طوائف لبنان: المذاهب والأحزاب والهويات القاتلة

قيل الكثير في لبنان عن “وزارة الشيعة” خلال الأسابيع الماضية، في إطار السجال بين الأطراف السياسية على تشكيل حكومة مصطفى أديب.

وتقاذف الخصوم السياسيون مسؤولية فشل مهمّة أديب في تأليف حكومة، بين من حمّل المسؤولية لتعنّت الحزبين الشيعيين المتحالفين، “حركة أمل” و”حزب الله”، وبين من ألقاها على عاتق رغبة رؤساء الحكومات السابقين، من الطائفة السنيّة، بالسيطرة على قرارات الرئيس المكلّف.

هذا أمرٌ عاديّ في لبنان. غالباً، تُعرقل المسارات السياسية إكراماً للتوازن المعنوي بين الطوائف وقادتها، وحفاظاً على مصالح الأحزاب والزعامات صاحبة التمثيل الأقوى فيها.

لم يطو لبنان صفحة المواجهات المذهبية بعد انتهاء الحرب الأهليّة، اذ شهدت البلاد خلال السلم فترات دامية من الاقتتال، بموازاة مواجهات ناعمة في البرلمان والحكومة، حول حصص الطوائف.

قد يعطّل البلد لأشهر بسبب خلاف على تقاسم الحصص في الحكومة، أو على تمثيل الطوائف في القانون الانتخابي، أو حتى على طائفة مدير عام. وقد لا يتردّد رجل دين في تأييد موظّف كبير علناً، رغم شبهات الفساد حوله، لأنّه من “حصّة” طائفته.

وفي السنوات القليلة الماضية، حمل اللبنانيّون معاركهم المذهبية إلى مواقع التواصل التي باتت تفيض بخطاب الكراهية. فمن خلف حسابات تويتر، قد يتجرأ البعض في التعبير عن أفكار يجدون حرجاً في التعبير عنها صراحةً خارج الفضاء الافتراضي.

وبعد تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب الماضي، ظهرت السردية الطائفية المواكبة له على الفور: تحديد طوائف القتلى، وطوائف سكان المناطق المتضررة، لتحديد مستوى التعاطف وشكله.

يومها، وفي سياق الحديث عن الصدمة الجماعية، سألت بي بي سي المعالجة النفسية المختصة بالصدمات آلاء حجازي، عن السبب النفسي لظهور تلك السرديات المتناحرة. قالت لنا إنّ الطوائف اللبنانية تتنافس في إبراز “المظلومية”، ويزيد ذلك مع حاجة كلّ فئة إلى تصديقٍ على آلامها وحدادها، وحين لا تحصل عليه، يتفاقم شعورها بالمظلوميّة.

يحدث ذلك كلّه على وقع شعارات التعايش، والحوار بين الأديان، والمفاخرة بالتنوّع اللبناني في الإعلام. لكن في الواقع، إلى أي مدى ينازع اللبنانيون بعضهم البعض بسبب الدين أو الطائفة حقاً؟ وهل المشكلة في تعصّب الأفراد لهوياتهم الدينية، أم في مكان آخر؟

الحزب الطائفة

تدرس أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت ريما ماجد الطوائف، وترى أنّ “جزءاً قليلاً من الشعب اللبناني طائفي بمعنى أنه يواجه الآخر على أساس ديني. فالطائفية لا تعني بالضرورة تعصباً دينياً، بل ولاءً سياسياً وأيديولوجياً”.

ترجع الباحثة ذلك الولاء إلى خطاب سياسي، فرض تماهياً بين المجموعة الدينية، وزعاماتها السياسية. هكذا، صارت الطائفة والحزب، تمثيلاً لهويّة واحدة، و”تلك أداة تستخدم في الأنظمة المبنية على التمييز كافة”.

برأي ريما ماجد، فإنّ “تطييف” ردود الفعل على تفجير المرفأ ليس استثنائياً، لأنّ “التطييف عبارة عن عمليّة طويلة، متواصلة منذ عقود، في خطاب الزعماء، وقد باتت جزءاً من مخيّلة الناس السياسية اليومية. فاللغة الطائفية قابلة للتبسيط، وهي لغة حمالة أوجه ويقصد بها أكثر من التعريف الطائفي المباشر. هكذا، لا نلحظ خلطاً بين الطائفة والحزب فقط، بل دمجاً بين الطبقة والطائفة والمنطقة والطائفة. وهذا ما يلجأ اليه السياسيون للتعبئة”.

“وهم” التعايش؟

في خريف العام الماضي، نزل عشرات آلاف اللبنانيين إلى الشارع، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية. يومها، وصفت التظاهرات بأنها عابرة للطوائف، وتمرّد على إرث الحرب الطائفية الثقيل. لكن سرعان ما تسلّل الخطاب الطائفي إلى المشهد. فهل كانت صورة التلاحم تلك لحظة حقيقة خاطفة، أم وهماً؟

بحسب ريما ماجد، فإنّ “الهويات متحركة ومتبدلة وغير ثابتة، ولا يمكننا القول إن ما حدث خلال ثورة تشرين وهم، بل كان هناك جوّ عام سهّل بروز خطاب مناهض للطائفية. وكما حصل مع تفجير المرفأ، كذلك طُيّفت الثورة، والثورة المضادة. على سبيل المثال، حين نزل جزء من جمهور الأحزاب الطائفية إلى الشارع، ورفع علم لبنان، اعتبرنا ذلك مظهراً وطنياً جامعاً، لكنّ ذلك ليس دقيقاً، لأن الوطنية يمكن أن تكون في بعض الأحيان، الوجه الآخر للطائفية، خصوصاً أن القومية اللبنانية أخذت بعداً طائفياً في حقبة تاريخية معيّنة”.

وتضيف: “من المؤكد أن المجتمع محكوم ببنية طائفية، خلقت تماهياً بين الطائفة والحزب، ولكن هذا التماهي يتغيّر، وليس ضرورياً أن تكون حركة الناس في الشارع محكومة بثنائية طائفي وغير طائفي، ممكن أن يشارك أحد في التظاهرات ضد زعيم طائفته، لكنه يرفض الزواج من طائفة ثانية مثلاً”.

جوهر الدستور مدني

قد يحمل تطييف الخطاب السياسي التباسات عدّة، خصوصاً مع محاولة كلّ طرف قولبة الحقيقة لصالحه. ولكن بعيداً عن السجالات الكلامية، ماذا يقول الدستور؟ هل يحقّ لطائفة ما أن تستأثر بمنصب أو وزارة؟

بحسب أستاذ القانون الدستوري في “جامعة القديس يوسف” وسام اللحّام، فإنّ إشارة الدستور إلى دور الطوائف في النظام السياسي مقتضبة وواضحة: “يشير الدستور إلى المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب، على أن توزّع المقاعد نسبياً بين طوائف كلّ من الفئتين. وبحسب المادة 95، تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الحكومة. لاحقاً أضيف إلى الدستور مادة تتعلق بتوزيع وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، من دون تخصيص أي وظيفة لأي فئة”.

خارج هذه المواد، لا نصوص تشير إلى تخصيص المناصب للطوائف، في حين أنّ تقسيم الرئاسات الثلاثة على الموارنة والسنة والشيعة، عرف دستوري.

يعطي الدستور أيضاً “لكلّ طائفة الحق بإدارة أحوالها الشخصية، ويعطي قانون المجلس الدستوري الحقّ لرؤساء الطوائف بأنّ يطعنوا بالقوانين المتعلقة بحرية المعتقد، والأحوال الشخصية”، بحسب اللحّام.

يرى وسام اللحّام أنّ المشكلة ليست في النصّ الدستوري بحدّ ذاته، بل في “اسقاط الزعماء للطابع الطائفي على معاركهم السياسية، لتبرير مصالحهم. علماً أن الدستور يمنع تخصيص أيّ وظيفة لأي طائفة، وذلك ما لا يطبّق. آخر فقرة في مقدّمة الدستور تشير إلى أنّه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، من دون تحديد ماهية هذا الميثاق بشكل واضح. يفسر بأنّه “حفظ للتوازن بين الطوائف”، من دون أي معنى عملي”.

طائفة الحقّ العام

يتبنّى وسام اللحّام مقاربة نقديّة لتلاعب السلطة السياسية بالدستور، فهو يرى أنّ المطالبة بدولة مدنيّة، “أشبه بالخديعة، لأنّ الدستور أساساً مدنيّ، فوجود الطوائف لا يعني أنّ الدولة غير مدنيّة، فهي التي تصدر القوانين التي تحدّد صلاحيات الطوائف. مثلاً، في التسعينيات، سمحت الدولة بإضافة الطائفة القبطية الأرثوذكسية إلى الطوائف الموجودة في لبنان. كما أن القانون يسمح بوجود مواطنين من طائفة، ويسمح أيضاً بتأسيس طائفة جديدة اسمها طائفة الحق العام”.

برأيه، فإنّ هناك سوء فهم لطبيعة الدستور، بسبب “منظومة الزعامة التي كرّست أعرافاً وممارسات زبائنية لحماية مصالحها، متذرعةً بقوانين وحجج دستورية غير موجودة”.

ويقول: “بحسب الدستور، الدولة في لبنان مدنية، لأن السيادة للشعب، وكلّ التشريعات وضعية، وليست دينية. حتى قوانين الأحوال الشخصية تحصل على موافقة مجلس النواب. النظام اللبناني مؤسساتي قانوني يؤمّن تمثيل الطوائف، وذلك موجود في دول كثيرة في العالم، تحت أسماء أخرى، كما في بلجيكا مثلاً. المشكلة لدينا بأنّ الزعماء يضعون ذرائع طائفية لسطوتهم السياسية”.

حسناً، هل يعني ذلك أنّ مشكلة الطائفية في لبنان يمكن أن تحلّ وتختفي، إن سقط نظام الزعماء الطائفيين؟ الإجابة قد تكون معقّدة، إن عدنا إلى تاريخ نشأة لبنان، قبل مئة عام، بقرار فرنسي.

أساطير تاريخية

في كتابه “بيت بمنازل كثيرة”، يسرد المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي، قصة نشأة لبنان، ويفكّك الأساطير التاريخية التي يتنازع عليها اللبنانيون، بحسب طوائفهم. يوضح السياق التاريخي الذي مهّد لنشأة ما عرف بـ”الميثاق الوطني” الضامن لحقوق الموارنة، بوصفهم الطائفة التي خاضت معركة تأسيس لبنان. بينما وجدت الطوائف الأخرى، أنّها ألحقت جغرافياً بجبل لبنان، بما يتناقض مع تاريخها وامتداداتها في المنطقة.

استناداً إلى الوقائع التاريخية، يظهر الصليبي تأثير مصالح الجماعات الطائفية ذات البنية العشائرية، في بعض الأساطير المصاحبة لنشأة لبنان، مفنداً دقّتها التاريخية. فالموارنة رسموا لبنان كوريث لفينيقيا، بينما تبنّى المسلمون خطاب القومية العربيّة العلماني في ظاهره، كوسيلة لمواجهة السطوة المارونية.

يعدّ المؤرّخ والأستاذ الجامعي اللبناني أسامة مقدسي من أبرز من كتبوا عن نشأة الطائفية في لبنان والمنطقة، خصوصاً في كتابيه “ثقافة الطائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني”، و”عصر العيش المشترك: الإطار المُوحد وتشكل العالم العربي الحديث”.

مرّ أكثر من عشرين عاماً على اصدار مقدسي كتابه “ثقافة الطائفية”، ولا تزال المعضلة قائمة، لا بل أنّها أخذت في لبنان، مع الانهيار المالي، بعداً ديستوبياً .

يقول مقدسي لـ”بي بي سي” إنّ “الوضع الحالي بائس ولكنه كان متوقعاً، فمنذ البداية، كان النظام الطائفي الذي شُكّل في البلاد مليئاً بالعيوب، وقد أعطى الأولوية للجماعات الطائفية على حساب المواطنين، ما منح تلك الجماعات حضوراً مادياً. لا يخطئ منتقدو النظام الطائفي حين يصفونه بالمرض السرطاني، لأنّه خبيث بمعنى أنّه لم يكن يوماً يهدف إلى المساواة، بل إلى التوزيع غير المتكافئ للموارد والامتيازات ما صبّ في مصلحة الأوليغارشية الحاكمة العابرة للطوائف”.

إرث القرن التاسع عشر

برأي أسامة مقدسي، لا يتعلّق الأمر بكونك مسيحياً أو مسلماً، فالجميع تعرّضوا للخداع والتدمير. “كل السرديات الطائفية انعزالية، وشوفينية، ولا تستند على حقائق تاريخية موثّقة. لم تكن المشكلة في التعددية الدينية قط، بل في تطييف تلك التعددية، إلى جانب فساد النخبة النيوليبرالية الحاكمة”.

يوضح المؤرخ والأستاذ الجامعي أنّ الطائفية مفهوم حديث، بعكس الاعتقاد السائد أنها عادات وسلوكيات تعود إلى قديم الأزمان.

صحيح أنّ تاريخ المنطقة شهد صراعات مذهبية أو دينية خلال فترات متفرقة منذ القدم، لكنّها لم تأخذ بعداً سياسياً راسخاً إلا في القرن التاسع عشر، بفعل التغييرات في السلطنة العثمانية، ودور ما سمّي حينها بـ”التنظيمات”، أي قوانين تحديث السلطنة، بفعل التأثيرات الأوروبية، وضغطها نحو الحداثة.

في ذلك الوقت، رأى الرعايا المسلمون الحديث عن المساواة اعتداءً على امتيازاتهم، وهجمة من الإرساليات الغربية، وترويجاً لفكرة أن الإسلام غير موائم للحداثة. بموازاة ذلك، تحوّل مصير المسيحيين في الشرق الى ذريعة للتدخل الأوروبي.

بحسب مقدسي، هناك دوماً سرديتان نقيضتان لشرح الطائفية تاريخياً، الأولى تظهر العرب في مناطق حكم السلطنة العثمانية كشعوب عنيفة متوحشة تخوض حروباً دينية، والثانية سردية وردية عن تعايش كامل وتصالح تام، وكلتاهما لا تتمتّعان بالدقّة التاريخية.

ويرى مقدسي أنّ الطائفية كانت أشبه بالفرضية المعاكسة للسرديات القومية الصاعدة في تلك الحقبة، حين كانت فكرة الدولة الأمة تمثّل الحداثة. في الحقبة ذاتها، فرضت السردية الاستعمارية مقاربة الاختلافات الطائفية كأنها نوع من الهمجية، وبأنّ الشعوب في المنطقة غير قادرة على إدارة تنوعها، وتحتاج إلى وساطة خارجية لتتوافق وتتعايش.

يقول مقدسي: “الطائفية جزء من إرث الاستعمار، فكما سعت فرنسا بكل ما أوتيت من قوة للفصل بين المسيحيين والمسلمين، كذلك فعلت بريطانيا بسعيها الحثيث للفصل بين العرب واليهود. تلك السياسات الاستعمارية ما زالت تلحق ضرراً بنا، ولا زلنا مأسورين بإرثها”.

رغم وجود شعور طائفي وانقسامي عام، إلا أنّ الهويّة الطائفية من أساطير اللبنانيين حول هويتهم. ويقول أسامة مقدسي: “الوصول إلى شعور جماعي ليس مستحيلاً، لكنّه يتطلّب عملاً هائلاً، تماماً كما أنّ الهويات الطائفية المختلف عليها لا تتجدّد بطريقة سحرية، بل هي نتاج جهود هائلة في التعليم والتعبئة”.

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.