حمّى ترند “6 – 7”: الضحك في زمن “تعفّن الدماغ”
إذا كان لديكم أطفال، أو كنتم محاطين بالأطفال، أو ببساطة من ذوي الحضور الدائم على الإنترنت، فغالباً ما تكونون قد سمعتم، ولو مرة واحدة، عبارة: “6 – 7” (سيكس سيفن)، التي تترافق عادةً مع حركة يدين تشير إلى شيءٍ تقريبي.
عبارة قصيرة – بل رقمان متتاليان – لا تقول شيئاً واضحاً، لكنها تحوّلت، قبل نحو شهرين، تحديداً قبيل عيد الهالووين، إلى “ميم” واسع الانتشار، سرعان ما أصبح حاضراً في كل مكان.
على تيك توك وإنستغرام، في أحاديث الأطفال والمراهقين، وحتى في حملات تسويقية تبنّتها علامات تجارية ومتاجر، سعياً لمحاكاة لغة جيل ألفا وجيل زد (جيل زد يضم مواليد أواخر التسعينيات وبداية العقد الثاني من الألفية، وجيل ألفا يضم مواليد ما بعد 2010)، اللذين يشكّلان الحاضنة الأساسية لهذه الظاهرة: نسمع “6 – 7” بنبرةٍ وحركة يد موحّدة.
وصل الأمر إلى حدّ أنّ محرّك بحث غوغل نفسه، حين يُسأل عن هذه الميم، يهزّ الشاشة في محاكاة لحركة اليدين المرافقة لنطق العبارة، كتحية أو إيماءة من العملاق الأمريكي للترند الشهير.
وإذا كنتم تتساءلون أيضاً عن معنى هذا الترند، فإنّ هذا المقال (أيضاً) لن يقدّم إجابة كاملة وشافية لهذا السؤال. لكنه سيحاول فهم الظاهرة من زوايا أخرى.
ثمّة نظرية متداولة حول مصدر العبارة، لكن لا شيء يؤكّد فعلاً أنها نقطة البداية الفعلية.
تقول هذه الرواية إنّ العبارة تعود إلى أغنية راب بعنوان “Doot Doot (6 7)” للمغنّي الأمريكي سكريلا، والتي اكتسبت رواجاً من خلال مقاطع مونتاج تضم لاعبي كرة سلة محترفين، ولا سيما لاميلو بول، الذي يبلغ طوله ستة أقدام وسبع بوصات (نحو 2.01 متر).
لاحقاً، ساهم لاعب دوري “أوفرتايم إيليت” في مدينة آتلانتا تايلن كيني، في تعزيز انتشار الميم عبر تكراره المستمر للعبارة.
غير أنّ اللحظة التي يعتبرها كثيرون الشرارة الحاسمة لتحويلها إلى ما يشبه “وباءً رقمياً” جاءت في مارس/آذار الماضي، مع انتشار مقطع فيديو قصير لطفل أمريكي يُدعى مافريك تريفيليان، عُرف لاحقاً بلقب “طفل 6 – 7”.
يظهر في الفيديو وهو يصرخ بالعبارة خلال مباراة كرة سلة، مرفقاً ذلك بإيماءة يد سرعان ما أصبحت علامة ملازمة لها.
هل هذا كل ما في الأمر؟ أليس هناك معنىً “أعمق” لهذه الحمّى إذاً؟
لا، وغياب المعنى هذا هو بالضبط المعنى هنا.
أنا أعرف النكتة، إذاً أنا موجود
يمكن القول إنّ ترند “6 -7 ” هو تجسيد مثالي للفكاهة السائدة لدى جيلَيْ زد وألفا.
فتحوُّل هذه الميم إلى حركة يؤدّيها الأطفال والمراهقون في أنحاء العالم يكشف بوضوح التحوّلات التي طرأت على شكل الكوميديا لدى هذه الفئات.
العبارة لا تحمل نكتة بالمعنى التقليدي، ولا تحيل إلى قصة، ولا تقوم على مفارقة ذكية أو إحالة ثقافية واضحة. ومع ذلك، يضحك هؤلاء، ويعيدون استخدامها، ويستمدّون متعة من تداولها.
ما يهمّ هنا ليس المعنى أو الدلالة الكامنة خلف النكتة، بل شيء آخر تماماً: الانتماء.
مالك تطبيق تيك توك يوقّع صفقة مع شركات عالمية، من بينها شركة إماراتية، لتجنب الحظر الأمريكي
هل تستطيع منع طفلك من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؟
7 طرق كي لا يتحوّل تدريس الأطفال إلى حرب يومية
كيف تواجه الأسر العربية إفراط أطفالها في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؟
تبدو هذه الميم وكأنها تكتفي بوظيفتها الحرفية التي يشير إليها اسمها: مادة تتناسخ وتنتشر كالعدوى، لا أكثر.
ليست رسالة تُفهم، بل إيماءة سريعة تقول: “أنا هنا، معكم، في اللحظة نفسها”.
وفي هذا النوع من الفكاهة، لا يعود السؤال المطروح: “هل هذا مضحك؟”، بل: “هل أنت من الذين يعرفون؟”.
الميم لا تسعى إلى إضحاك المتلقّي بقدر ما تختبر حضوره، وتوقيته، ومكانه داخل الجماعة الرقمية.
في المقابل، يبدو عجز الأجيال الأكبر – من الميلينيالز إلى جيل إكس والبومرز – عن فهم هذه الميم، وحيرتهم المتكرّرة كلما صادفتهم أو سمعوها من الأصغر سناً، وكأنه يضعهم خارج هذا الإيقاع المشترك، ويُقصيهم رمزياً إلى شريحة اجتماعية أخرى.
“العبثية”… مجدّداً؟
تصف معظم المواد المتداولة على الإنترنت فكاهة جيلَيْ زد وألفا بأنها تقوم على اللامعقول، والمزاح الأخرق، والالتواء المقصود.
كما أن حتى شكلها في الغالب لا يتبع معايير جمالية كتلك التي اعتدنا عليها في العقد الماضي على الإنترنت.
فهي غير متناسقة ومصممة بشكل عشوائي حيث تظهر التعديلات فوق بعضها من دون أي احترافية، في إبرازٍ مقصودٍ للفوضوية والرثاثة.
ما يجعل البعض يصف هذا النمط من الكوميديا بـ”العبثية”.
ويعزو البعض، هذا الميل المتزايد للعبث إلى السياق الأوسع الذي نشأ فيه هذان الجيلان: عالم يوحي باستمرار بأنه على شفا الانهيار، أزمات كبرى متلاحقة، شروط اقتصادية قاسية تزداد سوءاً، وصولاً إلى العنف اليومي والأزمات المناخية.
أمام واقع قاتم كهذا، تأتي العبثية كحيلة دفاعية فعّالة للتعامل مع عالم يبدو عبثياً بدوره، أو على الأقل عالماً لا يقدّم دائماً تفسيرات منطقية لما يحدث فيه، ولا يتيح لنا غالباً القدرة على السيطرة عليه.
غير أنّ العبثية ليست حكراً على فكاهة هذين الجيلين، وارتباطها بالكوميديا وبما يثير الضحك عموماً يعود إلى تاريخ طويل.
في مقالٍ بعنوان “فكاهة جيل زد والعبث: توصيف مُضلِل”، تشير الصحافية الأمريكية كارولين جير، إلى أنّ اختزال فكاهة جيل زد في العبثية وحدها توصيف قاصر، لأنه يغفل السياقين التكنولوجي والاجتماعي اللذين أسهما في تشكيلها.
فهذه الفكاهة لا تتحدّد بعامل العمر بقدر ما تتكوّن داخل بيئات خوارزمية، ولا سيما عبر منصات مثل تيك توك، حيث تتراكم النكات وتتطوّر عبر طبقات متزايدة من الإحالات الصوتية والبصرية والثقافية.
وتضيف أنّ هذا الطابع الخوارزمي يجعل من الفكاهة تجربة جماعية من جهة، ومُجزّأة ومغلقة من جهة أخرى، إذ تكون مفهومة داخل جماعات رقمية محدّدة، وغير مقروءة لمن هم خارجها.
حين يصبح المعنى عبئاً
ولا يمكن فهم هذا النوع من الفكاهة – الذي يشمل أيضاً ما يُعرف بـ”الشِت بوستينغ” وهو شكل من أشكال الفكاهة الرقمية التي تتعمّد الرداءة واللامعنى بغية الإضحاك – إلا بوضعه ضمن الحالة الثقافية الأوسع التي باتت تُسمّى “تعفّن الدماغ” (Brain rot).
وهو مصطلح وُلد في الأصل كلقب ساخر يطلقه المستخدمون على محتوى يشعرون أنه “يفرغ الدماغ”، قبل أن يتحوّل إلى توصيف شائع لحالة ذهنية وثقافية مرتبطة بالاستهلاك المكثّف والمتواصل للمحتوى الرقمي، ولا سيما لدى جيلَيْ زد وألفا – الديجتيال نيتفز – أي الأجيال التي لم تعرف العالم قبل الإنترنت.
إلى درجة أنّ قاموس أوكسفورد اختاره كلمة العام لعام 2024.
في هذا السياق، لا يعود للتماسك أو الوضوح قيمة كبيرة، بينما تصبح العشوائية، والغرابة، وعدم القابلية للفهم عناصر جاذبة بحدّ ذاتها ومناسبة للتعامل مع هذا الإيقاع المحموم.
وتؤدّي الخوارزميات، ولا سيما على منصّات مثل تيك توك، دوراً حاسماً في هذا التحوّل. فهي لا تكتفي بتسريع انتشار المحتوى، بل تسرّع أيضاً نضوجه وموته.
وعلى وقْع التحفّز الفائق طيلة الوقت وتقلّص مدى الانتباه (أظهرت تقارير عدة منها دراسة على طلاب في كاليفورنيا العام الماضي أن 89 في المئة منهم يشاهدون مقاطع الفيديوهات مُسرَّعة مرتين)، يصبح البحث عن معنى أو دلالة واضحة، عبئاً بدوره، يُفضَّل التخفّفُ منه للانسجام مع سرعةِ ولحظيةِ التدفق المستمرّ.
“سيّئ إلى درجة يبدو فيها أنه جيّد”
جزء أساسي من فكاهة جيلَيْ زد وألفا اليوم يقوم على اعترافٍ مسبق بالحرج: أنا أعرف أنّ هذا “كرينج” (أي محرِج أو يثير شعور الخجل بالإنابة)، ومع ذلك أشارك فيه.
بل إنّ هذا الوعي نفسه يتحوّل إلى مصدر للمتعة؛ فالمحتوى لا يُستهلك رغم كونه محرجاً، بل بسبب كونه كذلك.
وكأنّ الاعتراف بسوء النكتة، أو رداءة الفيديو، أو تفاهة الترند، يمنح صاحبه حصانة استباقية من النقد.
من هنا، يشيع بين “أبناء العصر الرقمي” استخدام عبارة “سيّئ إلى درجة يبدو فيها أنّه جيّد” لوصف محتوى بعينه.
وهي عبارة باتت توصيفاً واعياً لطريقة جديدة في التفاعل مع المحتوى الرقمي.
فعندما تُستخدم في التعليق على ترند مثل “6 – 7″، فهي لا تنكر تفاهته ولا تسعى إلى تبريرها، بل تعترف بها سلفاً، ثم تُحوّل هذا الاعتراف نفسه إلى سبب للمشاركة. هنا يصبح السوء جزءاً من اللعبة، لا خللاً فيها.
يتقاطع هذا المنطق مع سمة “الفكاهة الواعية بذاتها” أو الميتا-فكاهة، التي يعدّها كثيرون سمة أساسية أخرى لفكاهة هذين الجيلين.
إذ يصبح من الصعب، بل من المستحيل أحياناً، التمييز بين السخرية والمشاركة الجدية: هل يُنتَج الفيديو ليُضحِك، أم ليُحرِج، أم ليسخر من فكرة الإضحاك نفسها؟
هذا الالتباس هو أيضاً ما يجعل هذا النوع من المحتوى قابلاً للانتشار، ما يُؤكّد مرة أخرى المنطق السائد في الثقافة الرقمية المعاصرة: الحضور أهم من القيمة، والمشاركة أهم من المعنى – ضمن اقتصاد الانتباه الأوسع الذي يعيد تعريف العلاقات والتفاعلات على المنصّات الاجتماعية.
- هل يمكن لأي شخص أن يصبح مؤثراً على وسائل التواصل الاجتماعي؟
- كيف يمكنني تسلية طفلي في الإجازة بدون أعباء مالية إضافية؟
- ما مصير “تيك توك” في الولايات المتحدة مع إحكام الغموض على آفاق الصفقة؟
- “العالم أصبح أضيق” أطفال أستراليون يردون على قرار الحكومة منعهم من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي
- جيل زد في المغرب: هل انتهت موجة الغضب؟
🛈 تنويه: موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً أو مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.