تونس بين الصدمة والبحث عن حلّ لمحنة المهاجرين في صفاقس

مهاجرون يبحرون على متن قارب من تونس

Reuters
مهاجرون يبحرون على متن قارب رصدهم خفر السواحل التونسي أثناء محاولتهم العبور إلى إيطاليا قبالة سواحل صفاقس (صورة أرشيفية)

ما إن وطأت قدماي صفاقس حتّى شعرتُ بأنّ ثمّة شيئا ما قد انكسر في المدينة. فالصور التي انتشرت كالنار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي تُظهر مشاهد لم تعهدها المدينة ولا البلاد.

غداة مقتل مواطن تونسي، الإثنين الماضي، على يد مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء، انطلق العشرات للتهجّم على المنازل وسلب أموال سكّانها وإخراجهم عنوة إلى الشارع، رافعين مطلب ترحيلهم الفوري.

وتقول لويز فالون، وهي مهاجرة من ساحل العاج، إنّ المعتدين سحبوها من منزلها وهي عارية تماما، قبل أن تتدخّل جارتها التونسية لتغطّيها، “نحتاج للحماية. لقد عشنا كابوسا حقيقيا”، كما روت لي وهي تحمل رضيعها على ظهرها.

وقال مصدر طبّي إنّ خمسة وعشرين شخصا، على الأقلّ، أصيبوا في تلك الليلة.

مصير مجهول

ومع موجة حرارة شديدة تجتاح البلاد، تفترش لويز ومئات المهاجرين الآخرين الأرض، في حديقة تتوسّط صفاقس، بعد أن تقطّعت بهم السبل.

وتقول ميريام، وهي مهاجرة من سييراليون، إنّها فقدت الأمل في أن تبلغ السواحل الإيطالية، انطلاقا من تونس، وتضيف: “أريد أن أعود إلى بلادي”.

ووصلت ميريام وعشرات آخرين من سييراليون إلى تونس، قبل أشهر، بعد رحلة مضنية، قادتها إلى غينيا فمالي ثمّ الجزائر.

وتتذكر قائلة: “مات كثيرون في هذه الرحلة”.

وغادر العشرات من المهاجرين صفاقس على القطارات وحتّى مشيا على الأقدام، بينما دُفع بآخرين إلى مناطق خطرة على الحدود التونسية مع الجزائر وليبيا.

وطالبت منظّمة هيومن رايتس ووتش السلطات التونسية بـ”وقف عمليات الطرد الجماعي والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل عاجل إلى المهاجرين”.

مهاجرون في صفاقس

Reuters
مهاجرون يتجمعون في محطة القطار بعد مقتل مواطن تونسي خلال اشتباكات مع مهاجرين في صفاقس

“بيئة طاردة للمهاجرين”

وقال الرئيس التونسي، قيس سعيد، السبت، إنّ المهاجرين يتلقّون “معاملة إنسانيّة نابعة من قيمنا ومن شيمنا”، متّهما “دوائر استعماريّة وعملاءها” بترويج عكس ذلك.

لكنّ منظّمات محلّية، من بينها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، اتّهمت السلطات التونسية بـ “خلق بيئة طاردة للمهاجرين”.

ويقول المتحدث باسم المنتدى، رمضان بن عمر، لبي بي سي: “الخطاب الرسمي يتنكّر لحقيقة ما حصل في صفاقس”، مشدّدا على ضرورة أن “يعبّر سعيد عن تضامن إنساني صريح “لخفض حدّة الاحتقان”.

وحذّر بن عمر من اللجوء إلي تشريعات قديمة، يعود بعضها إلى العهد الملكي قبل عام 1957، لتجريم أشكال عدّة من الإغاثة.

واتّهمت المعارضة التونسية سعيد بـ “العنصرية”، حين قال، في فبراير/شباط الماضي، إنّ هناك “مخطّطا إجراميّا لتغيير الديمغرافيا التونسيّة”، في إشارة منه للمهاجرين المنحدرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء.

ويردّد الرئيس التونسي أنّ هناك، أيضا، خطّة لتوطين المهاجرين في بلاده، وهو الذي يقول إنّ “تونس لن تكون حارسة لحدود الاتّحاد الأوروبي”.

جهود إغاثية محدودة

وبات المهاجرون المتجمّعون، وسط صفاقس، يقتاتون من الأكل والشرب وما يقدّمه لهم متطوّعون في المدينة.

وحسب ياسين عمامي، وهو بائع نظّارات دأب على تزويد المهاجرين بوجبات يوميّة: “ما حصل في المدينة مُخز، بكلّ المقاييس”.

ويتساءل عمامي عن سبب تأخّر جهود الإغاثة ومحدوديتها بالنظر إلى حجم الكارثة: “لقد عرف كثير من التونسيين نفس المصير في دول أوروبيّة عدّة، لكنّ التعامل معهم كان أكثر آدميّة”.

وأشار المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، رمضان بن عمر، إلى أنّ هناك مخاوف لدى كثير من أهالي صفاقس من ردّة فعل مجموعات مناهضة للمهاجرين، في حال قدّموا لهم أيّ شكل من أشكال المساعدة.

وتأكيدا لكلام بن عمر، فقد التقيت صدفة سائق تاكسي، بالقرب من حديقة الطفل والمرأة، في وسط المدينة، أخبرني أنّه يأوي في بيته عددا من المهاجرين.

وبعد الاتّفاق معه على التصوير، اتّصل بي معتذرا قائلا: “أخشى أن ألاحَق بعد إذاعة اللقاء”.

مهاجرون في ميناء صفاقس

Reuters
مهاجرون ينتظرون في ميناء صفاقس بعد أن أوقفهم خفر السواحل التونسي في البحر أثناء محاولتهم العبور إلى إيطاليا

“موجة متوقّعة”

ولئن كانت حالة الانكسار بادية على ملامح كثير من أهالي المدينة، فإنّ ناشطين كانوا يتوقّعون الوصول إلى نقطة اللاعودة.

ففي منطقة باب البحر التاريخية، في صفاقس، التقيت الناشطة، مريم البريبري، في محلّ لها لبيع الملابس الأمازيغيّة، وتقول: “كنتُ أطالع، يوميّا، تدوينات وتسجيلات على شبكات التواصل الاجتماعي تدعو إلى العنف وتحضّ على الكراهيّة”، مضيفة: “كنت أتوقّع الانفجار”.

وذكّرت البريبري بأنّ موجة العنف التي شهدتها صفاقس غداة تصريحات سعيد، في فبراير/شباط الماضي، لم تؤخذ بجدّية، وقالت: “في تلك الموجة، سجّلنا اعتداءات وهجمات استهدفت مهاجرين وسودا تونسيين لكنّ الإفلات من العقاب كان سيّد الموقف”.

ونفى زياد الملّولي، وهو أحد القائمين على صفحة يتابعها أكثر من 190 ألف شخص، اتّهامه بالتحريض على المهاجرين.

وفي مكتبه، بطريق العين، شمال شرقي صفاقس، حيث اعتاد التوجّه لمتابعيه بشكل يوميّ، يقول الملّولي إنّه “كان يرفض كلّ أشكال الشحن ضدّ المهاجرين”.

وأضاف أنّه كان “يرفض مجرّد فكرة الحديث عن الاستيطان”، لكنّ صورا على حسابه الشخصي تُظهر مشاركين في مسيرة، في صفاقس، دعا إليها، قبل أسابيع، وهم يرفعون لافتة كُتب عليها “لا استيطان ولا توطين في تونس”.

“حلّ إنساني”

واتّهم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة وكالات الأمم المتّحدة التي تُعنى بشؤون اللاجئين والهجرة بالتقاعس عن القيام بواجباتها.

وذكر المتحدّث باسم المنتدى، رمضان بن عمر، أنّ على تلك الوكالات “توفير الحماية الضروريّة للمهاجرين”، محذّرا من أنّ أولئك الذين دُفع بهم إلى الحدود التونسيّة مع ليبيا والجزائر سيعودون حتما، وبشكل قسري، بالنظر إلى انعدام أيّ ظروف ملائمة تتيح لهم البقاء هناك.

ودعا بن عمر الرئيس التونسي، قيس سعيد، إلى مقاطعة مؤتمر أوروبي أفريقي عن الهجرة، من المقرّر أن تنظّمه إيطاليا، في 23 يوليو/تموز الجاري.

وشهدت العلاقات بين تونس وروما دفئا غير مسبوق، بل ذهبت حكومة جورجيا ميلوني إلى حدّ الدعاية للجانب التونسي لتمكينه من الحصول على قرض حيويّ بـ 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.

وبدأ ناشطون حملات لجمع التبّرعات، مع توقّعات بأن تتواصل محنة المهاجرين، في ظلّ انعدام أيّ رؤية من الحكومة التونسيّة للتوصّل إلى حلّ يصون كرامتهم.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.