BBC

الموت مقابل الغذاء: عن إطلاق النار على الشاب عبد الله ونظام المساعدات القاتل في غزة #عاجل

عبد الله، 19 ربيعاً، قُتل برصاص الجيش الإسرائيلي قُرب مركز لتوزيع المساعدات في غزة الشهر الماضي
BBC
عبد الله، 19 ربيعاً، قُتل برصاص الجيش الإسرائيلي قُرب مركز لتوزيع المساعدات في غزة الشهر الماضي

ضياء، ربُّ أُسرة في منتصف العُمر، يعيش في أحد مخيمات اللجوء وسط غزة، وهو مضيافٌ يرحّب بزائريه، ومع ذلك يمكن لهؤلاء الزائرين أنْ يلحظوا أحزانه.

“تفضّلْ بالدخول، هذه غرفة عبد الله”.

كان عبد الله، أكبر أبناء ضياء، في الـ 19 من عمره، وفي الثاني من أغسطس/آب أُطلق عليه الرصاص فسقط قتيلاً، بينما كان ينتظر أنْ يفتح أحد مراكز توزيع المساعدات أبوابَه.

وكانت هذه المراكز قد بدأتْ عملها في غزة في مايو/أيار الماضي، تحت إدارة “مؤسسة غزة الإنسانية” التي أنشأتها إسرائيل والولايات المتحدة، فيما تضطلع بحمايتها عناصر من الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع قُدامى محاربين أمريكيين.

وفي غرفة عبد الله الفارغة، احتضن ضياء حقيبة ابنه المدرسية، قائلا: “ابني الغالي. رائحته لا تزال على الحقيبة. ليرحمك الله يا بُنيّ ويغفر لك ويقبلك في أعلى علّيين”.

ويلقي ضياء باللوم على نفسه، قائلاً: “قال لي عبد الله ليلتها، ‘إنني أريد الذهاب’، فقلت له ‘بالله عليك، لا أريدك أن تذهب غداً، رجاءً لا تفعل’، فردّ قائلا: ‘إنْ شاء الله سيكون كل شيء على ما يُرام يا أبي'”.

“يا له من شعور مروّع، أحِسّ كما لو كنت أنا مَن قتل ابني، كما لو كنت أنا مَن أرسله لحتْفه”.

“لكننا كُنّا في حاجة إلى المساعدات. لقد ضحّيتُ بابني الأكبر في سبيل إطعام إخوته وأبيه وأُمّه”.

 ضياء وهو يحمل بين بيديه حقيبة ابنه المدرسية
BBC
“ضحّيتُ بابني الأكبر في سبيل إطعام العائلة”، هكذا كان يقول ضياء وهو يحمل بين بيديه حقيبة ابنه المدرسية

وتحاصر المجاعة قطاع غزة؛ حيث تمنع إسرائيل دخول الغذاء وغيره من المساعدات الحيوية.

المرّة الوحيدة التي تمكّنتْ فيها الوكالات من إدخال ما يكفي من المساعدات كانت إبان وقف إطلاق النار الذي بدأ في 19 يناير/كانون الثاني هذا العام.

ثم توقف دخول المساعدات الكافية بشكل مفاجئ، عندما فرضتْ إسرائيل حصاراً كاملا على القطاع يوم الثاني من مارس/آذار، ثم بعد ذلك بأسبوعين عندما عادت إلى الحرب.

وفي أغسطس/آب الماضي، قالت لجنة التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (آي بيه سي) إن المجاعة قد ضربتْ بالفعل مدينة غزة.

لكنْ من جهته، ينفي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وجود مجاعة في غزة، مُكذّباً الدليل الدامغ الذي قدّمتْه لجنة آي بيه سي – رغم ما تحظى به المؤسسة من احترام عالميّ وما تشتهر به من حيادية وما تتمتع به من خبرة.

ويقول نتنياهو إنّ إسرائيل ليست مسؤولة عن أي عجز أو نقص”.

وألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي باللائمة على ما قال إنه فشلٌ من جانب الوكالات الأممية في غزة، ولطالما اتّهم نتنياهو الأمم المتحدة بالتقاعس عن التصدّي “للسرقات الممنهجة للغذاء” بأيدي حماس.

لكنّ الأمم المتحدة تُنكر دعاوى نتنياهو، قائلة إنّ شحنات المساعدات تكون مُشفّرة ومرصودة، كما أنّ نتنياهو لم يتقدّم أبداً بأي دليل على دعاوى السرقة الممنهجة، رغم الطلبات المتكررة بذلك من جانب الأمم المتحدة.

وتركتْ المجاعة الفلسطينيين، وكثير منهم من الشباب مثل عبد الله، على استعداد للمخاطرة بأرواحهم عند مراكز توزيع المساعدات التي تديرها “مؤسسة غزة الإنسانية”، للحصول على غذاء.

ومضى نحو سنتين على قيام حركة حماس بقتل 1,195 شخصاً في جنوب إسرائيل واختطاف 251 رهينة. ولا يزال في غزة 48 رهينة إسرائيلية، بينهم نحو 20 يُعتقد أنهم لا يزالون أحياء.

وتعتبر عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكبر كابوس شهدتْه إسرائيل منذ إعلان دولتها في 1948.

ثم جاء ردّ إسرائيل بأكبر كابوس شهده الفلسطينيون في ذلك التاريخ الممتد لنحو ثمانية عقود.

ويواصل الإسرائيليون القول إنهم إنما يدافعون عن أنفسهم في قطاع غزة – ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي تحوّل إلى خرائب، كما شهد مقتل ما لا يقل عن 65 ألف شخص، بينهم أكثر من 18 ألف طفل، بنيران الجيش الإسرائيلي.

وتنكر إسرائيل هذه الأرقام، لكنها بشكل عام تعتبر مقبولة لدى المنظمات الدولية.

وكان عبد الله شاباً ذكياً، وتقول مُفكّرة على مكتبه إنه كان يستهدف الحصول على نسبة 95 في المئة في الامتحانات. وبمطالعة عدد من صوره الفوتوغرافية، فإن عبد الله كان أنيق الهندام حسَن المظهر بَسّام المُحيّا.

ولا بُد أنه كان يرى مستقبلاً ينتظره، حتى في غزة، التي كانت الحرب قد جعلتْ الحياة فيها أصعب حتى مما كانت عليه من قبل. أمّا الآن، فإن أهلها يناضلون من أجل البقاء على قيد الحياة في ظلّ الهجمات الإسرائيلية والمجاعة.

شكل توضيحي
BBC

يحكي معاذ، جار عبد الله وصديقه منذ الطفولة، ما حدث يوم مقتل الأخير، قائلا إنهما ذهبا إلى مركز توزيع المساعدات رقم 4، المركز الوحيد في وسط غزة، ملتزمَين بتعليمات الجنود الإسرائيليين فيما يتعلق بالمسار الصحيح للحصول على المساعدات.

ومن أجل ضمان الحصول على مساعدات، يرى العديد من الفلسطينيين أنْ يبكّروا بالذهاب إلى مراكز التوزيع قبل بزوغ الفجر بوقت طويل. ورأى الصديقان معاذ وعبد الله أن ينتظرا قرب مبنى متهدّم على مسافة تقلّ عن 500 متر من مركز توزيع المساعدات.

ثم قال عبد الله إنه بحاجة إلى قضاء حاجته، فابتعد عن صديقه نحو 30 متراً، وهنالك أُطلق عليه الرصاص وسقط قتيلا.

يقول معاذ إنه هرول رغم كثافة نيران الرصاص للوصول إلى صديقه الذي ظلّ على قيد الحياة حوالي عشر دقائق قبل أن يلفظ أنفاسه.

وفي حديثه لبي بي سي، يؤكد الوالد المكلوم ضياء، كم هو صعبٌ البقاءُ على قيد الحياة في غزة!

يقول ضياء: “في غزة، نحن أناس مسالمون. عبد الله كان شاباً بين شباب كثيرين. رحمه الله. لم يُمهله القدر لتحقيق أيّ من أحلامه”.

وقد توجّهنا إلى الجيش الإسرائيلي بالاستفسار بشكل محدَّد عن مقتل عبد الله، فلم يأتنا جواب، لكنهم أخبرونا بأنهم “لا يتعمّدون إطلاق النار على أبرياء مدنيين”، كما قال محامو مؤسسة غزة الإنسانية إنّ عناصر الأمن المتعاقدين مع المنظمة لا يتعمدون إطلاق النار على أبرياء كذلك.

وقال هؤلاء إنهم لا عِلم لديهم حتى ولو بحالة واحدة موثقة توثيقاً مُعتمداً يدلّ على وقوع مثل تلك الحوادث– مؤكدين أنّ أحداً البتّة لم يُطلق عليه الرصاص عند أيّ مركز لتوزيع المساعدات في غزة، ولا حتى في نطاق أي من تلك المراكز.

قصة عبد الله يحكيها الفيلم الذي عرضناه للتوّ، تحت عنوان “غزة: الموت مقابل الغذاء” من إنتاج بي بي سي.

وهو تحقيق صحفي عن الجوع في غزة، والقتل عند مراكز توزيع المساعدات الغذائية التي تديرها مؤسسة غزة الإنسانية.

ويصوّر هذا الفيلم جانباً واحداً من جوانب المأساة الإنسانية في غزة.

ولقد وثّقْنا كيف أنّ كثيراً من الفلسطينيين يُقتلون في طريقهم للحصول على مساعدات. إنها مادة جديرة بفيلم تليفزيوني مدّته نصف ساعة، أما التناوُل الشامل من جميع الزوايا فيحتاج إلى سلسلة.

ولقد واجهنا في سبيل إنتاج هذا الفيلم صعوبات جمّة؛ فإسرائيل لا تسمح لبي بي سي ولا لغيرها من المؤسسات الصحفية بإرسال فِرَق إلى غزة لتغطية ما تشهده من أحداث بُحريّة.

ولقد قام الصحفيون الفلسطينيون بعمل بطوليّ؛ فبدونهم لم نُكن لنعرف الكثير مما حدث في القطاع طوال العامين الماضيين.

وتقول إحصاءات الأمم المتحدة إنّ ما لا يقل عن 248 صحفياً فلسطينياً قُتلوا بنيران الجيش الإسرائيلي.

وفي فيلم “الموت مقابل الغذاء”، كنت أنا المراسل الصحفي، والواجهة لفريق كبير من الصحفيين. وكنت أنا مَن كتب الحوار، لكنّني لم أحاور ضياء أو معاذ حول مقتل عبد الله.

ولم أكن حاضراً عند تصوير مشهد الموت ولا مشاهد المستشفى، إنما كان بإمكاني التحدث إلى الضيوف الذين جرت محاوراتهم والذين لم يكونوا في غزة، سواء كان حديثي معهم هذا وجهاً لوجه أو عبر تقنية الفيديو.

وليست هذه هي الطريقة المُثلى للصحفيين، سواء في البي بي سي أو في أيّ مؤسسة أخرى.

توفيق عمر، جرّاح أوعية دموية مصري
BBC
توفيق عمر، جرّاح أوعية دموية مصري يعمل في هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، عاد من غزة يقول إن المستشفيات هناك مليئة بأشخاص أُطلق عليهم الرصاص قُرب مراكز لتوزيع المساعدات

يستحيل على مراسل أجنبي أن يغطّي الحرب في غزة على هذا النحو؛ فإسرائيل تحاصر القطاع بقوة. ولا يسمح الجيش الإسرائيلي سوى بزيارات قصيرة وتحت إشراف مكثّف لبعض الفِرق الصحفية.

ولقد قمتُ بزيارة واحدة، استغرقتْ ما بين ثلاث وأربع ساعات في الشهر الأول من الحرب، وقد أتاحت لي تلك الزيارة معاينة الدمار بشكل مباشر، والتحدّث إلى الجنود وجهاً لوجه.

قال لي ضابط إسرائيلي إنهم يعملون جاهدين لتأمين حياة غير المقاتلين، ولكنْ حتى في الأسابيع الأولى من الحرب، كانت إسرائيل تواجه اتهامات بتجاهُل التزاماتها القانونية الخاصة بحماية المدنيين.

ثم توقف الضابط عن الحديث بُرهة قبل أن يستأنف قائلاً إن الفلسطينيين كلهم مذنبون، وليس عناصر حماس وحدهم، ولو لم يكن الفلسطينيون مذنبين لوجدوا طريقاً للإطاحة بحماس.

وللتحايل على الحظر الذي تفرضه إسرائيل على دخولنا لغزة، رأينا أن نكلّف صحفيين محليين مستقلين ممن لا يزال بإمكانهم التحرك على الأرض.

وأجرى معهم فريقنا حوارات مطوّلة عن أماكن تصوير الفيلم، والمرشحين للمحاورة، وكذلك أسئلة الحوار.

وعن بُعد، وجّه صحفيو بي بي سي تلك الفِرَق التي اعتمدنا عليها في غزة. وقمنا بمراجعة المادة التي وصلتْنا وتحقّقنا منها ومن الأرقام الواردة في مقاطع الفيديو والتي تُظهر متى وأين تم تصويرها.

وكما أنّ مجرد التواصل مع أشخاص في غزة هو أمرٌ صعب، فإن الاتصالات الرقمية تواجه تقطّعاً؛ وقد استغرق مجرّد إرسال قصة عبد الله إلى لندن بعد تصويرها عدّة أيام.

ولأن إسرائيل قصفت شبكات الهواتف المحمولة ومراكز الإنترنت في القطاع، فقد أصبح الاتصال بغزة ضعيفاً أو غير موجود على الإطلاق، كما أنّ العدوان الإسرائيلي الراهن في غزة جعل الحركة أكثر صعوبة وخطورة.

وقد تقدّمنا بطلب للحصول على تصريح بالتصوير في مراكز توزيع المساعدات التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية، لكنّ طلبنا قوبل بالرفض.

وبالطبع ليست التغطية الصحفية عن بُعد هي الطريقة التي نرغب في العمل بها، لكنْ في ظل القيود التي تفرضها إسرائيل، نعتقد أن هذا هو أقصى ما في الإمكان لكي ننقل للعالم كيف ينجو الغزيّون وكيف يُقتلون في ظل هذه الحرب.

ريم  في خيمة بمدينة غزة بعد النزوح للمرّة الخامسة
BBC
ريم مع طفليها في خيمة بمدينة غزة بعد النزوح للمرّة الخامسة

وكما تحدّثنا إلى والد عبد الله المكلوم وإلى صديقه معاذ الذي شهد أنفاسه الأخيرة، فقد تحدّثنا أيضاً إلى ريم، وهي أُمٌّ تصارع من أجل تأمين غذاء لطفليها الجائعَين، بعد أن قُتل زوجها بينما كان يبحث أيضا عن غذاء في بداية الحرب.

وفي فيلم “الموت مقابل الغذاء”، أجرينا حواراً مع ريم في خيمة بمدينة غزة، ولم نتمكن من التواصل معها الأسبوع الماضي، وربما نزحت بطفليها إلى الجنوب هرباً من العملية العسكرية التي شرعت فيها إسرائيل للاستيلاء على المنطقة.

وإذا كان ذلك صحيحاً، فستكون هذه هي المرّة السادسة التي تنزح فيها ريم منذ بدء الحرب. وجدير بالذِكر أنّ معظم الغزيين، البالغ تعدادهم أكثر من مليونَي نسمة، عرفوا النزوح مرّات ومرّات.

يُعدّ التحدّث إلى شهود من بين طُرق الحصول على معلومات في ظل تعذُّر الوجود الشخصي في المكان.

لقد تحدّثتُ إلى طبيب في هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية كان عائداً للتوّ من غزة، ويُدعى توفيق عمر، وهو جرّاح أوعية دموية في مدينة كوفنتري غربي إنجلترا.

وتوفيق بالأساس من مصر، وقد تحدّث كثيراً إلى المرضى وإلى عائلاتهم في غزة.

وقد عاين الجرّاح المصري كثيراً من الدماء في غزة على نحو صادِم في مستشفيات تعجّ بالقتلى وبمَن هم على شفير الموت بعد أنْ تلقّوا رصاصات قُرب مراكز توزيع المساعدات بدلاً من أن يتلقّوا الغذاء.

يقول دكتور توفيق: “كان الناس المحليون يصلون إلى المستشفى قادمين من مراكز توزيع المساعدات التي تديرها مؤسسة غزة الإنسانية، ويقولون بوضوح إن بإمكاننا أن نشاهد عناصر الأمن التابعين للمنظمة أو عناصر تابعين للجيش الإسرائيلي وهم يطلقون الرصاص بشلك مباشر على الحشود”.

وسجّل فيلم “الموت مقابل الغذاء” شهادة اثنين من المُبلّغين عن خروقات، طلبا عدم الكشف عن هويّتهما لدواعٍ أمنية. أحدهما أطلقنا عليه اسم “جون” وهو سائق شاحنة تعمل لصالح مؤسسة غزة الإنسانية.

وثمة ثلاثة مراكز توزيع للمساعدات تابعة لمؤسسة غزة الإنسانية، مقارنة بـ 400 كانت قائمة تحت الأمم المتحدة في السابق.

وقال جون إنهم شعروا وكأنهم في قواعد عسكرية على الجبهة، لا في أماكن لتوزيع المساعدات الإنسانية للمحتاجين إليها.

ونبّه جون إلى أنه في كل ليلة قام فيها بعمله، كان هناك إطلاق نار كثيف.

ولقد صُدم جون مما رآه، حتى أنه سجّل خلسةً مقاطع فيديو باستخدام هاتفه المحمول.

وقد استعنّا بمقاطع الفيديو التي حصلنا عليها من جون، للوقوف على النسَق الذي اتّبعه الجيش الإسرائيلي في إطلاق الرصاص الحيّ على الحشود للسيطرة عليهم، وهو تكنيك في جوهرهِ قاتل.

وفي يوم مقتل أكثر من 20 شخصا قُرب مركز توزيع المساعدات الوحيد في وسط غزة، كان بإمكاننا استخدام مقطع فيديو التقطه جون في تلك الليلة للمساعدة في الوقوف على حقيقة ما حدث.

وأظهر الفيديو إطلاق نار كثيف من جهة تمركز لعناصر تابعة للجيش الإسرائيلي من خلف المركز رقم 4. وكان الرصاص يتجه حيث يحتشد آلاف الجوعى قُرب جسرٍ فوق نهرٍ جاف يؤدي إلى مدخل مركز توزيع المساعدات.

وإذْ لم نكن في غزة بأنفسنا، فإنّ فريقنا عكف على تحليل الفيديوهات التي التقطها جون بهاتفه المحمول (وفيديوهات أخرى كثيرة) باستخدام أسلوب الاستخبارات مفتوحة المصدر.

كما تحدثْنا إلى خمسة من خبراء المقذوفات، فضلاً عن الاستعانة ببرمجيات لتحليل صوت إطلاق الرصاص في مقاطع الفيديو، للمساعدة في تحديد مسار الرصاص.

أيضاً عمدنا إلى استخدام صور التقطتها الأقمار الاصطناعية، والتي لم تعُد حِكراً على الأجهزة الاستخباراتية، وقُمنا بمقارنة التفاصيل التي أظهرتها تلك الصور مع الفيديوهات.

وتعتبر الصور الملتقطة بالأقمار الاصطناعية قيّمة في قطاع غزة الذي يشاطئ البحر المتوسط على طول 40 كيلومتراً تكاد تخلو سماؤها من السُحب.

ومن المعلوم أن مقاطع الفيديو التي تُصوَّر بالهواتف المحمولة، تحمل تسجيلا رقمياً للتوقيت والمكان الذي التُقطتْ فيه.

أما البيانات الخاصة بأعداد القتلى عند مراكز توزيع المساعدات التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية فتأتي من منظمة أكليد المتخصصة في مراقبة الصراعات، وهي معنية بجمع وتحليل البيانات الواردة من مناطق الصراع بتمويل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول أوروبية بينها المملكة المتحدة.

ووفقاً لبيانات أكليد، منذ بدأت مؤسسة غزة الإنسانية أعمالها، فإن ما لا يقل عن 1,300 فلسطيني قُتلوا في مراكز توزيع المساعدات أو في نطاقها، بنيران الجيش الإسرائيلي في معظم الحالات.

وكان متوسط عدد الفلسطينيين الذين يسقطون قتلى في أثناء السعي للحصول على مساعدات في أنحاء غزة شهرياً 30 شخصاً، خلال العام السابق لوصول مؤسسة غزة الإنسانية، لكنّ العدد تزايد منذ بدأت المنظمة عملياتها ليصل إلى 500 قتيل شهرياً.

ومن جهته، ينكر الجيش الإسرائيلي سقوط قتلى في هذا الصدد، قائلا لبي بي سي، إنه “لا عِلم لديه بمئات الوفيات على أيدي عناصره في مراكز التوزيع”.

ويطعن الجيش الإسرائيلي في صحّة هذه الأرقام، واصفاً إياها بالـ “مُبالغ فيها والكاذبة”.

ثمة ثلاثة مراكز لتوزيع المساعدات التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية في غزة – مقارنة بـ 400 في السابق كانت تابعة للأمم المتحدة
Reuters

المُبلّغ الثاني عن الخروقات التي تحدثنا معه لصالح فيلم “الموت مقابل الغذاء” كان جندياً في الجيش الإسرائيلي، وقد طلب أيضاً عدم الكشف عن هويته.

وقد أطلقنا عليه اسم “ميخائيل”، وقد أعرب ميخائيل عن صدمته حيال ما رأى من اليأس والجوع في غزة.

يقول ميخائيل: “يصعُب استيعاب مستوى التردّي الذي دفعنا إليه أناساً عاديين حتى وصلوا إلى تلك الدرجة من الجوع والصراع في سبيل الحصول على طعام”.

ونبّه الجندي الإسرائيلي إلى أنهم كانوا قد تلقوا أوامر بإصدار طلقات تحذيرية لإبعاد الحشود، وقد فتحوا النار عندما عبرت حشود خطوطاً وهمية في المنطقة، لافتاً إلى أن هذه الخطوط لم يتم الاتفاق عليها مع الفلسطينيين.

يوضّح ميخائيل: “ثمة خط أخضر، ثم خط أحمر. عند عبور الخط الأخضر تكون الطلقات التحذيرية؛ بحيث يُفهم أنه يجب التقهقر للخلف. أما عند عبور الخط الأحمر، فإن الأمر يكون في غاية الخطورة، ما يستلزم استخدام القوة المميتة”.

يقول ميخائيل: “إذا لم تستمع حشود الفلسطينيين لصوت الطلقات التحذيرية، فسوف تبدأ في الركض باتجاهنا، وعندئذ يتعين علينا أن نقرر ماذا سنفعل إزاء ألف شخص في طريقهم للقاعدة”.

ويذكر ميخائيل أن تلك اللحظات كانت تثير قلق الجنود الإسرائيليين الذين كانوا معه في نفس الوحدة كثيراً.

وقال ميخائيل إن عمليات مؤسسة غزة الإنسانية لتوزيع المساعدات كانت تعمّها الفوضى وسوء التنظيم.

ولقد توجّهنا إلى الجيش الإسرائيلي بأسئلة بخصوص الخطوط الوهمية الخضراء والحمراء كما ورد في شهادة ميخائيل، لكننا أيضاً لم نتلقَ أي جواب.

مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك
BBC
مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك يقول إنه من المُهمّ للغاية مثول الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية للمساءلة القانونية

تحدث إلينا فولكر تورك، مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان.

وقال تورك: “لدينا دليل دامغ على مقتل مئات الأشخاص بينما كانوا يحاولون الوصول إلى تلك المراكز، معظمهم قُتلوا بنيران الجيش الإسرائيلي، وهو أمر لا يمكن قبوله البتّة، كما أنه يمثّل انتهاكاً شديد الخطورة، ليس للقانون الدولي الإنساني فحسب، وإنما للقانون الدولي لحقوق الإنسان كذلك”.

أضاف تورك: “مُهمّ للغاية أنْ يخضع أولئك الذين يرتكبون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية للمساءلة القانونية”.

من جهتها، تنكر إسرائيل كل التُهم المتعلقة بجرائم الحرب، وتقول إنها قائمة على أساس من معاداة السامية.

وقد رفض السفير الإسرائيلي في لندن أن يجري حواراً معنا، وبدَورِها وجّهتْنا السفارة الإسرائيلية إلى الجيش الإسرائيلي، لكن الأخير رفض التحاور معنا أيضاً.

** جرى الحوار مع تورك عبر رابط من مكتبه في جينيف، بينما أجريتُ الحوار مباشرة وجهاً لوجه مع جون (المُبلّغ الأول عن الخروقات)، أمّا المبلّغ الثاني ميخائيل فقد أجري الحوار معه عن بُعد.

الموت مقابل الغذاء: عن إطلاق النار على الشاب عبد الله ونظام المساعدات القاتل في غزة #عاجل

BBC Arabic

🛈 تنويه: موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً أو مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Back to top button