سعيّد يترشح رسمياً للانتخابات الرئاسية، والقضاء التونسي يحكم بالسجن على مرشحين محتملين

امرأة تونسية ترفع لافتة كتب عليها "لا للانفراد بالسلطة".

Getty Images
ينقسم الشارع التونسي بين من يرى قرارات الرئيس “انقلاباً على دستور الثورة” و”تكريساً لحكم فردي مطلق”، فيما يراها آخرون “تصحيحاً لمسار ثورة 2011″، التي أطاحت بنظام حكم زين العابدين بن علي.

قدّم الرئيس التونسي قيس سعيّد الاثنين ملف ترشحه للانتخابات الرئاسية المقرّرة في السادس من أكتوبر/تشرين الأول وسط انتقادات شديدة “للتضييق” على المرشحين المنافسين البارزين.

ونقلت وكالة رويترز أن محكمة تونسية قضت الاثنين بسجن أربعة مرشحين محتملين للانتخابات لمدة ثمانية أشهر، مع منعهم من الترشح مدى الحياة بتهمة “شراء تزكيات”.

وشمل الحكم السياسي البارز: عبد اللطيف المكي والناشط نزار الشعري والقاضي مراد مسعودي والمرشح عادل الدو.

وقال سعيّد من أمام مقرّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أنها “حرب تحرير وتقرير مصير وثورة حتى النصر في إطار المشروعية الشعبية وسننتصر من أجل تأسيس جمهورية جديدة”. وأضاف “لن نقبل بأن تدخل أي جهة أجنبية في اختيارات شعبنا”.

واشتكى مرشحون آخرون من “رفض بالجملة” إذ لم يتمكنوا من الحصول على ما يعرف “بالبطاقة عدد 3” وهي وثيقة تثبت السوابق العدلية للشخص وتمنحها وزارة الداخلية، كما أن الهيئة تشترطها لقبول ملف المرشح.

وردّا على الانتقادات بالتضييق على المرشحين وعدم تمكنهم من جمع تواقيع التزكيات، قال الرئيس التونسي “لم أضيّق على أحد ويطبق القانون على الجميع على قدم المساواة وأنا هنا مواطن لأقدم الترشح”.

وكانت اعتقالات طالت ناشطين وصحفيين ومحامين قد أثارت غضباً واسعاً في الشارع التونسي، كما تظاهر محامون ونشطاء من منظمات المجتمع المدني أمام قصر العدالة في العاصمة تونس الخميس 16 مايو/ أيار 2024، منددين بتراجع الحريات في البلاد ومرددين شعار “لا خوف لا رعب، السلطة في يد الشعب… حريات حريات دولة البوليس انتهت”.

فكيف وصلت الأزمة السياسية إلى هذا الحد، بين من يرى قرارات الرئيس المتعاقبة “تصحيحاً لمسار الثورة” ومن يراها “انقلاباً على الديمقراطية”، وكيف نفهم الوضع الراهن في البلاد قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة التي يكثر حولها الجدل؟

انتخابات حاسمة وسط أزمات سياسية متفاقمة

يختار التونسيون في الانتخابات المقبلة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، الرئيس الخامس للبلاد منذ ثورة عام 2011 التي أشعلت ما عرف بـ (الربيع العربي) في باقي الدول المحيطة.

وتأتي هذه الانتخابات في وقت تتأزم فيه الخلافات بين الرئاسة والمعارضة، إذ ثبّتت محكمة الاستئناف الجمعة 17 مايو/ أيار 2024 حكماً سابقاً- كان قد صدر في 19 فبراير/ شباط- يقضي بسجن راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة المعارضة لثلاث سنوات، في قضية تلقّي حزبه تمويلات أجنبية بشكل غير قانوني، كما أمرت المحكمة حزب النهضة بدفع غرامة قدرها مليون و170 ألفا و470 دولاراً.

كما أوقف نحو 40 شخصاً، بعضهم معارضون بارزون ورجال أعمال وناشطون سياسيون، موقوفين منذ شباط/فبراير، يتهمهم سعيّد بـ”التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي”. فيما توجه منظمات حقوقية تونسية ودولية انتقادات شديدة للنظام، مؤكدة أنه “يقمع الحريّات في البلاد”، لكن الرئيس التونسي لا ينفك يكرر بأن “الحريّات مضمونة”.

ولا تزال هناك شخصيات معارضة خلف القضبان مثل عصام الشابي وغازي الشواشي المتهمين بالتآمر على أمن الدولة، وقد أعلنا نيتهما الترشح للرئاسة لكنهما تراجعا لعدم السماح لهما بتوكيل ممثل شخصي لتقديم ملف الترشح.

وقدمت المعارضة ورئيسة “الحزب الدستوري الحرّ” الموقوفة عبير موسي ترشحها عن طريق أعضاء في حملتها.

أنصار قيس سعيد خلال تجمع انتخابي رئاسي في 11 أكتوبر/ تشرين أول 2019، في شارع الحبيب بورقيبة، في العاصمة التونسية.

Getty Images
أنصار قيس سعيد خلال تجمع انتخابي رئاسي في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، في شارع الحبيب بورقيبة، في العاصمة التونسية.

قيس سعيّد: أول رئيس مستقل للبلاد

وصل الأستاذ الجامعي في القانون الدستوري إلى السلطة بعد أن لفت أنظار الشباب التونسي بخوضه غمار الانتخابات مستقلاً مدعوماً بمجموعات من الطلبة والمتطوعين فقط، دون أي دعم مالي أو سياسي، حتى أنه رفض دعم الدولة الموجه للحملات الانتخابية عندما رشح نفسه، وحاز على نسبة 72.71 في المئة من الأصوات.

وحصد سعيّد آنذاك دعماً شبابياً واضحاً، خاصة بتبنيه شعارات ثورة عام 2011 ودعم مطالبها بقوة، فقد كان مناهضاً شرساً لنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ومنتقداً لإخفاقات الحكومات المتعاقبة منذ الثورة.

مهمة الرئيس الجديد لم تكن سهلةً أبداً، إذ شهدت ولايته خلافات متكررة مع البرلمان منذ أن اتخذ قراراً بفرض إجراءات استثنائية في يوليو/ تموز 2021 تضمنت حل مجلسي القضاء والنواب، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وإقرار دستور جديد عبر استفتاء شعبي، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.

إقالة رئيس الوزراء وتجميد عمل البرلمان

اتخذ الرئيس التونسي إجراءات مفاجئة في 25 يوليو/تموز 2021 بعد احتجاجات شعبية عنيفة في عدة مدن تونسية، أقال على إثرها رئيس الوزراء هشام المشيشي وجمد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن جميع نوابه، معلناً أنه سيتولى رئاسة السلطة التنفيذية مستنداً إلى “حالة طوارئ وطنية”، وبمساعدة رئيس وزراء جديد يقوم هو بتعيينه.

وكانت الخلافات قد اشتدت بين سعيد والمشيشي لأكثر من عام، بسبب الأزمة الاقتصادية وفشل الحكومة في مواجهة وباء كورونا، وتجمع المئات أمام البرلمان مرددين هتافات ضد حزب النهضة والمشيشي، مطالبين بحل البرلمان.

واعتبر راشد الغنوشي، رئيس مجلس النواب آنذاك ورئيس حركة النهضة، ما قام به سعيد “انقلاباً على الثورة والدستور”، وقال “نحن نعتبر أن المؤسسات لا تزال قائمة، وسيدافع أنصار النهضة والشعب التونسي عن الثورة”.

في حينها، انتشرت لقطات تظهر تدفق التونسيين إلى الشوارع احتفالاً بقرارات الرئيس، فيما قالت وكالة رويترز أن الجيش منع الغنوشي من دخول مبنى البرلمان. في الوقت الذي أكد فيه سعيد أن “أفعاله تتماشى مع الدستور”، وأن الدستور يسمح له بتعليق عمل البرلمان إذا كان هناك “خطر وشيك”.

وأعاد سعيد تمديد تعليق أعمال البرلمان لأجل غير مسمى، مع الإبقاء على رفع الحصانة عن كل أعضائه، بعد شهر واحد فقط من قراره الأول. ثم أعلن في سبتمبر/ أيلول 2021 “تدابير استثنائية” تعزز الصلاحيات التشريعية والتنفيذية للرئيس، وتتضمن تولي رئيس الجمهورية “إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي… على أن يتم إصدار القوانين ذات الصبغة التشريعية في شكل مراسيم يختمها رئيس الجمهورية”.

نجلاء بودن.

Getty Images
نجلاء بودن رمضان، أول امرأة تكلف بمنصب رئيسة وزراء في العالم العربي.

تعيين أول رئيسة وزراء لتولي الحكومة التونسية

كلف سعيّد الأستاذة الجامعية والمتخصصة في الجيولوجيا نجلاء بودن (63 عاما) بتشكيل الحكومة في 29 سبتمبر/ أيلول 2021.

وأعلن سعيّد في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، استمرار تجميد البرلمان حتى تنظيم انتخابات تشريعية جديدة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022.

حل المجلس الأعلى للقضاء

بقي المجلس الأعلى للقضاء حتى حله في 5 فبراير/ شباط 2022، الهيئة الدستورية المستقلة الوحيدة التي يمكنها فرض نفوذها بشكل مستقل عن الرئيس.

إلا أن الخلافات مع سعيّد اشتدت بعد أن اتهم عدداً من القضاة، بالحصول على أموال وممتلكات بالمليارات، قائلاً إن “هؤلاء مكانهم المكان الذي يقف فيه المتهمون” مضيفاً أنهم تأخروا بإصدار الأحكام في قضايا الفساد والإرهاب.

وجاء حل البرلمان بعد أن تجمع المئات خارج مبنى المجلس الأعلى للقضاء احتجاجاً على المجلس، فيما رفع بعضهم لافتة تقول “اللعبة قد انتهت.. الشعب يريد تطهير القضاء”.

ورفض المجلس آنذاك قرار الرئيس و”المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية”، ووصف قرارات الرئيس بأنها “إهدار مفاجئ لكافة ضمانات استقلالية القضاء وتقويض واضح للدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية المصادق عليها”.

بعدها بأيام وقع سعيّد مرسوم استحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، ومنح نفسه صلاحية طلب إعفاء كل قاضٍ يخلّ بواجباته المهنية، ومنع القضاة من الإضراب عن العمل.

راشد الغنوشي.

BBC
كان راشد الغنوشي سجيناً سياسياً وعاش خارج البلاد قبل ثورة 2011 وكان رئيساً للبرلمان منذ انتخابات 2019 حتى علّق سعيّد عمل البرلمان في 2021.

البرلمان المجمد حاول استكمال أعماله، قبل أن يعلن الرئيس حلّه رسمياً

بدأ البرلمان المجمد في مارس/ آذار 2022 بمحاولات عقد جلسات رغم قرار التعليق، الأمر الذي علّق عليه سعيّد مؤكداً بأن المجلس مجمد، وأن أي قرار يتخذه “خارج التاريخ والجغرافيا”.

في نهاية الشهر ذاته، أقر البرلمان في جلسة عامة افتراضية، قانوناً يلغي كل إجراءات الرئيس الاستثنائية، ليرد سعيد في كلمة متلفزة “بناء على الفصل 72 من الدستور، أعلن اليوم في هذه اللحظة التاريخية حل المجلس النيابي، حفاظاً على الشعب ومؤسسات الدولة”.

رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس فاروق بوعسكر.

EPA
رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، فاروق بوعسكر، أعلن تأييد أكثر من 94.60 في المئة لمشروع الدستور الجديد للبلاد.

استفتاء شعبي لدستور جديد

طرح سعيد في يوليو/ تموز 2022 تصويتاً على استفتاء حول مشروع دستور جديد يمنح صلاحيات واسعة للرئيس، وأعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، تأييد أكثر من 94.60 في المئة لمشروع الدستور الجديد للبلاد.

وقالت الهيئة إن عملية الاستفتاء جرت “تحت أنظار العالم”، وأن عدد المراقبين المحليين والأجانب وصل إلى 5800.

وبحسب الإعلان فقد صوّت 2.6 مليون ناخب بـ”نعم”، بينما رفض الدستور 148 ألف تونسي صوتوا بـ”لا” أي بنسبة 5.40 في المئة، وسجلت 56 ألف ورقة ملغاة.

المعارضة التونسية استبقت النتائج واتهمت الهيئة بالتزوير. ودعت جبهة الخلاص الوطني الرئيس للرحيل وفتح المجال أمام انتخابات عامّة مبكّرة.

واعتبر رئيس الجبهة نجيب الشابي، خلال مؤتمر صحفي، أنّ الاستفتاء على الدستور باء بالفشل، بعد اقتصار نسبة المشاركة على نحو 28 في المئة، حسب أرقام أوّلية لهيئة الانتخابات.

انتخابات تشريعية جديدة بمشاركة ضعيفة وجدل كبير

خاض التونسيون انتخابات تشريعية جديدة في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2022 وبداية يناير/ كانون الثاني 2023، وفق القانون الجديد، بدلاً من القانون الانتخابي لعام 2014.

وقلّص القانون الجديد العدد الإجمالي لمقاعد البرلمان إلى 161 مقعداً (كان عددها 217)، منها 151 للداخل، و10 مقاعد للدوائر الانتخابية في الخارج.

وبموجب القانون انتخب التونسيون مرشحيهم على أساس فردي بدلاً من اختيار قائمة حزبية واحدة، الأمر الذي قلّص دور الأحزاب السياسية في البرلمان.

وأثارت الانتخابات جدلاً واسعاً إذ جرت على مرحلتين ولم تتجاوز نسبة المشاركة فيهما على التوالي 11.2 و11.4 في المئة. وجُرد البرلمان الجديد من أغلب صلاحياته بموجب الدستور الجديد، ما دفع أغلب أحزاب المعارضة إلى الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات.

كما منع الصحفيون المحليون ووسائل الإعلام الدولية من حضور الجلسة الأولى للبرلمان، والتي عقدت في مارس/ آذار 2023، الأمر الذي قوبل بإدانةٍ شديدةٍ من نقابة الصحفيين التونسية والتي اعتبرت المنع “سابقة خطيرة” تصادر حقاً مكفولاً بالدستور والتشريعات التونسية، وتفتح الباب على مصراعيه أمام سياسات التعتيم وتكميم الأفواه بحسب ما جاء في بيان النقابة.

وشنت القوات الأمنية التونسية حملة اعتقالات قبل وبالتزامن مع تلك الانتخابات، شملت قيادات حزبية وقضاة وإعلاميين ورجال أعمال، الأمر الذي علق عليه سعيد بأن المعتقلين “متورطون في التآمر على أمن الدولة، ويقفون وراء الأزمات المتصلة بتوزيع السلع ورفع الأسعار”.

كما أوقف الغنوشي (82 عاما) في 17 أبريل/ نيسان 2023 بعد إعلانه أن تونس ستكون مهددة بـ”حرب أهلية” إذا تم القضاء على الأحزاب اليسارية، أو تلك الإسلامية مثل حزبه.

وكان قد حكم عليه في 15 أيار/مايو 2023، بالسجن لمدة سنة بعد إدانته بتهمة “تمجيد الإرهاب” في قضية أخرى، وتم تشديد الحكم عند الاستئناف في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى 15 شهراً.

الرئيس التونسي قيس سعيد يصافح رئيس الوزراء المكلف أحمد الحشاني.

Getty Images
شغل أحمد الحشاني منصب مدير الموارد البشرية السابق في البنك المركزي التونسي وهو خبير قانوني، تخرج في كلية الحقوق السياسية والاقتصادية بتونس كما حصل على درجة الماجستير عام 1983.

رئيس وزراء جديد لمواجهة الأزمة الاقتصادية

في أغسطس/ آب 2023 كلف الرئيس سعيّد، أحمد الحشاني، مدير البنك المركزي التونسي، بتشكيل حكومة جديدة خلفاً لنجلاء بودن وسط استمرار الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد.

الحشاني لم يسبق له أن عمل في الحقل السياسي ولا ينتمي إلى أي حزب. ورجح البعض أن الحشاني كلّف بهذا المنصب بسبب خبراته في الاقتصاد والشؤون المالية.

وفي بداية هذا العام، عين سعيّد ثلاثة وزراء وثلاثة كتاب دولة جدداً في الحكومة التي يقودها أحمد الحشاني، وشملت التعيينات حقائب وزارية تتعلق بمجالات الاقتصاد والصناعة والطاقة والتشغيل. كما أجرى سعيد في مايو/ أيار 2024 تعديلاً وزارياً مفاجئاً أقال فيه وزيرَي الداخليّة والشؤون الاجتماعية، قبيل الانتخابات الرئاسية، واستحدث منصب كاتب دولة لدى وزارة الداخلية.

وبلغت نسبة النمو الاقتصادي في تونس حوالى 1.3% خلال عام 2023، فيما وصلت نسبة البطالة إلى 16في المئة. وكانت البلاد قد توصلت إلى اتفاق أوّلي مع صندوق النقد الدولي نهاية العام 2022 للحصول على قرض وضخ ملياري دولار في اقتصادها، لكن المفاوضات تعثرت عندما رفض الرئيس الإصلاحات التي أوصى بها الصندوق.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.