مثل الروماتيزم أو الفيبروميالجيا تتفاقم بسبب الضغوط العاطفية”.
وترى صليبا أنّ زيادة الآلام الجسديّة غير المفسّرة عضوياً هي مؤشر على ارتفاع مستويات التوتّر والقلق. وتشرح: “التوتر قد يضعف المناعة، يؤثر على القلب، يسبّب اضطرابات النوم، أو الأكل، وكلّها أعراض مرتبطة بعدم القدرة على التعامل مع المشاعر”.
تختم صليبا: “جملة مثل: أنت رجل، لا تبكِ، تبدو بريئة، لكنها قد تصنع جرحاً داخلياً طويل الأمد. لا تمنع الطفل من الشعور، بل تعلّمه أن ينكر مشاعره ويخجل منها”. وتضيف: “حين نمنعه من التعبير، لا نجعل منه رجلاً قوياً، بل نحرمه من الراحة الداخليّة التي يحتاجها ليعيش بشكلٍ متوازن”.
- لماذا ارتفع عدد المُشخَّصين بالتوحد في الوقت الراهن؟
- كيف تساعدك البستنة على عيش حياة أفضل لفترة أطول؟
- هل هناك علاقة بين طعامنا وصحة أدمغتنا؟
- القلق: ما هو وكيف نكافحه؟
- نصائح تساعدك في التغلب على الأرق وتحسين جودة النوم
🛈 تنويه: موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً أو مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.